الدولة والعصابة ما يزيد على ربع قرن حاولت المجموعات التأسيسية الأولى لحزب الله أن تغتال (الرائد) جميل السيد.. وفى أبريل 2009، وبينما كان (اللواء) جميل السيد سجينا ينتظر المحاكمة الدولية فى (لاهاى) كان أن كتب مقالا يعرض فيه مشروع تسوية لكى ينجو حزب الله من ورطة تنظيمه الاستخبارى الإرهابى ضد مصر! وجميل السيد شيعى، كان يشغل منصب مدير الأمن العام فى لبنان، وقد حول الجهاز اللبنانى إلى ذراع أمنى لصالح تنفيذ المتطلبات السورية فى لبنان.. إلى أن سقط هو متهما بتغيير معالم مسرح جريمة اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريرى.. وقد كان ذات يوم فى بداية صعوده متعاونا مع رئيس الوزراء الراحل.. لكنه تحول إلى النقيض.. تماما كما استطاع أن يغالب نفسه ويصبح من (هدف لاغتيالات حزب الله) فى بداية الثمانينيات إلى أهم منسق مع الحزب فى الألاعيب الداخلية اللبنانية طامحا فى أن يصل إلى موقع رئيس مجلس النواب.. وهو منصب يناله الشيعة بحكم الدستور. من داخل السجن كتب جميل السيد فى جريدة السفير مقالا عنوانه (الحلقة المفقودة فى الأزمة بين مصر وحزب الله).. وقد انتقيته من بين كل المقالات التى دفع إليها الحزب فى مختلف الصحف لكى يكون محورا لمقالى الأسبوعى.. لأنه أشمل من غيره فى التعبير عن الحزب.. ولأنه يكشف أمورا خطيرة.. ولأنه يتضمن كل النقاط المثارة من بين أنصار حزب الله.. ولأنه يستوجب التحليل بدءا من عنوانه.
حقيقة المواجهة
لقد انتشر تعبير (الأزمة بين مصر وحزب الله) فى الآونة الأخيرة - أحيانا يستخدمون تعبير المواجهة - .. بصورة توجب التوقف.. فهو تعبير مخادع ومضلل.. وفيه تساوٍ غير مقبول بين الرؤوس.. ويسعى مروجوه إلى أن يشوهوا مصر حتى والحزب يتعرض لأسوأ انتكاساته.. ذلك أنها ليست من الأصل أزمة لمصر.. ولو كانت هناك أزمة فإن الذين يعانون منها هم الذين يقفون خلف الحزب.. ويديرونه ويوجهونه. إن (حزب الله) ليس سوى أداة.. هكذا كان وهكذا أصبح.. فهو ليس مشروعا شخصيا لحسن نصر الله.. كما أنه ليس مشروعا فئويا للشيعة فى لبنان.. فالكثيرون منهم لاينتمون له ولايساندونه.. ولكنه مجرد واجهة - حتى لو كانت قوية - لدول مختلفة على رأسها بالطبع إيران بالأساس وسوريا بالتبعية.. الأولى هى الراعى الرئيسى والثانية هى الراعى الرسمى بخلاف راعى آخر ثالث مشارك. منهجيا، وفى إطار الواقع الحالى، فإن حزب الله يمثل كـ (تنظيم عصابى مسلح) الوكيل الرسمى المعلن لفريق من الدول وصف نفسه بأنه (معسكر الممانعة)، وهو يضم علنا كلا من سوريا وإيران وقطر، وقد تبلور التحالف بين أعضاء هذا الفريق إبان حرب غزة.. التى استهدفت مصر بالأساس قبل أن تكون استهدافا للقطاع.. ويضم هذا الفريق فى ثناياه تنظيمات تروج بين الناس أنها القائمة على مقاومة العدو الإسرائيلى.. وهى بالتسلسل حزب الله، وحركة حماس، وجماعة الإخوان، وجماعة الجهاد الفلسطينية.. بخلاف تنظيمات فرعية أخرى. لقد أدى هذا التكوين إلى نشوء ما يمكن أن نسميه - كما ذكرت عرضا من قبل - (تحالف الدولة والعصابة).. دولا لاتقوم بالعمليات بنفسها وإنما توظف مجموعة من التنظيمات للقيام بالمهام نيابة عنها.. بالاستعانة بتمويلها وتدريبها وتسليحها.. وقد أظهرت حرب غزة ما هو الدور الذى يمكن أن تقوم به (العصابة التابعة) نيابة عن (الدولة الراعية) فى تقويض استقرار الدول الأخرى.. وذلك كله خلف ستار المقاومة وتحت شعارات مواجهة الاحتلال.
الراعى الرئيسى
فى لبنان، ومنذ وقت مبكر جدا، كان حزب الله هو الأداة العلنية للسياسة الإيرانية، ومع تصاعد التحالف السورى الإيرانى، وتعميق الانغماس السورى فى الواقع اللبنانى، كان حزب الله أداة مشتركة بين البلدين.. وهو ما عبرت عنه المساندة الحيوية منهما للحزب فى حربه فى يوليو 2006,. التى أدت إلى سقوط 1200 شهيد لبنانى وتشريد مليون شخص.. ولم يمنع هذا الواقع الكارثى الرئيس السورى من أن يلقى خطاب انتصار فيما بعد انتهاء الحرب مسفرة عن تدمير شبه كامل لمدن وطرق وجسور لبنان. تاريخياً، كان حزب الله صنيعة إيرانية، وكان كثير من اجتماعات التحضير له يتم فى دمشق حين كان (على محتشمى) سفيرا لإيران فى دمشق، وهو الشخص الموصوف بأنه الأب الروحى لحزب الله، وفيما بعد كان السفير التالى لإيران فى دمشق (محمد حسن اخترى) هو الأب الميدانى لحزب الله.. حسب وصف جريدة الشرق الأوسط اللندنية فى حلقات شهيرة. لم يكن الشيعة يؤمنون فى لبنان بولاية الفقيه، لكن مجموعة من حركة أمل الشيعية انشقت عليها فى بداية الثمانينيات داعية إلى تأسيس جمهورية لبنان الإسلامية - تتحدث بعض المصادر عن وجود طوابع بريد صدرت فى إيران عليها هذه العبارة (جمهورية لبنان الإسلامية) - ومنهم كان صبحى الطفيلى وعباس الموسوى.. اللذان سبقا حسن نصر الله فى بلوغ منصب الأمين العام للحزب. لقد تدربت هذه العناصر خلف دخان شعارات المقاومة على أيدى مجموعات هائلة من الحرس السورى الإيرانى.. وبعضها وفق رواية محتشمى نفسه كانت تشارك إلى جانب إيران فى حربها ضد العراق.. ومع وصول حسن نصر الله إلى منصب الأمين العام عقب خروج صبحى الطفيلى تم اغتيال الشيخ عباس الموسوى فى عملية إسرائيلية فإنه بدأ فى تحويل الحزب إلى مؤسسة اجتماعية اقتصادية ثقافية تعليمية.. بخلاف كونه جماعة مسلحة تتحول بمضى الوقت إلى ميليشيات تمثل جيشا ولديه جهاز أمنى مستقل.. تسيطر على مساحات واسعة من جنوب لبنان وتمثل دولة داخل الدولة ترفض التنازل عن سلاحها.. بل ويعلن أمينها العام عن الاتجاه إلى حصوله على أسلحة للدفاع الجوى كما قال قبل أسابيع. على الهامش من هذا لابد أن نسجل ملاحظة مهمة، وهى أن فكرة من هذا النوع قد بدأت ببضعة شباب، حيث تشيعوا بين الشيعة إلى عقيدة (ولاية الفقيه) وتضخموا إلى أن صاروا هذا الكيان الحالى، مما يعطى دليلا قويا على أن مثل تلك العمليات التى تندرج تحت بند التشيع يمكن أن تصبح خطرا جسيما بمضى الوقت.. أيا ما كانت الأفكار البراقة التى تقول إنه لا يمكن لبضعة أشخاص أن يقوموا بعمل لنشر التشيع فى مصر.
إهانة المقدسين
وفق هذا التوصيف فإن الإعلان عن قضية تنظيم حزب الله فى مصر لم يمثل ضربة لحزب الله نفسه فقط.. بقدر ما مثل ضربة هائلة لكل المشروع السياسى والتسليحى والتوسعى الذى يجسده منذ أكثر من 26 عاما.. وهى ضربة جاءت فى توقيت أعتقد فيه هذا المشروع أنه قد بلغ حدا من الاتساع والقوة، بحيث لايمكن لأحد أن يواجهه.. ليس فقط لأن المشروع قد توهم أنه باتباعه سياسة الكر والفر فى ميادين القتال.. وأن أحدا لايحاسب عصاباته على خسائرها الجسيمة فى البشر والعتاد.. وإنما لأنه اعتقد أن التحصين المعنوى والإعلامى والسياسى قد جعل تلك الكيانات - لاسيما حزب الله - غير قابلة للمساس.. لاسيما وأنها تلتحف بالمقدسين: المقاومة والدين. المقدسان النبيلان تم الحنث بهما.. إذ خرجت الكيانات التابعة للدول الراعية عن المهمة المقبولة لأى حركة مقاومة.. فسعى حزب الله إلى السيطرة على الدولة اللبنانية وارتهانها لقبضة بلطجته.. حتى كاد أن يفجر حربا أهلية فى العام الماضى، وهو ليس بعيدا عن احتمالاتها فى العام الحالى.. وقامت حركة حماس بانقلاب على السلطة وتفرغت لقتل الخصوم السياسيين قبل أن تقوم بمهمتها كحركة مقاومة.. وفى سياق ذلك التحول كان أن امتهن الدين وتم نقض قواعده وقيمه إلى الدرجة التى جعلت حركة حماس تلقى بخصومها من الطابق الـ 11 فى عمارات غزة.. وجعل حزب الله يقصف كل من يخالفه الرأى بالصواريخ.. كما فعل مع إحدى المحطات التليفزيونية.
واقعة الأردن
من الناحية العملية والأمنية والعقيدية، يعتبر جهاز مخابرات حزب الله تابعا أصيلا للمخابرات الإيرانية، وفى ضوء التبعية الدينية للحزب إلى إيران، فإنه لايمكن أن يقوم بعمل مماثل لذلك الذى قام به فى مصر بدون أن يحصل على ضوء دينى ومخابراتى أخضر من طهران.. ولذا فإن أكثر دولة انتقدت الإجراءات القانونية المصرية هى إيران.. وقد تابع الجميع تصريحات على لاريجانى رئيس مجلس الشورى ومنوجهر متقى وزير الخارجية. ويتصدر مقال جميل السيد الذى أشرت إليه بداية واقعة مهمة.. بغض النظر عن أنه قد حاول استخدامها كوسيلة لتقديم عرض علنى لتسوية القضية المنظورة قانونا فى مصر ضد خلية حزب الله. والواقعة هى أنه فى مطلع عام 2002 أوقفت السلطات الأردنية ثلاثة أعضاء فى حزب الله، بينما كانوا يقومون على حد وصفه (بمهمة الإمداد العسكرى واللوجيستى إلى المقاومة الفلسطينية) فى الضفة الغربية عبر الأراضى الاردنية.. وكانت الضفة وقتها محاصرة من قبل حكومة إرييل شارون. ويقول جميل السيد إن السلطات الأردنية قد أبدت وقتها انزعاجها من استخدام حزب الله لأراضيها فى هذا العمل، بينما هى موقعة لاتفاق سلام مع إسرائيل يوجب عليها احترام التعهدات.. ويضيف: لكن السلطات الأردنية لم تخرج بالأمر إلى العلن، بل عبرت عن انزعاجها عبر القنوات الدبلوماسية والأمنية لدى السلطات اللبنانية. ويمضى جميل السيد فى سرد وقائع السيناريو التالى.. وكيف أنه تلقى تعليمات من رفيق الحريرى بالتنسيق لإنهاء الأمر بين حزب الله والسلطات الأردنية.. وكيف أنه اقترح مخارج.. وحلولا.. انتهت بانتهاء الأزمة وتسليم المعتقلين وبدون أن يعرف أحد ما جرى. والواقع أن معنى من هذا الطراز قد طرحه بشكل أو آخر فى كلمة اعترافه حسن نصر الله يوم الجمعة قبل الماضى متخيلا أنه يمكن لمصر أن تقبل (مخرجا) من هذا النوع.. وقد جرت اتصالات أشرت إليها فى مقالى يوم الخميس الماضى فى روزاليوسف اليومية أحدهما تصدى له رئيس مجلس النواب اللبنانى نبيه برى.. والثانى قام به طرف آخر.. وكثير ما يطرح بعض الكتاب المناصرين لحزب الله مثل تلك التصورات.. غير أنى أود فى هذا السياق أن أذكر بعض الملاحظات الضرورية:
1- تثبت رواية جميل السيد أن التحرك خارج نطاق لبنان، وهى الأرض التى يعنى حصر أنشطة حزب الله فيها أن لديه شرعية المقاومة، هذا التحرك الخارجى ليس بجديد.. وبخلاف المتعارف عليه الآن من أنشطة رصدت فى البحرين والعراق واليمن.. وعدد من الدول الأفريقية.. فإن واقعة الأردن تعنى أن عملية مصر لم تكن الأولى من نوعها.. وأن هذا التصرف هو منهج عند حزب الله.. لاسيما فى اتجاه الدول التى وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل.. الأردن.. ثم مصر.
2- بغض النظر عن الإطار البراق لفكرة الدعم اللوجيستى والعسكرى للمقاومة عبر أراضى الاتصال مع دول الطوق، فإن هذا هو الغطاء الذى يستخدمه الحزب للتغطية على عملية شاملة للتوسع فى كل من مصر والأردن.. والذى ينظر إلى تاريخ بدء عملية حزب الله فى مصر - 2005- يدرك أنها لم تكن لها علاقة بأى أمر يخص الحصار الذى تعرضت له غزة فيما بعد.. فهى بدأت قبل أن تصل حماس إلى الأغلبية عبر الانتخابات وقبل أن تستولى على القطاع بانقلاب فى 2007 مما أدى إلى حصار القطاع وإغلاق معبر رفح. عمليا المؤامرة هنا تتغطى بشعارات المقاومة.. لكنها تستهدف ابتداع اى بؤرة لحزب الله فى مصر.. فى المقابل فإن المهمة التى يقوم بها الحزب لصالح الدولة الراعية فى البحرين تتعلق بتأليب الشيعة.. وكذلك فى اليمن حيث تتسع الامتدادات حول القرن الأفريقى.. وفى العراق حيث توجد أنشطة مختلفة لإيران.
3- يتجاهل الكثيرون خاصة رواة ومحللى حزب الله الوقائع الكاملة للقضية، ويقصرون توصيفها على أنها نوع من الدعم للمقاومة.. بقصد أن يكون هدف المؤامرة نبيلا أمام الرأى العام، ثم يتم الاعتذار عن أن هذا الهدف النبيل قد أدى إلى خطأ بانتهاك السيادة المصرية تماما كما حدث مع الأردن من قبل.. ولسنا فى هذا السياق مضطرين إلى أن نتقبل الرواية التى يسوقها حزب الله اختصارا لمهام خليته فى مصر.. فوقائع التحقيقات والمعلومات المتوافرة لدى السلطات المصرية تثبت بما لايدع مجالا للشك أن الأمر كان أوسع من هذا البعد الشكلانى الخاص بدعم تجاهلوا التحذي