ولد طارق البشري في الأول من نوفمبر سنة
1351هـ/1933م بحي حلمية الزيتون بمدينة القاهرة. وهو ينتمي لأسرة عريقة
اشتهرت بالعلم الديني والعمل بالقانون هي عائلة البشري التي يرجع موطنها
إلى محلة بشر التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال مصر. تولى جده
لأبيه سليم البشري 1332هـ/1914م شيخ السادة المالكية بمصر منصب شيخ
الأزهر، وكان عمه عبد العزيز البشري من أشهر أدباء مصر، أما والده
المستشار عبد العزيز البشري فقد كان رئيسًا لمحكمة الاستئناف حتى وفاته
سنة 1370هـ/1951م.
تخرج البشري في كلية
الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1372هـ/1953م بعد أن درس بها الفقه والقانون
والشريعة على كبار علماء مصر كالشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ علي الخطيب
والشيخ محمد أبو زهرة. وعين بعد تخريجه مباشرة بمجلس الدولة واستمر في
العمل به حتى أحيل للمعاش سنة 1418هـ/1998م – نائبا أول لمجلس الدولة
ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى التشريعية.
التكوين الفكري
بعد
تخرجه في حقوق القاهرة سنة 1953م، واصل البشري قراءاته الحرة، وصارت أكثر
تركيزًا في مجال عمله القضائي والقانوني، حيث عاش القانون عيشا على حد
قوله، فأمكن بذلك أن تلين مادته معه وتتطوع. ونتيجة قراءاته واطلاعاته
الواسعة كانت علاقته بالعلمانية أنه قرأها دون أن تكون له رؤية نقدية لما
يقرؤه، وبالتالي لم تكن مواقفه من العلمانيين حادة واضحة كما هي الآن.
ثم
قويت قراءاته باللغة الإنجليزية وكان له إلمام بالتاريخ الأوروبي السياسي
وبالحركات السياسية الموجودة وتعمقت هذه المعرفة بالتكوين الفلسفي
والاقتصادي وخرج من مجموع هذه القراءات علماني الفكر السياسي، وقد ظل كذلك
طيلة عشر سنوات (1379-1389هـ/1960م- 1970م) وكانت أبرز قراءاته في تلك
الفترة في الفكر السياسي والحركات السياسية الغربية والحركات الاشتراكية
والتجارب الثورية في العالم وحركات التحرر في العالم. بدأ البشري يكتب
بمجلة الطليعة ككاتب عام (1383-1384هـ/1964 – 1965م) وكانت الفكرة
الاشتراكية هي الفكرة المسيطرة عليه في تلك الفترة من حيث أنها عدالة
اجتماعية وبناء وطني مستقل من الناحية السياسية والاقتصادية.
بدأ
البشري في فكره السياسي بفكره الاستقلال الوطني السياسي التي كانت آنذاك
متصلة بحركة استقلال عالمية ووحدة عربية وبحركة بناء اقتصادي مستقل وقوي
في الداخل، وبخلاف فكره السياسي العلماني كان لدى البشري فكر إسلامي في
أمور ثلاثة رئيسية هي معرفته بالفقه والشريعة واحترام بالغ لدور الفقهاء
المسلمين وقدرتهم غير العادية كنسق قانوني. والأمر الثاني يتعلق بالرزق
الذي ظل دائما في قلبه وعقله يتعلق بأمر وقدر الله تعالى وفي هذه المساحة
يمارس البشري العمل العام على أساس أنه واجب والأجر هو رزق يأتيه من عند
الله. أما الأمر الثالث أن الصحة والموت مرهونان بقدر الله بدأ تحول
البشري إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967. وكانت مقالته "رحلة التجديد في
التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في الفكر الإسلامي واستمرت كتاباته
الإسلامية حتى يومنا هذا.
وقد تأثر "طارق
البشري" - بنسب متفاوتة - بعدد من كبار علماء العصر ومفكريه وعبر عن
مشاعره نحو البعض منهم، وتكلم عن مكانتهم في أمتهم، وأشار إلى صلته بهم،
وتقديره لهم.
ويعد الشيخ محمد الغزالي رحمه
الله هو صاحب الأثر الأكبر في تكوين طارق البشري، لقد كان كتاب "عقيدة
المسلم" هو أول كتاب يقرؤه له وقتها في السنة الثالثة بكلية الحقوق وكان
عمره ثمانية عشر عاما. ومنذ ذلك اليوم البعيد من عام 1370هـ/1951م بدأت
متابعته لكتابات الشيخ الغزالي. ومن أكثر ما تأثر به في منهج الغزالي على
حد قوله "التوازن العجيب الذي قدره الله عليه، واليسر والسهولة في التعبير
عن الأمور المعقدة، سيان أن تقرأه أو تسمعه، فتعبيره في الحالين يسير
مشرق، شجاعته وجسارته وقوته في الحق".
كما
تأثر أيضا بالأستاذ خالد محمد خالد وأعجب به، ووافقه في بعض آرائه،
وانتقده في بعضها الآخر. وقد تابعه في مواقفه الشجاعة، وهو بالنسبة له
"رجل موقف، يتكلم بقلب أسد، وثبات رجل".
كذلك
تأثر بمواقف الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر -رحمه الله- وأيده
في مواقفه القوية في دعم استقلال الأزهر الشريف، وفي الدفاع عن الإسلام
وعن معتقداته، وفي الذود عن حرمات الله، وفي النهوض بالأمانة التي تحملها،
وخاصة عندما صار شيخا للأزهر الشريف (من سنة 1402هـ/1982م إلى سنة
1416هـ/1996م).
ومصادر التكوين الفكري
والوجداني والثقافي لطارق البشري يظهر فيها تعددها وتنوعها – فهي متصلة
بروافد التراث العربي الإسلامي من ناحية، وبروافد الفكر الغربي الحديث
وتياراته الفكري والسياسية والثقافية من ناحية أخرى، سواء الوافد منها أو
عربي المنبت. والذي حدث أنه صار - وخاصة بعد تخرجه في الجامعة وبداية
حياته العلمية- علماني التفكير، يفصل بين الشئون العامة -بما فيها الشأن
السياسي- وينظر إليها على أساس علماني قح، وبين الشئون الخاصة، وينظر
إليها على أساس أخلاقي ديني. وقد تعمق توجهه "العلماني" مع تعمقه في قراءة
الفكر السياسي والفلسفي الغربي، ومع توسعه - أيضًا- في الاطلاع على تاريخ
الحركات السياسية والغربية، والثورات الاشتراكية في العالم، وما ارتبط بها
من تجارب ثورية وحركات تحررية في البلاد المستعمرة. وظل هكذا ذا تفكير
علماني لمدة عشر سنوات من 1379هـ/1960م إلى 1389هـ/1970م تقريبا، وهي
السنوات التي شهدت بدايات إسهامه بالكتابة في الشأن العامة، فقد بدأ يكتب
في عدد من المجالات اليسارية مثل "الطليعة" و"الكاتب" و"روزا اليوسف" وذلك
منذ سنة 64-1965 واستمر يكتب فيها على نحو متقطع إلى مطلع السبعينيات.
سؤال الهوية.. نقطة التحول
مثلت
حرب 1956م وهزيمة 1967 نقطة مراجعة وأسئلة عن مسلمات وأفكار البشري، فقد
أخذ يفكر منذ ذلك الحين ويسأل نفسه عن أسباب الهزيمة كما بدأ يفقد
اهتماماته بالمتابعات الأدبية لأنها لم تعد تغذيه أو تجيب عن الأسئلة
الكبرى التي تجول في ذهنه. من هنا بدأ البشري يتساءل من نحن؟ ويرى أننا
إذا كنا نريد أن نستقل وتكون إرادتنا السياسية ملكًا لنا فلا بد من تحقيق
الاستقلال الاقتصادي وقبل ذلك ومعه لا بد من تحقيق الاستقلال العقدي
والفكري والشعور بالهوية والانتماء المشترك وهذا لا يأتي إلا من الجانب
العقدي والحضاري والتاريخي.
قادت هذه
المراجعات والأمثلة البشري إلى شعوره باستعادة هويته المرتبطة بعقيدته
وحضارته وبدا له مأزق الفكر العلماني الذي يجرد الإنسان من هويته، كما بدا
له تناقض العلمانية مع قيم الديمقراطية التي هي في النهاية تكوينات شعبية
لها استقلالية ذاتية في إدارة شئونها الخاصة وانصياع الحكم لغالبية الناس
الذين قد اختاروا الموقف الديني والعقائدي أساسا لرؤيتهم.
يروي
البشري عن نفسه أن قمة استعادته لهويته الإسلامية كانت في رحلة الحج التي
قام بها سنة 1983م ويقول في ذلك: "ولم أسافر للحج إلا بعد أن وجدت نفسي
خلصت في الأمر وأعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي، وقد أخذ مني
ذلك وقتا كبيرا حتى أسافر وأنا نظيف، وهناك شعرت كأنني خرجت من جاذبية
كوكب معين إلى جاذبية كوكب آخر، وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي من الذي أتى
بي إلى هنا، وشعرت بهداية الله وتذكرت قوله تعالى "ثم تاب عليهم ليتوبوا
إنه بهم رؤوف رحيم".
وقوة الموقف -في رأي
البشري- لا تقاس بمساحتها الزمنية أو المكانية، ولكن الموقف القوي قد يلخص
عمرًا كاملاً لرجل أو لجماعة، وإن أقوى ما يكون الموقف مع النفس، وهو يرى
"أننا لن نكون أقوياء على غيرنا قبل أن نكون أقوى على أنفسنا منا عليهم".
قضية المواطنة
أفرز
التحول في حياة البشري من ضيق العلمانية إلى سعة الفكرة الإسلامية
ورحابتها سعة في الأفق ومنهج النظر إلى القضايا التي بانت تمثل إشكالات
على مستوى النظر والرؤية وعلى مستوى الواقع والممارسة.
ومن
تلك القضايا الشائكة التي قدم فيها البشري اجتهادا وتأصيلا إسلاميا قضية
المواطنة؛ فالمرجعية الإسلامية في رأي البشري ثقافية مفتوحة ولا تطرح
كعقيدة مغلقة على أصحابها، كما أن هذه المرجعية لا تخل بمبدأ المساواة
اللازمة بين المواطنين وإذا اختلفت أديانهم؛ حيث إن المساواة كانت متحققة
في الفقه الإسلامي بالنسبة للحقوق الخاصة وتقوم المشكلة فيما يتعلق
بالولاية العامة (تولي المناصب الرئاسية في الدولة أو القيادية في الجيش
والقضاء)، ويقوم الاجتهاد الذي يقدمه البشري في هذا الشأن على أن الولاية
العامة التي كان الفقه التقليدي يشترط فيمن يمارسها الإسلام انتقلت من
الأشخاص إلى الهيئات والمؤسسات فلم تعد مرتبطة بالإرادة الشخصية أو القرار
الشخصي وإنما انتقلت إلى هيئة معنوية جماعية تحتكم إلى دستور ثابت أو إطار
مرجعي وتصدر فيها القرارات بأغلبية التصويت أو بالمشاركة بين عدد من
الأشخاص والهيئات ولما كان الفقه التقليدي بولاية غير المسلمين في
الولايات التنفيذية ثم جاء هذا الاجتهاد ليحل مشكلة الولايات العامة جميعا
تنفيذيا وتفويضيا فصارت المساواة بين المسلمين وغيرهم كاملة بعدما انتقلت
الولاية من الأشخاص إلى الهيئات.
البشري.. القاضي المفكر
تنوعت
أعمال البشري الفكرية بين فكر وقانون وتاريخ لكن جميعها ترسم الإطار
الفكري والمنهجي للقاضي المفكر، لعل من أهمها كتاب "المسلمون والأقباط في
إطار الجماعة الوطنية"، و"بين لإسلام والعروبة"، و"منهج النظر في النظم
السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي". كما أنه بدأ سلسلة كتب تبين
الأزمة الإسلامية تحت عنوان "في المسألة السياسية المعاصرة" صدر منها 4
كتب. أما آخر كتبه فكان معايشة الأزمة القضائية في مصر والذي صدر بعنوان
"القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء".