[size=16]في فبراير عام
1958 دخلت سوريا مع مصر في اتحاد اندماجي، وعرفت الدولتان باسم "الجمهورية
العربية المتحدة" وكانت سوريا هي الاقليم الشمالي، ومصر هي الاقليم
الجنوبي. ورأت إسرائيل في هذا الاتحاد خطراً عظيماً يتهدد أمنها في الشمال
والجنوب ومن الشرق أيضاً.
وحوصرت الدولة اليهودية بالجيوش العربية، ولم يتبق لها سوى البحر الأبيض
المتوسط – المنفذ الوحيد الآمن، فحصنته بالسفن وبالمدمرات، وزرعت غواصاتها
بطول الساحل خوفاً من حصار هذه الجبهة بالقوات البحرية العربية، وأصبحت
إسرائيل تعيش في حالة طوارئ دائماً لا تدري من أية جهة تأتيها الضربة
الفجائية القاضية.
لذلك حرص ساستها – بواسطة أجهزة المخابرات – على عرقلة نمو هذا التطويق
العربي من الشمال والجنوب، ولعبت على كل الأوتار لإفشاله والقضاء عليه.
ولم يكن بمستطاعها وقف الزحف العربي لإنقاذ فلسطين المغتصبة، سوى باللجوء
الى كل الحيل القذرة والتصرفات الوحشية لإرهاب العرب، وبث الدعايات
المسمومة لإخافتهم، وتصوير الجندي الاسرائيلي والعسكرية الاسرائيلية
كأسطورة في الأداء والمهارة والقوة.
لذا فقد عمدت الى ترسيخ هذا الاعتقاد لدى العرب بمحو ما يقرب من "293"
قرية فلسطينية وإزالتها من فوق الأرض والخريطة، وارتكاب أبشع المذابح في
التاريخ دموية وبربرية ضد العرب العزل في فلسطين. هذا بجانب التكثيف
الإعلامي والنشاط الدبلوماسي للحد من يقظة روح الجهاد، التي جاهدت قوى
الاستعمار على إسكاتها بالضغط على العرب وسد أفواههم.. ومنع السلاح عنهم
وإغراقهم في مشاكل داخلية معقدة . . كالجهل والتخلف والفقر والمرض. .
وإثارة الثورات الداخلية طمعاً في شهوة الوصول الى الحكم.
كل ذلك أدى الى إضعاف الجيوش العربية في حين كانت إسرائيل تتشكل وتقوى،
وتغدق عليها الدول الاستعمارية الكبرى الأسلحة المتطورة الحديثة التي صنعت
إسرائيل، وزراعتها في قلب المنطقة العربية لتقسمها الى نصفين – أفريقي
وآسيوي – لا أمل في التقائهما إلا بفناء إسرائيل.
من هنا كان الرعب الأكبر لإسرائيل حينما قامت الوحدة في فبراير 1958 بين
الشطرين المنفصلين في الشمال والجنوب، وربطهما اتحاد اندماجي وحكومة واحدة
على رأسها الزعيم جمال عبد الناصر، خاصة بعدما فشل زعماء اتفاق "سيفر"
بفرنسا في العدوان الثلاثي الغاشم على مصر في أكتوبر 1956، والذي انتهى
بخيبة أمل انجلترا وفرنسا وإسرائيل، وانسحابهم يملأهم الخزي والعار.
لذلك كان على إسرائيل أن تراقب اتحاد الشطرين، بل وتسعى الى معرفة أدق
الأسرار عنهما. . لكي تحتاط الى نفسها من مغبة تقويضها واجتياح الأرض
السليبة فجأة.
وكانت أن أرسلت الى مصر وسوريا بأمهر صائدي الجواسيس . . للبحث عن خونة
يمدونها بالمعلومات وبالوثائق السرية، فجندت مصرياً خائناً من أصل أرمني
اسمه "جان ليون توماس" استطاع تكوني شبكة تجسس خطيرة في مصر، وأرسلت الى
سوريا – إيلياهو كوهين – داهية الجواسيس على الإطلاق، وأسطورة الموساد
الذي ظل جسده معلقاً في المشنقة لأربعة أيام في دمشق. والأرمن . .جالية
أقلية استوطنت مصر هرباً من الاضطهاد والتنكيل الذي تعرض له الشعب الأرمني
. . وتعدادهم بالآلاف في مصر .. امتزجوا بنسيجها الاجتماعي وتزاوجوا فيما
بينهم في البداية. . ثم اختلطت دماؤهم بالمصريين في مصاهرة طبيعية تؤكد
هذا الامتزاج والاستقرار، واحتفظوا فيما بينهم بعاداتهم وتقاليدهم وبلغتهم
الأصلية.
وتشير بعض المصادر أن تعدادهم في مصر يصل الى مائة ألف أرمني، يتمتعون
بالجنسية المصرية وبكامل الحقوق، وسمحت لهم السلطات بإصدار صحيفة باللغة
الأرمينية، تدعم ترابطهم وتذكرهم بجذورهم.
اشتهر عن الأرمن أنهم أناس درجوا على العمل والكفاح والاشتغال بالتجارة،
لذلك.. فأمورهم الحياتية والمادية ممتازة.. خاصة بعدما هيأ لهم المناخ
المستقر في مصر فرص الانطلاق والنجاح.
وكان "جان ليون توماس" أحد ابناء هذه الجالية، وقد عمل بالتجارة
والاستيراد والتصدير، واستطاع بعد عدة سنوات أن يجمع ثروة طائلة تؤمن له
مستقبلاً رائعاً. . تدفعه إليه زوجته الألمانية "كيتي دورث" فتغلغل داخل
أوساط المجتمع الراقي يزهو بثمرة كده واجتهاده. ولظروف عمله وقرابته تعددت
سفرياته الى ألمانيا الغربية لإنجاز أعماله.
هناك . . اقترب منه أحد صائدي الجواسيس المهرة، واشتم فيه رائحة ما غالباً
هي نقطة ضعف من خلالها يستطيع الالتفاف حوله. . وتجنيده، لا سيما بعد
تأكده من أن له علاقات واسعة في مصر.
ولم تخب حاسة الشم لدى ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يتستر وراء شخصية
رجل أعمال. إذ اكتشف هواية خاصة جداً عن توماس. . وهي عشقه للجنس مع
الأطفال الصغار. ففي غمرة مشاغله وأعماله، سرعان ما ينقلب الى ذئب شره
يبحث عن فريسة تشبع نهم شذوذه.
كان توماس بالفعل يعاني من هذا الداء، ويصاب أحياناً بتوترات عصبية
وتقلبات مواجية حادة، تظهر عادة في صورة ثورة على زوجته الجميلة. . التي
لم تكن تدرك السبب الحقيقي في هروب الخادمات صغيرات السن من بيتها، ولا
يعدن إليه مرة ثانية؟ وفشلت كثيراً في الوصول الى إجابة منطقية لذلك.
بياتريشيا اللذيذة
ولكي يزجوا به داخل دائرة الجاسوسية من أوسع الأبواب. . قذفوا اليه بطفلة
يهودية يتيمة في العاشرة من عمرها، طرقت باب شقته في فرانكفورت، ولأنهم
زرعوا الكاميرات والأجهزة السرية بها واتخذوا من الشقة المجاورة مكمناً
لتسجيل ما سيحدث .. أذهلتهم أغرب مطاردة بين جدران الشقة الصغيرة، بين
توماس الذئب الجائع. . والطفلة الضعيفة التي كانت تبكي متوسلة إليه،
فيتوسل هو إليها ألا تتركه يعاني أكثر من ذلك.
كان عارياً تماماً، يتصبب منه العرق الغزير وترتجف خلجات وجهه، وبدا في
قمة ضعفه عندما هجم على الطفلة، وصفعها في عنف فانخرست من الخوف، وشرع في
الحال في تجريدها من ملابسها حتى تعرت تماماً، وبدا واضحاً ارتجاف أطرافها
واضطراب أنفاسها اللاهثة، فتحرر بسرعة من ملابسه كأنه لا يصدق أن فريسة
بين يديه، واحتضنها في لهفة الجائع وهو يأمرها ألا تصده، أو تعترض على ما
يفعله بها.
وفوجئ بهم من حوله، انتزعوا الطفلة من بين يديه فانزوت ترتجف.. بينما أخذ
يرجوهم ألا يصحبوه عارياً للشرطة. وأطلعوه على ما لديهم من أدلة شذوذه،
فانهار.. ووقع في لمح البصر على عقد يقر فيه بتعاونه مع الموساد، وأنه على
استعداد تام لتنفيذ ما يكلف به.
هذه هي الموساد .. تتبع أقذر الحيل للسيطرة على عملائها وإخضاعهم، وهذا
ليس بأمر جديد على المخابرات الاسرائيلية، فلا شيء يهم طالما ستحقق مآربها
وتجند ضعاف النفوس في كل زمان ومكان.
في قمة مذلته وشذوذه لم تكن لديه القدرة على أن يفكر أو يقرر، إذ أن
إرادته قد شلت . . وانقلب الى شخص آخر بلا عقل. . فقد خلفته المحنة
وأزهقته الصدمة، وبسهولة شديدة استسلم لضباط الموساد يتحكمون بأعصابه..
وابتدأوا في تدريبه وإحكام سيطرتهم عليه، وكتب في عدة صفحات بيده كل ما
لديه من معلومات اقتصادية يعرفها بحكم عمله وعلاقاته، وأحاطوه بدائرة
الخوف فلم يستطع الإفلات، وهددوا بقتل أفراد أسرته إذا ما عاد الى مصر
وأبلغ السلطات. . فقد كان من السهل إقناعه بوجود عملاء لهم في القاهرة
ينتظرون إشارة منهم ليقوموا باللازم مع عائلته هناك.
وتأكيداً لذلك. . أرسلوا باقة زهور الى منزله بمناسبة عيد ميلاد ابنته. .
وكم كان فزعه شديداً عندما اتصل بالقاهرة فتشكره ابنته على باقة الزهور
التي أرسلها.. وأصيب رجل الأعمال المذعور بصدمة عنيفة، وصرخ في هلع مؤكداً
بأنه سيقوم بالعمل لصالحهم. . وتركوه يسافر ملتاعاً ومرعوباً يحمل تكليفات
محددة وأسئلة مطلوب إجاباتها، وكانوا على يقين أنه سقط في شباكهم ولن
يمكنه الإفلات أبداً.
وفي الطائرة استغرقه تفكير عميق فيما صار إليه حاله، وهل يستطيع النجاة من
هذا المأزق أم لا؟ واتصل فور وصوله بصديقه محمد أحمد حسن الذي يشغل منصباً
حساساً في مدرسة المدفعية بالقاهرة، وسأله عدة أسئلة تتصل بعمل جهاز
المخابرات المصري. وهل بالإمكان حماية شخص ما تورط مع المخابرات
الاسرائيلية؟ وكانت إجابات محمد حسن إجابات قاطعة، تؤكد ان المخابرات
المصرية من أنشط أجهزة المخابرات في العالم بعد استحداثها وتدريب كوادرها
بأقسامها المختلفة، وحسبما يقال فهي تحمي المتورطين إذا ما تقدم بالإبلاغ
عما وقع لهم بالخارج.
لكن توماس لم يثق بكلامه، وظن انها دعاية يروجها لا أكثر.. فتملكه الخوف
من الانسياق وراء دعاية لن تفيد، وحرص على المضي في طريق الخيانة حتى
آخره. بينما انشغل صديقه بالهدايا الثمينة التي جلبها له ولم يسأله عن
تفاصيل الأمر. أو عن ذلك الشخص المتورط مع الموساد.
لم يضيع توماس وقته في إثارة أعصابه بالتفكير والقلق.. وشرع كما دربوه في
دراسة أحوال المحيطين به ليستكشف نقاط ضعف تمكنه من النفاذ اليهم، وكان
أول من نصب شباكه حوله – محمد أحمد حسين – الذي كان يدرك جيداً أن
المخابرات المصرية أضافت اختصاصات وتكنولوجيا حديثة تمكنها من تعقب
الجواسيس والخونة.
تناسى الرجل العسكري كل ذلك وعاش في وهم ابتدعه. ولم يعد يفكر سوى في نفسه
فقط. . وقد طغت هدايا صديقه على أنسجة عقله. كان ذلك في شهر أكتوبر عام
1958 عندما نام ضميره نوم الموات بلا أدنى حياة أو رعشة من شعور. . وأسلم
مصيره بل حياته كلها لمغامرة طائشة قادته الى الهلاك.
وكانت "بياتريشيا" خطوة أولى في سلم الموت الذي لا مهرب منه ولا منجي على
الإطلاق. . وبياتريشيا هذه راقصة ألمانية مقيمة بالقاهرة. . تربطها بتوماس
علاقة قديمة قبل زواجه من كيتي، وفي حين انشغل عنها بعمله اضطر لتجديد
علاقته بها بمجرد عودته، لتساعده في تجنيد محمد حسن الذي كان يعرف عنه
ميله الشديد للخمر والنساء.
فرحت الراقصة المثيرة بعودة توماس اليها وتقابلت الأغراض والنوايا. . وبعد
سهرة ممتعة بأحد النوادي الليلية. . ارتسمت بخيالات محمد حسن صور متعددة
لعلاقته ببياتريشيا، أراد ترجمتها الى واقع فعلي لكن راتبه الضئيل لم يكن
ليكفي للإنفاق على بيته. . وعلى راقصة مثيرة تجتذب من حولها هواة صيد
الحسناوات. وتكررت السهرات الرائعة، التي أصبحت تشكل شبه عادة لديه لم يكن
من السهل تبديلها أو الاستغناء عنها، وأغرقته الراقصة في عشقها فازداد
اندفاعاً تجاهها، ولم يوقفه سوى ضيق ذات اليد.
عند ذلك لم يكن أمامه سوى الالتجاء الى توماس ليستدين منه، وتضخم الدين
حتى توترت حياة محمد حسن. . وانتهزها توماس فرصة سانحة لاستغلاله والضغط
عليه فرضخ له في النهاية وسقط مخموراً في مصيدة الجاسوسية. . مستسلماً
بكامل رغبته مقابل راتب شهري – خمسين جنيهاً – خصصه له توماس لينفق على
الفاتنة التي أغوته وأسكرته حتى الثمالة.
في المقابل لم يبخل محمد حسن بالمعلومات الحيوية عن مدرسة المدفعية. .
كأعداد الطلاب بها وأسماء المدربين والخطة الاستراتيجية للتدريب.. كل ذلك
من أجل عيون الفاتنة الحسناء العميلة.
فيالها من سقطة .. ويالها من مأساة وخيبة !!
وفي الوقت الذي نشط فيه توماس كجاسوس يقوم بمهمته، تراءت له فكرة تجنيد
عملاء آخرين تتنوع من خلالهم المعلومات التي يسعى للوصول اليها. فكان أن
نصب شباكه حول مصور أرمني محترف اسمه جريس يعقوب تانيليان – 43 عاماً ،
واستطاع أن يسيطر عليه هو الآخر بواسطة إحدى الساقطات وتدعى – كاميليا
بازيان – أوهمته كذباً بفحولة لا يتمتع بها سواه.
ولأنه كان ضعيفاً جنسياً. . رأى رجولة وهمية بين أحضانها، فهي المرأة
الوحيدة التي "أنعشت" رجولته، وبالتالي فقد كان لزاماً عليه إسباغ رجولة
أخرى حولها، وهي الإنفاق عليها بسخاء.
وفي غضون عدة أشهر استنزفته كاميليا مادياً. . فاتبع مسلك محمد حسن باللجوء الى توماس ليقرضه مالاً، فجنده في لحظات ضعفه وحاجته.
ولما اتسع نشاطه.. استأجر توماس شقة بمنطقة روكسي باسم محمد حسن كانت تزهر
بأنواع فاخرة من الخمور، وتقام فيها الحفلات الماجنة التي تدعى اليها
شخصيات عامة، تتناثر منها المعلومات كلما لعبت الخمر بالرؤوس فتمايلت على
صدور الحسان وتمرغت بين أحضانها. وفي إحدى حجرات الشقة أقام جريس تانيليان
معملاً مصغراً لتحميض الأفلام وإظهار الصور والخرائط، حيث كان يجلبها محمد
حسن من مقر عمله ويعيدها ثانية الى مكانها.
وذات مرة . . عرض توماس على محمد حسن فكرة السفر الى السويس بالسيارة. .
ثم الى بورسعيد لتصوير المواقع العسكرية والتعرف عليها من خلال شروحه. .
ووافق الأخير ورافقتهما كيتي التي اطلعت على سر مهنة زوجها وشاركته عمله.
وكان محمد حسن دليلاً لهما يشرح على الواقع أماكن الوحدات العسكرية..
فيقوم توماس بتصويرها من النافذة وتسجيلها على خريطة معه بينما تقود كيتي
السيارة.