نتائج ثورة صيفاقــــس:
من
أهم النتائج التي ترتبت عن مقاومة صيفاقس الرغبة الأكيدة والطموحة في
توحيد الأمازيغيين وتنظيم مملكة مازيسولة وتوسيع نوميديا ، ولكن هذا
الطموح لم يتحقق ميدانيا بسبب تحالف ماسينيسا ملك ماسولة مع قائد القوات
الرومانية سيپيون للتنكيل بالقرطاجنيين والقضاء نهائيا على أحفاد
الفينيقيين في قرطاجنة. ولكن الرومان تعاملوا مع قضية شمال أفريقيا بكل
ذكاء واستطاعت أن ۥتدخل الإخوة الأمازيغيين في حرب قرطاجنة الضروس، لاناقة
لهم فيها ولاجمل. وتمكن الرومان بعد ذلك من التخلص من صيفاقس أولا، والملك
ماسينيسا ثانيا عندما أحسوا بنواياه التوسعية على حساب أراضي القرطاجنيين
الذين كانوا حسب ما يقوله ماسينيسا:" أجانب في بلادنا، فقد استولوا غصبا
على أملاك أجدادنا، ولذلك يجب أن نسترد منهم بجميع الوسائل ما انتزعوه منا
بالقوة".
وإذا كان ماسينيسا قد استنزف قوة صيفاقس وأضعفها ميدانيا
وعسكريا وتوسع في مملكته وعاصمته لحساب الروم، فإن الرومان استطاعوا أن
يحتالوا عليه وأن يوقفوا توسعه أيضا في شمال إفريقيا، لذا لم يكن تدخل
القوات الرومانية في قرطاجنة مابين 149ق.م و146ق.م إلا لضرب مملكة
ماسينيسا ومنع هذا المقاوم من" السيطرة على المدينة ( قرطاجنة)، ومن ثم
إجهاض تطور كان يتجه نحو بروز دولة أمازيغية نوميدية لها وزنها في غرب
المتوسط.
يؤكد ذلك أن روما أدركت خطورة نمو هذه الدولة، فأصبح التدخل
في شؤونها ومراقبتها أحد مشاغل الساسة الرومان. ففي سنة 148ق.م توفي
ماسينيسا تاركا مملكة شاسعة الأطراف ومنظمة لأبنائه الثلاثة، فتقاسموا
السلط فيما بينهم، إذ تولى أكبرهم مسيبسا السلطة الإدارية، وتكلف مستنبعل
بالشؤون القضائية، بينما اهتم غولوسن بالشؤون العسكرية. والجدير بالملاحظة
أن عملية توزيع السلط تمت بحضور سيپيون الإيميلي، قائد الجيوش الرومانية
لمحاصرة قرطاج، مما يدل على إرادة روما في فرض وصايتها على الأمراء، ويظهر
ذلك بجلاء في استعانتها بإمكانيات الدولة النوميدية العسكرية، بإسهام
جيشها بقيادة الأمير غولوسن في تحطيم قرطاج".
ويتبين لنا من كل هذا
أن الحكومة الرومانية لم تقض على القوات الفينيقية والقرطاجنية في شمال
أفريقيا إلا بالقوات الأمازيغية القوية الشرسة، إذ كانت تضعها في مقدمة
المواجهة وفي الصفوف الأولى من الفيالق العسكرية لكي يصفو الجو للقوات
الرومانية لتتدخل في الوقت المناسب وخاصة حينما يضعف الفريقان المتناحران
في ساحة المعركة. وهذه السياسة البشعة الرومانية ماتزال تطبق من قبل ساسة
الغرب إلى يومنا هذا في العالم العربي والإسلامي بكل دهاء وذكاء . وهذا ما
وقع بالفعل عسكريا، فحينما أحست القيادة الرومانية بضعف القوتين
القرطاجنية والأمازيغية ، تدخلت في الوقت الملائم للقضاء على مملكة
قرطاجنة والقضاء على كل الممالك الأمازيغية المناهضة للحكم الروماني.
ومن
هنا، نسجل بكل صراحة وموضوعية تاريخية أن الحسد والصراع حول السلطة
والتناحر حول الامتيازات المادية والمعنوية والتهافت وراء بريق ولمعان
المصالح الشخصية من الأسباب التي أودت بمملكة تامازغا، وجعلتها طوال
تاريخها فريسة سهلة للتكالب الأجنبي: القرطاجني والروماني والوندالي
والبيزنطي، وأرضا قابلة للنهب والاغتصاب من قبل الدول الإمبريالية
الحديثة: الإيطالية والفرنسية والإسبانية.
وفي الأخير، يمكن أن ۥنحمل
الملك الأمازيغي ماسينيسا المسؤولية الأولى في إدخال القوات الأجنبية
الرومانية إلى شمال أفريقيا بعد أن مهد لها الطريق وعبد لها السبل للقضاء
على أكبر قوة منافسة للرومان ألا وهي دولة قرطاجنة، والدليل على ذلك ما
أظهره الجنرال القرطاجني المناضل الوطني حنبعل من شجاعة وقوة في محاصرة
الرومان في عقر دارهم. ولكن ماسينيسا الذي كان يبحث عن مصالحه الشخصية لم
يفهم سياسة الرومان أو يقدرها جيدا، ولم يكن ذكيا فعلا كما كنا نعتقد ذلك
في بعض حلقاتنا التي خصصناها للملك ماسينيسا؛ لأنه كان السبب المباشر
لتعجيل تدخل القوات الرومانية في تونس القرطاجنية لتخريبها وبناء قاعدة
عسكرية فيها، وتقسيم مملكة ماسينيسا الموحدة بين الأولاد الثلاثة.
ومن
هنا، فصيفاقس مات شهيدا وفيا للمقاومة الأمازيغية وحارب مع القرطاجنيين ضد
الشرف الأفريقي، على عكس ماسينيسا الذي ضحى بالقوة الأمازيغية من أجل
إرضاء حلفائه الرومان الذين خدعوه سياسيا وعسكريا ووضعوا حدا لمقاومته
الصاعدة على حساب جيرانه القرطاجنيين الذين لم يكونوا أعداء بالدرجة التي
كان عليها الرومان المتوحشون.
ومن هنا، فتاريخ الأمازيغيين كان في
الحقيقة تاريخ الخيانات والتحالفات البراگماتية الواهمة والواهية، والتي
كانت كلها لصالح الحكومة الرومانية. ولم يستفد الأمازيغيون من تاريخهم إلى
يومنا هذا، فالتاريخ دائما يعيد نفسه ويكرر أحداثه في صور مختلفة، ولكن
ليس هناك من يستفيد أو يعتبر أو يتعظ. ومازال الغرب يتعامل مع الدول
العربية الإسلامية بنفس الطريقة التي كانت تتعامل بها الحكومة الرومانية
مع الممالك الأمازيغية في القرون الميلادية الأولى.
ونستحضر في هذا
المجال قولة دالة وصائبة وموحية للأستاذ محمد شفيق:" فبينما كانت كل مملكة
من هذه الممالك الثلاث( مملكة ماسينيسا ومملكة صيفاقس ومملكة باگا) تحاول
جمع الشمل في المنطقة الخاضعة لنفوذها، كانت الحروب تتوالى بين روما
وقرطاجة، فنتج من ذلك أن كلا الطرفين المتحاربين صار يغري الأمازيغيين
بالتحالف معه، ويستغل التنافس الذي يطبع علاقات الملوك بعضهم ببعض. وفي
أثناء الحرب البونية الثانية استطاعت روما، بفضل معرفتها لمعطيات المجال
السياسي الأفريقي، أن تكسب صداقة أشد الملوك حنقا على قرطاجة، وهو
ماسينيسا، وأن تتحالف معه. فكانت تلك المحالفة هي الثلمة الأولى التي
تسربت منها الهيمنة السياسية الرومانية، شيئا فشيئا إلى مراكز الحكم في
أقطار المغرب كلها؛ ذلك أن روما اتخذت جميع أساليب الترغيب والترهيب
منهجية لها لإغراء الملوك الأمازيغيين بعضهم ببعض، في مرحلة أولى، ثم
أزالت القناع عن وجهها في مرحلة ثانية وحاربت كل من امتنع أن يكون عميلا
لها، واستمرت على تلك الخطة ما يقرب من قرنين، موسعة نطاق سيطرتها في
اتجاه الغرب إلى أن قضت على الممالك كلها؛ ولم تبق بصورة شكلية، إلا على
عرش موريتانيا. فأجلست عليه الأمير الأمازيغي الشاب يوبا بن يوبا الذي
كانت قد أسرته، وهو صبي، بعد التخلص من أبيه. فظل يوبا لها عميلا إلى أن
توفي. فسار ابنه بطليموس على نهجه، إلى أن استدرجه ابن خالته، الإمبراطور
الروماني كاليگولا إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة ليون الغالية، حيث أمر
باغتياله سنة 40م. وبموته انقرضت الممالك الأمازيغية القديمة."
وعلى
أي، فبعد وفاة الملك المناضل صيفاقس، تولى ابنه فيرمينا وراثة الحكم وتابع
مسيرة أبيه السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية في تسيير مملكة أبيه
وإدارتها،وعاش بعد أبيه بضع سنوات، والدليل على حكم فيرمينا بعد أبيه هو
عثور علماء الحفريات والمؤرخين على عملة فضية تحمل اسمه.
ومن أهم نتائج
ثورة صيفاقس اندلاع ثورات أمازيغية مضادة للرومان اتخذت صبغة عسكرية
كمقاومة يوغرطة ومقاومة تاكفاريناس ومقاومة أيديمون، وصبغة دينية كمقاومة
دوناتوس، وصبغة اجتماعية كمقاومة الدوارين الفقراء.
خاتمة:
ونستشف
- مما سبق ذكره - أن صيفاقس كان ملكا أمازيغيا وفيا ومناضلا مات شهيد
القضية الأمازيغية؛ لأنه دافع عن مملكة تامازغا ، وساعد جيرانه
القرطاجنيين على المواجهة والتحدي والصمود في وجه القوات الرومانية
الغازية التي كانت لا تستهدف إخضاع قرطاجنة فحسب ، بل كانت ترمي إلى
السيطرة الكلية على أفريقيا الشمالية لتحقيق مصالحها التوسعية واسترقاق
الأمازيغيين ونهب ممتلكاتهم وخيراتهم واغتصاب أراضيهم، وتجويع ساكنة
تامازغا وطردها إلى الصحراء نحو الفيافي والمفاوز والكهوف الجبلية خارج خط
الليمس الأخضر أو السد الأمني. ويعني هذا أن صيفاقس لم يمت خائنا مغفلا ،
بل مات موتة النبلاء الشرفاء الذين دافعوا عن الهوية الأمازيغية.
وقد
رفض صيفاقس كل أنواع المساومة مع الرومان التي تكون على حساب وحدة
تامازغا،كما رفض بشكل قاطع سياسة الرومنة والاستيطان الروماني والتمدين
اللاتيني في كل شبر من أشبار نوميديا. وكان أيضا من الوطنيين الغيورين على
وطنهم الذين ضحوا من أجل الأرض وتوحيد نوميديا وجمع شمل الأمازيغيين في
مملكة أمازيغية موحدة. ولكن الاحتيال الروماني وتعدد أقنعة حكومة روما هي
التي أسقطت مملكة صيفاقس وأمجادها الطموحة في التوسع والوحدة الأمازيغية
الشاملة.
إذا، هذا هو تاريخ صيفاقس الذي لا يمكن فهمه جيدا إلا إذا
وضعناه في صورة مقابلة مع صورة منافسه الأمازيغي في الحكم الملك ماسينيسا،
ويترجم لنا هذا التاريخ بكل بساطة و موضوعية صراع الوفاء والخيانة، وجدلية
التضحية والغدر.
_________________