كيف يرجو عقل سليم ومنطقي أن يقود،
بنجاح، الجماهير بالمعقول والحجج، إذا كان الطريق مفتوحاً للمعارضات حتى
غير المعقولة وكلها تغدو أكثر جاذبية للجماهير التي تكون عقولها دوماً
سطحية؟ إن الشعب سواءً أكان من العامة أو من غير العامة فإنه ينقاد دوماً
بعواطف متقلبة وبالخرافات والتقاليد والعادات، وبالنظريات العاطفية ويتمسك
بالاختلافات الحزبية التي تقضي على كل إمكانية للاتفاق حتى ولو كانت فكرة
التفاهم قائمة على منتهى العقلانية.
إن كل قرار تتخذه العامة من الناس
يتوقف تنفيذه على أكثرية عفوية أو مهيأة مسبقاً، وبسبب جهل الجماهير
بالأسرار السياسية يكون قرارها أخرق، مما يؤدي الى دخول بذور الفوضى في
النظام الحكومي.
لا علاقة للسياسة بالأخلاق قط، وإن
الحكومة التي تسير بالأخلاق ليست حكومة رجال خبرة سياسية وبالتالي فإنها
ليست مكينة في مقاعدها. إن الذي يريد أن يحكم عليه أن يعتمد على الخداع
والمكر، وإن الاستقامة والصراحة، اللتين هما فضيلتين شعبيتين، تصبحان
نقيصتين في السياسة، لأنهما أشد فتكاً في الكيان الحكومي من أقوى الأعداء.
إن هذه الفضائل يجب أن تكون خاصة ببلاد الكوييم، ولكن يجب ألا نتخذها نحن
مثالاً يحتذى متذرعين بأي عذر من الأعذار.
إن حقنا يكمن في قوتنا. إن كلممة (حق)
فكرة مبهمة لا يمكن تجسيدها. إن هذه الكلمة لا تعني شيئاً إلا: أعطني ما
أريد لكي أبرهن لك أني أقوى منك.
أين يبدأ الحق؟ وأين ينتهي؟ في الدولة
التي تكون حكومتها ضعيفة التنظيم والقوانين فيها قليلة التطبيق والحاكم قد
أضاع هيبته بسبب إغراقه باتباع الحقوق الليبرالية، فإن صاحب الحق هو الذي
يملك القوة الكافية لتدمير كل المؤسسات، وكل نظام قائم، ويسيطر على
القانون ويغير كل المؤسسات ويصبح حاكماً على أولئك الذين تنازلوا لصالحنا،
بملء إرادتهم وبليبرالية، عن الحقوق التي كانت لهم، فهو صاحب الحق.
وبسبب عدم الاستقرار الحاضر لكل
السلطات فإن قوتنا تكون أقل عرضة من غيرها لأنها ستظل مختفية عن الأنظار
حتى تتمكن جذورها وحتى لا تستطيع قوة التغلب عليها.
ومن الشر المؤقت الذي نسعى اليه،
مكرهين، سوف تنبثق حكومة خيِّرة ثابتة الأركان لا تتزعزع تعيد سير آلية
الشعب، الذي أوقفته الليبرالية مؤقتاً الى سيرها الطبيعي، والغاية تبرر
الواسطة. وفي الوقت الذي نرسم فيه مخططنا علينا ألا نُعير اهتماماً لما هو
حسن وأخلاقي بل لما هو ضروري ومفيد. أمامنا مشروع يرسم لنا الاستراتيجية
التي يجب ألا نحيد عنها لكي لا نضيع ثمرات جهود قرون.
وعندما ندرس مخططاً عملياً علينا أن
نأخذ بعين الاعتبار حقارة وتضعضع العامة وتلوّنهم، كما نأخذ بعين الاعتبار
عدم قدرتهم على تقدير ما هو صالح واحترام شروط الحياة الحسنة. ويجب أن
يكون معلوماً أن قوة الجماهير عمياء، مندفعة، محرومة من المحاكمة السليمة،
ميالة الى الانقياد من جهة الى جهة، إن الأعمى لا يستطيع أن يقود أعمى من
غير خطر السقوط في الهاوية، وبالتالي فإن أفراد الجماهير المنبثقين من
الشعب حتى ولو كانوا عباقرة ولكنهم غير ضليعين بالسياسة، فإنهم لا
يستطيعون أن يدعوا أنهم قادرون على قيادة الجماهير من غير أن يقودوا الوطن
كله الى الخراب. إن الشخص المهيأ، منذ الطفولة، للحكم الاستبدادي يستطيع
وحده أن يفهم مغزى الأسرار السياسية. إن الشعوب التي تستسلم لنفسها، أي
لأناس ينبثقون منها، يندثرون بسبب المنازعات الحزبية الناشئة عن التعطش
الى السلطة والى الجاه وما ينتج عن ذلك من فوضى. هل تستطيع الجماهير أن
تدير أمور الدولة من غير أن يتخلل ذلك التنافس والمصالح الشخصية؟ وهل
يستطيعون أن يحموا أنفسهم من الأعداء الخارجيين؟ إن هذا غير مستطاع لأن
برنامجاً تتنازعه أحزاب كثيرة، ذات مفاهيم متعددة، يفقد وحدته ويغدو غير
مفهوم وغير قابل للتطبيق.
إن الحاكم المستبد وحده يستطيع أن يرسم
مخططات بسيطة واضحة قادرة على تنسيق جميع أفراد الآلة الحكومية، ومن هذا
يبدو أن أفضل حكومة نافعة للبلاد يجب أن تكون متمركزة بين يدي شخص واحد
مسؤول. إن المدنية لا يمكن أن توجد بغير استبداد تام لأن الحكومة لا تساس
بالجماهير بل بزعيمهم كائناً من يكون. إن الشعب البربري يظهر بربريته في
كل مناسبة، وحينما تحصل العامة على الحرية تحولها فوراً الى الفوضى التي
هي منتهى البربرية.
انظروا الى هذه الحيوانات المشبعة
بالكحول، المخدرة بالخمر الذي سمحت لها الحرية باستعماله استعمالاً لا
حدود له. إنكم، ولا شك، لا ترضون أن تربوا شعبنا مثل هذه التربية. إن
الكوييم مخبولون باستعمال الكحول، وشبانهم ينزلقون نحو البلادة الفكرية
بسبب استغراقهم في الدراسات الكلاسيكية، وبسبب السيئات التي اقتيدوا اليها
على أيدي عملائنا من معلمين وخدم ومربيات في بيوت الأغنياء، وعلى أيدي
الموظفين وغيرهم، وبالتالي على أيدي نسائنا في محال لهو الكوييم، ومن بين
هؤلاء الأخيرات أذكر ما يسمى "بسيدات المجتمع"، ومثيلاتهن الراغبات في
الفساد والترف وشعارنا هو القوة والمكر، والقوة وحدها هي التي تستطيع أن
تتغلب في السياسة، لا سيما إذا كانت مخفية وراء المواهب اللازمة لرجل
الدولة. يجب أن يكون العنف هو الأصل وأن يكون الخداع والمكر الطريقة التي
تسير عليها الحكومات التي لا تريد أن تضع تيجانها على أقدام عملاء سلطة
جديدة. إن الشر هو الوسيلة الوحيدة لبلوغ الخير، ولذا يجب علينا ألا نتردد
باستعمال الغش (الرشوة) والخيانة، إذا كنا بهما نستطيع أن نبلغ مآربنا.
إنه من الضروري في السياسة الاستيلاء على أملاك الآخرين بلا تردد إذا كنا
بهذه الوسيلة نستطيع إخضاعهم وامتلاك السلطة.
إن حكومتنا، تبعاً لضرورات الغلبة
السلمية، لها الحق بأن تحل محل فواجع الحروب إجراءات أقل ضجة وأنجع في
بلوغ الغاية، وهي الاستمرار في الشدة التي تؤدي الى الخضوع الأعمى. إن
قسوة معتدلة وغير ضعيفة هي العامل الرئيسي لقوة الحكومة، فعلينا أن نتبع
برنامج عنف ومكر، وليس لأن مصلحتنا في ذلك بل لأنه واجبنا وبفضله نحصل على
الغلبة.
إن نظاماً قائماً على الحساب ناجع مثل
نجاعة الأساليب التي تستعمل لإنجاحه، ولذا فليس بهذه الوسائل وحدها، بل
بقسوة القوانين، سوف نتغلب على كل الحكومات ونستعبدها لحكومتنا العليا.
وفي الأزمان الغابرة أيضاً كنا ننادي،
في وسط الجماهير، بكلمات الحرية والمساواة والأخوة، وهي كلمات ما زالت
الببغاوات ترددها حتى اليوم بلا انقطاع، وهي تسعى من كل ناحية الى هذا
الطعم وقد فضوا على رخاء العالم حينما قضوا على الحرية الفردية الحقيقية
التي كانت، في الماضي، محمية ضد عنف الشعب. إن الكوييم الذين يُنعتون
بأنهم مثقفون وأذكياء لم يلاحظوا هذا التضاد بين معاني هذه الكلمات
وتراكيبها، فهم لم ينتبهوا الى أن المساواة لا توجد في الطبيعة، وأنه لا
وجود للحرية لأن الطبيعة ذاتها خلقت عدم المساواة في العقول والأمزجة
والقدرات وأنها أخضعتها كلها لقانونها. إنهم لم يدركوا أن قوة الجماهير
عمياء وأن النخبة المنتخبة من بينهم، لكي تحكمهم، هي أيضاً عمياء في
السياسة مثل الجماهير ذاتها، مع العلم أن الخبير بالسياسة، ولو كان سفيهاً
(أحمق) فإنه قادر على أن يحكم بينما غير الخبير، حتى ولو كان عبقرياً،
فإنه لا يعرف شيئاً من السياسة. كل هذه الأمور لم يفهمها الكوييم.
في الماضي كانت الحكومات القائمة على
الأُسر تقوم على مبدأ تسليم الأب ابنه سر مجرى التطور السياسي بحيث أن
أفراد الأسرة وحدهم كانوا يمتلكون هذا السر، ولا يستطيع أحد إبلاغه الى
الشعب المحكوم، ومع مرور الزمن ضاع مفهوم النقل عن طريق الأسرة، وضاعت
بذلك مبادئ سياسية حقيقية مما ساعد على إنجاح قضيتنا.
إن كلمات: حرية مساواة أخوة، ساقت
الينا من كل أطراف العالم، أعداداً كبيرة من الناس انضموا الى صفوفنا بفضل
عملائنا العمي الذي يحملون لواءنا بحماسة، بينما هذه الكلمات كانت السوس
الذي ينخر في رخاء الكوييم وتهدم، في كل مكان، السلم والهدوء والتضامن
وتنسف دولهم من أساسها. وسترون، فيما سيأتي، بأن هذه الأمور قد ساعدت على
نصرتنا لأنها أتاحت لنا، بالإضافة الى امتيازات أخرى، وسيلة من الطراز
الأول وهي إلغاء الامتيازات، أو بعبارة أخرى روح الارستقراطية عند
الكوييم، التي كانت الوقاية الوحيدة للشعوب وللأحزاب ضدنا. وعلى أنقاض
الارستقراطية الطبيعية والموروثة أقمنا أرستقراطية طبقة المثقفين، أعني
أرستقراطية المال، وقد أقمنا هذه الأرستقراطية باسم أرستقراطية الثروة
التي تعتمد علينا وعلى التطور العلمي أيضاً الذي يقوم به حكماؤنا.
وهكذا فقد غدا انتصارنا أسهل بفضل
صلاتنا بأناس لا غنى لنا عنهم، وقد ضربنا دائماً على أكثر الأوتار حساسية
في ذهن الناس، ونعني بذلك البخل ورغبات الإنسان الأنانية التي لا تشبع،
وكل واحدة من هذه النقائص الإنسانية، إذا أخذناها منفصلة عن غيرها، يمكن
أن تقتل فكرة الإبداع في الإنسان وتجعل إرادته طوع من يريد أن يشتري منه
نشاطه.
إن الحرية المجردة قد استطاعت أن تقنع
الجماهير بأن الحاكم ليس إلا مشرفاً على الإدارة وممثلاً لأصحاب الأملاك
في البلاد أي الشعب، وأن هذا المدير للأعمال يمكن إقصاؤه كما يُنزع
القفازان القديمان، غير الصالحين للاستعمال، من اليدين.
وبما أن إقصاء ممثلي الشعب عن مناصبهم هو في يدنا فإن تعيينهم هو أيضاً من اختصاصنا.