الاستدعاء
القاهرة : الرابع عشر من مايو1967 عصرا
رغم الهدوء الذي لف شوارع القاهرة جراء موجه الحر الشديد الذي تتعرض له مصر ،ورغم أن جميع الشوارع قد خلت تقريبا من الماره الذين اثروا الاحتماء من قيظ الشمس والراحه في منازلهم ، الا ان منزل الحاج أحمد الشاذلي كان كخليه نحل لا تهدأ ،فلم
يكن اليوم عاديا للأسرة ، فقد عاد الابن الاصغر ، الملازم اول طيار عمر في
أجازته الاولي بعد ان تم نقله الي قاعدة العريش الجويه ، وقد أصرت الحاجه
علي أن تعد وليمه كبيرة علي شرف ابنها ((حضرة الضابط)) والذي تفتخر به كل
الفخر وسط العائله والجيران ولا يكاد حديث لها يخلو من ذكر حضرة الضابط ،
هذه الوليمه كلفت الحاج أحمد قدرا كبيرا من مرتبه المتواضع وأربكت حساباته ، لكنه في نفس الوقت وبخبرةالرجل المتزوج أيقن انه لا مجال لمعارضه رأي زوجته
في أي شئ يخص(( حضرة الضابط عمر)) وخاصه ان الحاجه تستعد لهذه الوليمه منذ
أسبوع تقريبا ، وخلال هذا الاسبوع تحولت الوليمه من مجرد غذاء فاخر لحضرة
الضابط الي عزومه كبيره تشمل أختيه الاكبر منه وأزواجهما وبالطبع لن تثتني ناديه خطيبه عمر من هذه العزومه ،وتضخمت ميزانيه الوليمه لتبتلع جنيهين كاملين من ميزانيه البيت .
ومنذ الصباح الباكر تعقد الحاجه وبنتيها مؤتمرا موسعا في المطبخ لتجهيز أصنافالمحشي الوجبه المفضله لعمر كذلك عدد من أزواج الحمام المحشي وذكر بط محترم ، بجانب اطباق الخضار والسلطه المختلفه
وصل عمر صباحا
وأستطاع انتزاع نفسه بأعجوبه من أحضان الحاجه لينال قسطا من الراحه هو في
امس الحاجه لها بعد رحله متعبه ، وتوافد وصول المدعوين خلال فترة العصر ،
فقد عاد الاب وأزواج بناته أحمد و علي من اعمالهم علي فترات متقاربه .
تلتهم في الوصول ناديه التي جذبت نظرات الاعجاب من الرجال باناقتها البالغه الغير متكلفه وجمالها الشديد الهادئ وفستانها البديع الذي كشف عن سيقانها ، الا أن نظرات الحاجه وبناتها الحاده لرجالهم حملت تهديد بعقاب شديد لاحق جعل جميع الرجال يغضون أبصارهم عن ناديه .
خرج عمر من غرفته وقد أرتدي قميصا وبنطلونا منزليا أظهرا وسامته الكامله وتناسق جسدة الرياضي الرائع
ووسط ترحيب
الرجال الحار به ومن بين أحضان والدة ، لم تتحرك عينيه من علي ناديه ، هذه
الفتاه الفائقه الحسن التي تقف علي بعد خطوات تنتظر أن ترحب به .
لم يسمع كلمات مما قاله والدة او ازواج شقيقاته ، فقد كانت أذنيه وكل حواسه متسمرة مع ناديه ،وعندما حان دورها
في الترحيب به ، وجد أمامه كل عقبات الدنيا تسد عليه وعليها الطريق في ان
يحتضنها ويطفئ لهيب شهرين من الفراق ، فتقدم خطوة منها وكادت يدة تعتصر
يدها وهي ترحب بها ، لم تفارق عينيه عينيها وهي ترحب به ،
وأشتدت حرارة
الجو بينهما من جراء المشاعر المشتعله داخل كل منهم ، وبدأت الابتسامات
ترتسم علي وجوة الرجال بينما هامت زوجاتهم في هذا المشهد الرومانسي الصامت
بين عمر وناديه، دام هذا المشهد الصامت ثوان معدودة قطعته الام بصرامه ،
تأمر أبنها بان يخرج مع خطيبته الي الشرفه حتي يتم الانتهاء من اعداد الغذاء ، أستدارت ناديه تطلب من الحاجه أن تنضم لمساعدتهم في المطبخ لكن الحاجه ردت ضاحكه ()انتي عايزة حضرة الضابط يزعل مننا النهارده ولا ايه ؟؟ لا .. انت بقالك مدة مشفتيش عمر ، وأكيد في كلام كتير عايزين تقولوة )(
خرج العاشقين الي البلكونه تاركين السيدات يجهزون الغذاء بينما اشتبك بقيه الرجال في نقاش قوي حول دوري كرة القدم .
تلاقت عيون
العشاق في البلكونه وتحدثت الالسن فترة أختفي فيها الزمن وتبدد الاحساس
بالمكان ، ورغم المسافه التي بينهما الا ان اعينهم كانت تحتضن بعضهم البعض
، وأستسلمت عقبات التقاليد والعادات في منع اروحاهم من الاجتماع .
فجأهبدد أحمد زوج شقيقه عمر الكبرى هذا الجو الرائع عندما صاح من الداخل
(( عمر- ناديه
... الغدا جهز وأحنا ميتين من الجوع ، أبقوا كملوا حب بعد الغدا )) أحمر
وجه ناديه خجلا من هذه المداعبه ، لكن يد عمر أمتدت لتمسك بيدها وقتها أحس
الاثنين بتيار كهربائي يسري في كل خلايا جسدهم مما زاد من أحمرار وجهها.
زاد أحمد من مداعباته لهم وهو يري وجه ناديه يحمر خجلا في البلكونه واردف صائحا
((والنبي مش وقته ،أحنا علي لحم بطننا من الصبح ))
همس عمر لناديه مبتسما (( يالا بينا لحسن مش هيسيبونا في حالنا ،أنا عارفهم كويس )) ،
تجمعت العائله
علي مائدة الغذاء وأحتل كل افرادها أماكنهم ، ووسط التعليقات علي هذه
الوليمه الفاخرة التي لم تحدث منذ فترة كبيرة ، ووسط هذا الجو المرح لهذه
الاسرة السعيدة ،تحول النقاش تجاة عمر وُسِئل عن العريش ، فقد كانت العريش مكانا نائيا لا يعرفه الكثير من المصريين ، وبدأ عمر في السرد عنها وعن أهلها من البدو وطبائعهم وعاداتهم الغريبه عليه
وقبل الانتهاء
من الغذاء دق جرس التليفون وقام الاب للرد عليه ، ومن فوق منضدة معلق
فوقها صورة كبيرة للرئيس جمال عبد الناصر ، رفع الاب سماعه التليفون، وصمت
قليلا مستمعا للطرف الاخر ، ثم نادي علي عمر ، فقام
عمر مسرعا تجاة التليفون والتقط السماعه من يد والدة ، كان الجميع يتحدث
علي مائدة الغذاء ما عدا الحاجه التي تسمرت عينيها علي عمر .
وضع عمر السماعه علي أذنه وبعد التعارف مع محدثه أستمع عمر لثوان وردد عبارتين
(( تمام يا فندم
– علي طول يافندم )) أدرك الجميع أن شيئا ما حدث ، فتوقف الحديث وتحول
انتباة الجميع الي عمر ، الذي وضع السماعه ببطء ، وكانت الام اول المتسائلين
((خير ياعمر؟؟؟ )) تبعها الاب متسائلا (( فيه حاجه يا بني ؟؟؟))
رد عمر مبتسما أبتسامه مصطنعه وهو ينظر لناديه (( انا لازم اسافر دلوقت ))
كانت جملته
كفيله ببث الفوضي، فبدأ الجميع في التحدث في وقت واحد كل يتساءل عن الداعي
للسفر ، وأستشطات الام غضبا وتحولت لهجتها الي الحدة ((يا بني انت لحقت دا انت يا دوب لسه نازل اجازة ))
وتبادرت
التعليقات من الجميع ، الا ان عيني عمر كانتا مع ناديه التي أكتسي وجهها
لثانيه بالحزن سرعان ما مسحتها وتبسمت علي استحياء متقبله موقف يجب ان
تتعود عليه بصفتها زوجه مستقبليه لضابط طيار وقته ليس ملكه بل ملك الوطن
ويمكن استدعاؤة في اي وقت ، هكذا شرح لها عمر حياته المستقبليه قبل ان
يطلب يدها للخطبه تحسبا الا تكون ناديه متقبله مثل هذا الموقف .
رغم علم عمر بان
ابتسامتها مصطنعه الا ان مجرد أبتسامتها اراحته ، فأستدار نحو والدته
مقبلا رأسها مرددا بسخريه (( ما انتي عارفه يا ست الكل إن أبنك راجل مهم
دلوقتي ، والبلد متعرفش تمشي من غيري )) تبسمت الام مجامله لابنها وسئلت
أخته الصغري (( هتسافر أمتي يا عمر ؟)) رد عمر (( المفروض اكون في مطار
الماظه بعد ساعه )) فتدخل الاب (( خلاص غير هدومك انت عقبال ما أجهز انا كمان وانزل أوصلك )) أندفعت ناديه في الحوار مرددة (( وأنا جايه معاكم )) .
قامت الام مسرعه
من كرسيها وقد تذكرت شيئا مهما (( هاحضر لك شنتطك ، ..... بس انا ملحقتش
أغسل هدومك .... هتتصرف إزاي ؟؟ )) رد عمر (( مش مشكله يا حاجه انا هتصرف
في العريش ))
دخل عمر لغرفته ليبدأ في تغيير ملابسه ، وأمام مرأة غرفته تمهل لثانيه ونظر لنفسه سارحا
(( ما هو شعور ناديه الان ، وهي تري مدى أهميتي ، وكأن ليس بالطيران طيار أخر غيري، وكأن البلد لا تستطيع ان تسير بدوني !!! ))
لكنه عاد وطرد
هذا الهاجس المتعجرف المغرور من تفكيرة بسرعه ليعود لتغيير ملابسه وهو
يفكر في الامر الهام جدا الذي يتطلب أستدعاؤة مرة اخري الي قاعدته ولماذا
لم يصرح الضابط المتصل به عن سبب الاستدعاء
...............................
بعد دقائق تجمع
أفراد الاسرة مرة اخري في الصاله حيث استعد الاب وناديه لمصاحبه عمر الي
المطار ، بينما فرغت الام من أعادة محتويات حقيبه السفر لداخلها مرة اخري ،وملئتحقيبهأخريبأنواعمختلفهمنالطعام
خرج عمر من غرفته وقد أرتدي بذلته الزرقاء اللون ، ربما رأته ناديه مرتين او ثلاث بنفس الزي لكن كل مرة يرفرف قلبها طربا من وسامه خطيبها في هذا الزي ، فهذه البدله لم تخلق الا لكي يلبسها عمر ....هكذا حدثت نفسها .
تحرك عمر سريعا مودعا عائلته وحمل الاب حقيبه أبنه مسرعا الي حيث سيارته تنتظر ، وداع سريع لا يعطي فرصه لإنفلات
المشاعر هو ما يفضله عمر دائما خاصه مع والدته التي تنهمر دموعها فيضان
كلما سافر عمر ، أسرع عمر خارجا من الشقه ممسكا بيد ناديه خلفه ، تاركا
والدته تركض نحو الشرفه لتوديع ابنها ومن خلفها شقيقاته وازواجهم، ركب عمر
في السيارة بجوار والدة ومن خلفهم ناديه وتحركت السيارة مسرعه تجاة ضاحيه
مصر الجديدة حيث مطار الماظه ،مخلفين ورائهم نظرات الحاجه من البلكونه ،و
بعد ثوان من الصمت تساءل الاب بجديه (( هو فيه ايه يا عمر ؟ دي أول مرة
يستدعوك بالطريق دي )) رد عمر (( والله ما انا عارف يا والدي – بس أكيد
مفيش حاجه مهمه ، ممكن تفتيش مفاجئ علينا أو فيه زيارة مهمه للمطار علشان
كدة طلبوني )) كان عمر يطمئنهم
لكنه كان يعلم انه يكذب ، فحتي في حاله التفتيش أو الزياره ،فأن الامر لا
يستدعي الغاء أجازته ، فقد كان هو نفسه متحير لكنه اراد بس الطمأنينه في
نفس ناديه في المقام الاول .
وصلت السيارة
بعد دقائق قليله الي بوابه المطار ، حيث فوجئ عمر بعدد غير قليل من
السيارات التي تقل الطيارين متوقفه امام بوابه المطار ، فتبارد في ذهنه
استنتاج هام بان هنالك أمر مهم جدا ، فمن الواضح ان الاستدعاء يشمل جميع
الطيارين الذين في أجازات وهو امر غريب لم يألفه .
فأستدار ضاحكا
الي ناديه (( شوفتي يا سيتي ، أهو مش انا بس اللي أستدعوني )) حاولت ناديه
التبسم لكن حزنها لفراق عمر غلب علي ملامح وجهها .
توقفت السيارة وهبط الجميع منها ، استدار الاب مسلما عمر حقائبه ، بينما تعلقت نظرات ناديه بعيني عمر والتي رأت فيهما القلق المختبئ وراء النظرات المطمئنه ، قًَبل الاب ولدة متمنيا له السلامه والتوفيق ، واستدار عمر وبدلا من أن يصافح يد ناديه الممدودة له كالعادة ، تقدم منها وأحتضن رأسها وطبع قبله عميقه علي رأسها ، هذا التصرف من عمر حطم دفاعتها وظهرت دموعها المحتجزة علي السطح سريعا
وهي تنظر اليه بلا أي قوة لقول أي شئ ، مسح بأصابعه دمعه تدحرجت علي خدها محمله ببعض المساحيقونظر
الي عينيها بعمق محاولا طمئنتها (( ليه الدموع دي ؟ كلها كام يوم وتلاقيني
هنا تاني )) ثم صمت لثوان محدقا في عينيها ، ثم أستطرد (( لا اله الا الله)) ............ أستكمل الاب وناديه الشهادة ، واستدار عمر متجها لبوابه المطار وسرعان ما اختفي خلف الابواب الحديديه .
ومع دخول عمر اسوار المطار ، أنهارت ناديه وأرتمت
في حضن الاب باكيه بشدة ، أحتضن الاب خطيبه ابنه ، وهو يعرف أن قلق الجميع
له محل ، فوجوة الطيارين الداخلين للمطار قلقه ، كذلك أسرهم التي تودعهم .
--------------------------------------------------------------------------------------------------------