بدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو:
1ـ
على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي
مقاومة .. وقد كان ذلك أمراً سهلاً؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون
حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً..
2ـ
يقيد الخليفة المسلم، ويساق إلى المدينة يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل
التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل
ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال..
3ـ
يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه!! فقُتل الولد الأكبر "أحمد أبو العباس"،
وكذلك قُتل الولد الأوسط "عبد الرحمن أبو الفضائل".. ويتم أسر الثالث
مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة
ومريم..
4ـ
أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن
العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن
لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من
بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار
المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو
للقتل.!!. لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!!
ذُبح
على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي
الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله
وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان
شاه، واللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب
الخليفة ومربيه "صدر الدين علي بن النيار"، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء
المساجد والأئمة وحملة القرآن!!..
كل
هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب
الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان
سيختلف جذرياً لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة،
ولكن ليس من سنة الله عز وجل أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو
يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة
بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد
الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جداً..
***
كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه..
هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟!
هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيداً يشاهد كل هذه المآسي؟!
- قتل ولدان من أولاده..
- أسر ابنه الثالث..
- أسرت أخواته الثلاث..
- قتل معظم وزرائه..
- قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته..
- اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه "مؤيد الدين العلقمي الشيعي.."
- دمر جيشه بكامله..
- نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته..
- استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه..
- أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة..
-
انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد..
فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعاً صفصفاً..
- وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير..
لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه..
وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه..
لا شك أنه قال مراراً: "يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً"..
لا شك أنه نادم "..ما أغنى ماليه.. هلك عني سلطانيه"..
ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات..
ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: "رب ارجعون! لعلي أعمل صالحاً فيما تركت"..
يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!!..
يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان..
يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم..
يا ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات..
ليتني ما عشت لجمع المال..
ليتني ما استكثرت من الجواري.. وليتني ما سمعت المعازف..
ليتني اخترت بطانة الخير..
ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء..
ليتني.. ليتني.. ليتني....
لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبداً إلى الوراء..
وسيق الخليفة إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته..
أصدر
السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو
بعض أعوانه بشيء عجيب..! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على
الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب
قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف..
وهذا
بالطبع نوع من الدجل .. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل
ودماء المسلمين جميعاً الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة
قتلهم..
لكن
هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله!!.. كأن الله عز وجل قد أراد ذلك، حتى
يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من
ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين..
لقد أمر هولاكو أن يقتل الخليفة "رفساً بالأقدام"!!!..
وبالفعل وضع الخليفة العباسي في جوال على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم.. حتى الموت!!..
أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!!..
إن بغداد لم تسقط فقط!!
إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد..
وسقط معه شعبه بكامله!..
***
كان ذلك في عام 1258 م، والأن وبعد نحو 750 عام تكررت نفس المأساة بنفس التفاصيل .. لكن الأسماء فقط تبدلت..
إعدام صدام حسين
صدام
حسين – وإن كان رئيسا عربيا مسلما – قد نحزن لوفاته بهذه الصورة المهينة،
لكنه لم يمت يوم أن التف حبل المشنقه حول رقبته بل مات قبل ذلك ألف مرة..
يوم أن أهمل في القيام بمسئولياته وقاد شعبه ودولته بل والمنطقة بأسرها
إلى الدمار والهلاك ..