مصر والقمة العربية
كانت المقاطعة المصرية لقمة الدوحة العربية حدث القمة الأكبر ولكنها لم تكن مقاطعة كاملة، حيث تغيب الرئيس المصري وأرسلت مصر وزيرا من الدرجة الثانية لتمثيلها وهي الدولة العربية الرئيسة، الدولة المضيفة للجامعة العربية وصاحبة فكرة القمة الدورية، وما كان يمكن تفسير الموقف المصري سوى بالمقاطعة.
ومما شاع حول أسباب هذه المقاطعة دار حول غضب القاهرة من الطريقة التي تعاملت بها قناة الجزيرة مع الحرب على غزة والموقف المصري من الحرب. وربما كان هذا بالفعل أحد الأسباب وراء قرار المقاطعة، ولكن الأسباب الأهم تتعلق بمسائل أخرى:
فالعلاقات المصرية – القطرية تمر بأسوأ فتراتها، سواء بفعل الخلافات العربية المتفاقمة منذ عدة سنوات، وعلاقات قطر الوثيقة بسورية، أو بسبب رفض قطر الانصياع لسياسات التصعيد التي تتبعها دول ما يعرف بمعسكر الاعتدال العربي ضد إيران.
"
تصميم قطر على عقد المؤتمر بمن حضر، ودعوتها لممثلين إيرانيين وأتراك، وتمثيل فلسطين في المؤتمر بقيادات تنظيمات المقاومة المعارضة لحكومة رام الله والرئيس عباس، نظر إليه في القاهرة باعتباره تحدياً صارخاً للسياسة المصرية
"
من ناحية أخرى، كانت القاهرة قد وقفت بقوة أمام محاولة قطر عقد قمة عربية طارئة أثناء الحرب على غزة، على اعتبار أن القرار العربي في الملف الفلسطيني هو قرار مصري. ولكن تصميم قطر على عقد المؤتمر بمن حضر، ودعوتها لممثلين إيرانيين وأتراك، وتمثيل فلسطين في المؤتمر بقيادات تنظيمات المقاومة المعارضة لحكومة رام الله والرئيس عباس، نظر إليه في القاهرة باعتباره تحدياً صارخاً للسياسة المصرية.
وليس ثمة شك في أن دوائر الدولة المصرية تنظر بشك كبير إلى علاقات قطر الوثيقة بحركة حماس، وترى أن هذه العلاقات تصب ضد التأثير المصري على الحركة. إلى جانب ذلك، فإن علاقات قطر التي تزداد وثوقاً مع أنقره، والجهود القطرية للتوصل إلى مصالحة بين الدارفوريين والخرطوم، أضافت إلى تفاقم الشكوك المصرية في الدور القطري.
كما أرادت القاهرة بمقاطعة القمة التوكيد على أن المصالحة العربية لم تنجز، وربما حتى لم تحقق ولو تقدماً متواضعاً، في حين أشار حضور السعودية القمة إلى رغبة السعوديين في وضع مسافة ولو قصيرة بينهم وبين الموقف المصري.
مصر وخلية حزب الله
بعد إعلان القاهرة الكشف عن "خلية" لحزب الله تنشط في الأراضي المصرية، دار جدل حول ما إذا كانت مصر تحاول التأثير في نتائج الانتخابات اللبنانية، وما إذا كان الإعلان يستبطن حملة تشويه للحزب وتصعيداً جديداً في العلاقات المصرية – الإيرانية، وما إذا كان رد الفعل المصري مبالغاً فيه، أو أن حزب الله انتهك المحرمات الأمنية المصرية.
بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه الاحتمالات، فمن الصعب فصل مسألة الخلية عن حجم الحملة الإعلامية التي رافقت الكشف عنها، سيما أن القبض على عناصر الخلية الرئيسية قد سبق الإعلان بعدة شهور.
والحقيقة، أن السلطات المصرية تغض النظر، ولو جزئياً عن تهريب السلاح عبر الحدود مع قطاع غزة؛ وليس من الواضح أصلاً ما إن كانت خلية حزب الله قد ساهمت مساهمة ملموسة في التهريب. وبالنظر إلى طرائق حزب الله في العمل، فربما يمكن التوكيد على أن "الخلية" لم تمارس نشاطاً شيعياً تبشيرياً في مصر. وبالرغم من أن من المتوقع أن "الخلية" حاولت جمع معلومات حول حركة الإسرائيليين في مصر، فمن الواضح أنها لم تمارس أية نشاطات مسلحة ضد أهداف إسرائيلية في الأراضي المصرية.
فلماذا إذن كل هذه الحملة؟ مع العلم أن الحملة الإعلامية قد اقتصرت على الصحف ووسائل الإعلام الحكومية، بمعنى أنها كانت حملة منظمة ذات أهداف محددة:
1. وأحد أهم هذه الأهداف هو بالتأكيد خلق جدار بين الرأي العام المصري وتيار المقاومة العربي، خطاباً ومسوغاً وعملاً.
2. والهدف الثاني، زرع فكرة التناقض بين السيادة الوطنية المصرية والتوجهات المعادية للدولة العبرية.
3. أما الهدف الثالث فيتعلق بتوكيد موقع الدولة كمرجعية قاطعة للسلم والحرب، ومن ثم إظهار جدية الدولة المصرية في التعامل مع ما يمثل تهديداً لأمن الكيان الإسرائيلي.
دلالات السياسة المصرية
"
يقابل ضعف وتراجع الدور المصري العربي فقدان ثقة مصرية بالنفس أمام إسرائيل، خاصة بسبب ما تفرضه معاهدة السلام على مصر
"
تشير مجمل السياسات المصرية تجاه الملفات السابقة إلى أن هذه السياسة لا تخرج من مأزق حتى تدخل نفسها في مأزق آخر.
وكان يمكن بتحوير بسيط في الموقف من الحرب على غزة، وفي الموقف من حماس وحزب الله، وفي التعامل مع المسائل العالقة مع قطر، أن تصبح السياسة المصرية في المجال العربي أقل إشكالية وأقرب إلى مناخ التضامن العربي، وأكثر توكيداً على حجم مصر ودورها العربي.
ولكن مثل هذا النهج لم يكن ممكناً لأن ثمة رابطاً موضوعياً بين مجمل السياسات المصرية العربية. هذا الرابط الموضوعي يمكن رؤيته في المحددات التالية للسياسة المصرية:
1. ليس ثمة مشروع لدى الطبقة المصرية الحاكمة، لا مشروعاً وطنياً مصرياً ولا عربياً، هذا على افتراض وجود تباين بين الدائرتين. والهم الرئيس لهذه الطبقة هو تأبيد قبضتها على مقاليد الحكم والدولة، وتوريث مقاليد الحكم والدولة ضمن دائرة الطبقة نفسها. وبغياب المشروع، لم يعد لمصر من رأسمال سياسي ترتكز إليه في كافة الملفات العربية الرئيسية.
2. يقابل ضعف وتراجع الدور المصري العربي فقدان ثقة مصرية بالنفس أمام إسرائيل، خاصة بسبب ما تفرضه معاهدة السلام على مصر. ويمكن القول إن القاهرة تخشى بالفعل عودة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، التي لا يوجد على أرضها جندي مصري واحد يمكن أن يقف أمام هجوم إسرائيلي.
3. غياب المشروع وفقدان رأس المال السياسي لا يعني أن الطبقة المصرية الحاكمة لا تتعلق بأوهام الدور والتأثير، ليس فقط لأن حجم مصر وموقعها يفترضان مثل هذا الدور والتأثير، ولكن أيضاً لأن شرعية الحكم الداخلية ستتعرض لمزيد من التآكل في حال ساد الشعور لدى الرأي العام المصري بتراجع الدور والتأثير المصريين.
4. لحل التناقض القائم بين غياب المشروع وفقدان رأس المال السياسي، من ناحية، والمحافظة على وهم الدور والتأثير، من ناحية أخرى، تلجأ السياسة المصرية الرسمية إلى نشر المخاوف والمبالغة في المخاطر، مصرياً وعربياً: إيران خطر داهم يتهدد العرب؛ تركيا مصدر قلق؛ حماس وحزب الله خطران يهددان سيادة مصر وأمنها ويزرعان الانقسام في الساحة العربية؛ سياسات هذه الدولة العربية أو تلك خطر يتهدد الوضع العربي ككل؛ وهكذا.
5. ولأن الطبقة المصرية الحاكمة (وحتى قطاع واسع من قادة أجهزة ومؤسسات الدولة) وقعت هي أيضاً أسيرة لأجواء الخوف والخطر المبالغ فيها، فقد أصبحت ردود فعلها تتسم بالعصبية وفقدان المسوغات العقلانية والسياسية، مما يحول مصر تدريجياً إلى عبء على الوضع العربي، بدلاً من أن تكون قائداً ومشاركاً رئيساً في تحمل أعباء هذا الوضع.
6. المشكلة التي ستواجهها المنطقة العربية أن فراغاً سينجم عن التراجع في النفوذ المصري الإقليمي، بما يستدعي من يملأ هذا الفراغ.