Admin Admin
عدد الرسائل : 6019 العمر : 124 الموقع : ساحات الطيران العربى الحربى نقاط : 10224 تاريخ التسجيل : 05/10/2007
| موضوع: عادات الدفن في وادي النيل الثلاثاء أكتوبر 26, 2010 12:00 pm | |
| عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة إن دراسة لعادات الدفن النوبيةوالسودانية خلال مجمل التواتر الثقافي هى مسألة بالضرورة معقدة ومهمة غيرمكتملة، وذلك بفعل أن علم آثار تلك المنطقة قد ركز بصورة رئيسة علىالتنقيب في المدافن. الأكثر أهمية، أن المدافن تؤلف وحدات منغلقة تحوي، فيمعظم الحالات، معطيات غنية ومتماسكة مميزة لعصرها، والتى استخدمت بفعل ذلكمحددات كرونولوجية وثقافية. ساعد تحليل المجاميع والمنشئات الجنائزية الىحد بعيد في التعرف على الثقافات النوبية، وفي تثبيت كرونولوجيتها، وفيتحديد علاقاتها بالمناطق الأخرى وبالثقافات السابقة/ اللاحقة، وفي نهايةالمطاف في فهم بنياتها الاجتماعية. الأسباب التى قدمت عادة لتبرير النشاطالمكثف للتنقيب في المدافن هو توفر موضوعات مكتملة بداخلها. لكن، للأسبابالمذكورة في الأسطر السابقة، فإن وجهة النظر هذه تحتاج الى إعادة نظر :محتويات المدافن تمكننا من انشاء اطار كرونولوجي، وثقافي، واجتماعي،واقتصادي لكل بحث لاحق.
إن المقابر وقد استخدمت بداية وقبل كل شئ محددات كرونولوجية واجتماعية-ثقافية، قد تم دراستها كوحدات في ذاتها. إن ذات طبيعة فرع معرفتنا قد تكونمسئولة عن ذلك. كيف يمكن لبقايا مادية محضة أن تكشف عن المعتقدات والأفكارالمحتواة فيها؟ على كلٍ، يمثل الموت لأية مجموعة اجتماعية حدث جلل مصحوببعدد لا نهائي من المعاني الضمنية. فكما سجلته المدنية المصرية القديمةوأكدت عليه " فإن رد الفعل تجاه الموت ليس أمراً عشوائياً لكنه ذو معنىوتعبيرHutington and Metcalf,1979:1. لكن، علماء الآثار، في أبحاثهم، لابدَّ لهم من استيعاب الواقع الصعب. منذ الأزمان القديمة، طال الكثير منأعمال النهب والتخريب للمواقع، إما بفعل إنساني أو طبيعي، معظم الجباناتمما أدى إلى زوال العديد من المعطيات. فكما ذكر محقاً آدمز1977:156"... إنالكشف عن مدفن في حالته الأصلية يمثل رسالة مقروءة لعالم الآثار". مع ذلكفإن مدفن في حالته الأصلية قد يكون فاقداً لكل أثر لمحتوياته العضوية.
ما قبل التاريخ تم الكشف عن أقدم المدافن في وادي النيل الأعلى في النوبة السفلى، في جبلصحابة Wendorf,1968bوالجزيرة دبروسا، بالقرب من وادي حلفا، وتوشكاWendorf,1968a:869-875ونسبت لثقافة قادان (حوالي 13000 - 8000 قبلالميلاد)، والتي تمثل نهاية العصر الباليوليتي في تلك المنطقة.
يذكر الأدب المتخصص جبانة جبل صحابة عادة لأسباب لا صلة لها بالطقوسالجنائزية. بالطبع، القطاع الأكبر من أهل الجبانة - رجال ونساء وأطفال -يظهرون مؤشرات دالة على حالة موت بفعل عمل عنف، ولوحظ أن مركب الأسلحةالحجرية التى قتلتهم وجد في داخل أجسادهم في بعض الحالات. مع ذلك، وفرتهذه الجبانة معلومة قيمة عن عادات الدفن. إنها المثال الهام الأول فيالمنطقة لسكان يمنحون اهتماماً بموتاهم و، من ثم، يمكن عدهم السباقون فيتثبيت تلك التقاليد التى ستظهر لاحقاً في النوبة؛ المقابر في منطقة تبدومخصصة للدفن فقط؛ يقبع العديد من المقبورين في حفر بيضاوية صغيرة محميةبصفائح رقيقة من الحجر الرملي؛ وضع الجثمان واتجاهه هو نفسه بالنسبة لكلالهياكل التى ترقد في وضع مقرفص على الجانب الأيسر، الرأس باتجاه الشرقوتتجه إلى الجنوب، الأيدي عادة أمام الوجه؛ في حالات، يضم القبر الواحدمدفنين إلى أربعة(شكل 1). على كلٍ، لم يتم الكشف عن محتويات قبر مع أنالعديد من المدافن سالمة في وضعها الأصلي. في توشكا والجزيرة دبروسا،اتخذت الهياكل الوضع نفسه رغم أن اتجاهها لم يخضع لضوابط ثابتة. في توشكالوحظت جمجمة بقرة برية (Bos primigenius) موضوعة من فوق العديد منالمقابر، وذلك في الغالب لتعليم موقع المقبرة.
شكل 1: جبانة قادان في جبل صحابة. صورة الركن الجنوبي الشرقي (نقلاً عن وندورف)
يبدو ان تلك البدايات المدهشة للتقاليد الجنائزية في النوبة لم تستمر.فبرغم عمليات الاستكشاف الشامل، لم يتم الكشف عن مقبرة نيوليتية في النوبةالسفلى. غير واضح عما إذا كان ذلك يعزى للبحث الميداني غير المتقن أوتعرية الموقع أو غياب نشاطات الدفن. على أية حال، فإن الاكتشافات الأخيرةفي السودان الأوسط قد عدلت لحسن الحظ الوضع ووفرت بينة دالة على تطورعادات الدفن خلال هذا العصر.
ترجع أقدم المدافن في هذه المنطقة إلى ما يعرف بـ الخرطوم الميزوليتية(حوالي 8000 -5000 ق.م.) وتختلف اختلافاً كبيراً عن القادانية في النوبةالسفلى. كانت وسط مواقع الإقامة ولم تحتل مناطق مخصصة. لم تكن على هناكضوابط محددة تحكم اتجاه الجثمان أو وضعه. مع أن الهياكل مقرفصة في
حالات، فإنها في الغالب ترقد الظهر مع الأرجل في حالة انحناء إلى الأماموالأيدي بعيدة عن الوجه (شكل 2). في شابونا، بالنيل الأبيض، تم الكشف عنهيكلين فقط في حالة حفظ جيدة وكانا كلاهما يرقدان في وضع ممدد على ظهريهماClark,1989. لا تظهر المقابر ولا الهياكل أي غطاء خارجي أو حماية ولا وجودلمحتويات قبر، باستثناء حالات قليلة: في السقاي Caneva,1983:21-24والخرطوم Arkell,1949:31-35، صدف محار قد يكون مرتبطاً ببعض المدافن؛ فيالخرطوم، صاحبت شقفة فخار كبيرة أحد الهياكل ووضعت كمسندة للرأس في حين أنهيكل
شكل 2: مدفن ميزوليتي في السقاي (نقلاً عن كانيفا)
آخر تزين بعقد من خرز من بيض نعام. عادات دفن أكثر تعقيداً تظهر فقط فيوقت لاحق، في مواقع الخرطوم النيوليتية (الألفية الخامسة قبل الميلاد)،كما دللت على ذلك أعمال التنقيب في الكدرو Krzyzaniak,1984 والغابةGeus,1984; Lecointe,1987، حيث تم التنقيب مؤخراً في جبانات كبيرة. جديربالملاحظة ان المقابر هناك، كما في النوبة قبل عدة الآلاف من السنين، تقعخارج مواقع الإقامة في مناطق مخصصة لذلك.
تعرف المنقبون في الغابة، بقدر ما سمحت الترسبات، على حفر دائرية أو شبهدائرية تتفاوت أقطارها من 120 سم إلى 160 سم. احتوت تلك الحفر على هيكلواحد في كل منها يرقد في وضع مقرفص بدون اتجاه محدد. الهيكل عادة يتزينبحلي - أسورة، عقود، وحلق شفاه - ويرقد في منتصف الحفرة، التى احتوت كذلكعلى أواني فخارية، وبصورة استثنائية، أدوات من الحجر والعظم، وصدف محاروشظايا ملكيت. أثار خضراء اللون وجدت في حالات على الأسنان والجماجم؛ آثارحمراء اللون تظهر على العظام والترسب المحيط بها؛ وجدت مناطق بلون أبيضسميك تحت الجماجم والقدمين. بالإضافة، في المدافن الأكثر حداثة، وضعت فيبعض الحالات جمجمة أو اثنتين بالقرب من جمجمة المتوفى.
تمثل مدافن الخرطوم النيوليتية تطوراً ملحوظاً مقارنة بمدافن الخرطومالميزوليتية، والتي يمكن الكشف احتمالاً عن جذورها في المدافن القادانيةالأقدم. يمكن ملاحظة ذلك بصورة أكثر وضوحاً في السلوك تجاه الموت، والذيينظر إليه تعبيراً عن شكل آخر من الوجود وهو ما قد تشير إليه حقيقة وضعالمتوفى الذى يذكرنا بالمرحلة الجنينية في الرحم ومن ثم حدث الميلاد. معجهلنا بما يشمله هذا العبور فإننا قد نميل إلى احتمال النظر إليه بوصفهطقس استهلال ختامي يعبر من خلاله السكان عن رغبتهم في مساعدة المتوفىبتقديم عناصر من حياته السابقة، بالتالي التفسير المحتمل لوجود الزينةالشخصية والممتلكات، وأيضاً ضرورة حماية الحفر. يكتشف عالم الآثار للأسفالبقايا المادية لهذا السلوك فقط، متجاوزاً مغزاه العميق، والمعتقداتالكامنة والطقوس الدينية والسحرية المرتبطة به. بالتالي فإن التقاريرالمنشورة عن مواقع الدفن عادة ما تحتوي بالضرورة على كشف المحتويات الممل،لكنه المفيد، الذى يناقش بتفصيل البقايا المادية، لكنه نادراً ما يتناولالمفاهيم الجنائزية والمعتقدات نفسها.
لنعود إلى موضوعنا، دفن المتوفى في الغابة بمفرده في حفرة تشغل وضعاًقبولادياً. ليس هناك اتجاه ثابت محدد. يلبس المتوفى الحلي التى تزينه خلالحياته والتي تنسب احتمالاً إلى قوى وقائية. الألوان التى وجدت داخل الحفرتظهر أن اهتماماً كبيراً كرس للجثمان. هناك بالطبع بقايا غطاءات وكساءاتمغرة (حمراء)، أو مساند رأس ومساند رجلين (بيضاء) وطلاءات وجه غالباً ذاتأهمية سحرية (خضراء). موضوعات مختلفة تحيط بالجثمان، تشير إلى حياته أووضعه الاجتماعي السابق. لم تكن الجرار الفخارية هناك بغرض احتواء الطعام،كما قد يعتقد، طالما أنها وضعت دائماً مقلوبة وفي حالات فوق بعضها الآخر.يحتمل أن تكون قد استخدمت أثناء احتفال طقوسي قبل إغلاق المدفن. أخيراًفإن جماجم الثيران، التى تظل وظيفتها غير معروفة، تشير إلى أهمية الماشيةللمجتمع وللطقوس الجنائزية.
في الوقت الذى تبدو فيه القبة تدليلاً جيداً لأنماط الدفن التى ظلت سائدةفي المكان حتى إدخال المسيحية، فإنها أقل توضيحاً للتقاليد الجنائزيةالأخرى. لا يمكن الكشف عن مظهر خارجي للقبور وتبدو الجبانة في مجملها قدتطورت وفق خطوط كرونوطبوغرافية صارمة، وهو ما قد يشير إلى بنية اجتماعيةمساواتية. الانحراف الوحيد في الترتيب الأفقي للمقابر وجود مساحة شاغرةاحتمالاً شغلت ببناء مادي لم يعد من أثر له للأسف. رغم أن الكدرو معاصرةللغابة فإنها تظهر تطوراً أشد تعقيداً حيث رتبت مدافنها في طبقات يفترض أنتمثل وحدات عائلية أو اجتماعية.
شكل 3: إعادة تركيب تخطيطية لمقبرة في الكدادة (نقلاً عن رينولد)
مع ذلك، فإن ازدهار العادات النيوليتية تتجسد في الكدادة (الألفية الرابعةق.م.) المجاورة للغابة واللاحقة لها Geus 1984 ; ReinoldM1987:21-41. تمتنقيب منطقتين رئيستين هناك، بما في ذلك واحدة تحتوى على العديد من طبقاتالمقابر مثل الكدرو(شكل 3). ظلت المدافن تشغل حفر دائرية وشبه دائرية؛وترقد الهياكل في وضع مقرفص على جانبها بدون اتجاه محدد (شكل 4). كما فيمدافن الغابة، كانت هناك بقع ملونة تشير إلى ملابس، وأغطية، ووسادات،ومراتب؛ لكن لم يوجد طلاء وجه، مع أن شظايا ملكيت وجدت وسط القرابين. وفيحين تنوعت المجاميع الجنائزية وتعددت، فإنها كانت ذات الطبيعة نفسها، لكنالجرار كانت في وضع عمودي. تماثيل أنثوية من الفخار كانت احتمالاً
أكثر الإبداعات أهمية. ورغم أن وظيفتها المحددة لازالت عرضة للنقاش، فإنهاتشير إلى تطور ملموس بلا شك في المفاهيم الجنائزية والتي أكدت عليهاإبداعات أخرى: احتوت العديد من الحفر على مدافن من فوقها؛ هياكل كلاب و،بدرجة أقل، هياكل أغنام وجدت في المقابر، إلى جانب جماجم الثيران؛وأخيراً، وجدت عادة دفن الأطفال داخل جرار كبيرة في موقع الإقامة (شكل 5).أحد أهم الملاحظات الجديرة بالذكر تتعلق بالمدافن الفوقية والتي تحتوي علىفردين أو ثلاثة. يبدو أن التحليل المقارن يشير إلى وجود القرابين البشريةفي تلك المدافن التى تحتوى على ثلاثة أجساد. إذا تأكد ذلك، فإن تلك تكونبمثابة الحالة الأولى لنشؤ عادة قدر لها الانتشار في الأزمان اللاحقة،بخاصة في كرمة. هذا الوجود للقرابين البشرية، والتعقيد المتزايد للمقابروترتيبها في طبقات كلها عناصر تشير إلى مجتمع غير مساواتي أخذت فيه عناصرالتراتب الاجتماعي في البروز.
شكل 5: دفن داخل جرة في الكدادة (a) جرة مزخرفة تحتوي على الجثمان؛ (b) محار نيلي؛ (c) جمجمة؛ (d-e) جرار فخارية؛ (f-g) بيض نعام
شكل 4: مدفن نيوليتي في الكدادة (a) جمجمة ثور؛ (b) هيكل لكلب محطمجزئياً؛ (c) جرار فخارية؛ (d) شظايا مالاخيت؛ (e) خنجر؛ (f) فأس؛ (g)ألواح ظران مكسرة
تم إثراء معلوماتنا عن تلك العادات الجنائزية من خلال التنقيب في مدافنالسودان الأوسط. الأعمال الميدانية في الماضي القريب والتي أجريت في حوضكرمة شكلت امتداداً جغرافياً إلى الشمال بالنسبة لتلك التنقيبات. جباناتهامة يرجع تاريخها إلى فترة الكدادة نفسها تم التنقيب فيها حول كدروكةReinold,1987:44-54[للمزيد عن موقع كدروكة أنظر في هذا العدد الرابع] حيثأنه، بفضل ظروف الحفظ الملائمة، تمكن المنقبون من ملاحظة عناصر جديدةتتعلق، بصفة خاصة، بتوزيع المدفن واتجاه الجثمان.
التاريخ المبكر المؤسف أن تلك الاكتشافات نالت فقط نشراً محدوداً لكونها تتعلق بالنوبةحيث عُلمت نهاية العصر النيوليتى بظهور ممارسات الدفن الهامة الخاصةبمواقع المجموعة الأولى Nordsröm,1972، والمجموعة الثالثةBietak,1968، وكرمة Bonnet et al.,1990 والتي خلفت لنا العديد من البقاياالمدهشة. المجاميع الجنائزية يمكن مقارنتها بتلك التى سبق وصفها بالنسبةللسودان الأوسط وتحتوي على زينة شخصية، وملابس، وأغطية، وأدوات زينة،وأدوات وجرار فخارية.
على كل، فانه ولغياب مقابر محلية سابقة لها مباشرة، فإن مدافن المجموعةالأولى (حوالي 3500-3000 ق.م.) تمت مقاربتها عادة بمدافن مصر العليا، التىعُدت سلفاً لها. في الواقع، فإن الجبانة الأقدم المنسوبة للمجموعة الأولى،الواقعة في خور بهن في شمال النوبة السفلى، يصعب تمييزها عن نظيرتهاالمصرية الامراتية. في معظم الحالات، يقبر الميت في حفرة شبه مستطيلة أوبيضاوية، ويرقد في وضع مقرفص على جانبه الأيسر، والرأس في الجنوب متجهةإلى الغرب.
رغم أن التأثير المصري في أشكال الحفر وضوابط الاتجاه الصارم جلية ولايمكن استبعادها، فإن ذلك التأثير أقل وضوحاً فيما يتعلق بوضع القرابينبالقرب من الميت. أثبتت أعمال التنقيب في الغابة، والكدادة، والكدرو، أنهفي الجنوب، النائي عن التأثيرات المصرية، فإن تأثيث المقابر كان ممارسةمنتشرة. بالإضافة، تظهر مدافن المجموعة الأولى صلات بمدافن المنطقة الأبعدجنوباً، التى من بين أهمها وجود التماثيل الأنثوية المصنوعة من الفخار فيداخلها. يكون مغرياً القول بأن وجود المدافن الفوقية، والتي لا ترتبطبقرابين بشرية، هي صلة أخرى. لكن العادتان تم توثيقهما بالمثل في مصر ماقبل الأسرية. أخيراً فان كل من المجاميع الجنائزية والمصنوعات الفخاريةتتقاسم العديد من السمات المشتركة.
اختيار اتجاه محدد صارم، رغم أنه مأخوذ عن مصر، استجاب لضرورات دينيةواضحة فرضتها احتمالاً ظاهرة شروق الشمس ومغيبها. أيضاً فإن اختيار اتجاهصارم والعادة المدهشة لاستخدام جريان مياه النيل للدلالة على اتجاهالشمال، واللتين أصبحتا عادتين راسختين في النوبة، ترجعان إلى التأثيرالمصري.
إن جبانات المجموعة الأولى بتركيبها كوحدات متجانسة نسبياً تمثل بالتأكيدمجتمعاً مساواتياً، غض النظر عن أنها تضم القليل من المقابر الفقيرةنسبياً. هذه الأخيرة تم تفسيرها بداية بصورة خاطئة بحسبانها نتاج تطوريونسبت إلى خلف للمجموعة الأولى الأكثر فقراً، المجموعة الثانية، والتيأثبت لاحقاً أن وجودها غير فعلي وغير صحيح. الأمر بعكس ذلك، فإن جبانتينفي سيالا وقسطل، ضمتا مقابر ذات ثراء لافت للانتباه، مما أثار إشكاليةالتفسير من وجهة نظر اجتماعية تاريخية. بالإضافة، قدمت الجبانة 268 فيتنكالا العديد من السمات الجديدة: بنى فوقية - تشبه في شكلها تلك الخاصةبالمقابر المتأخرة للمجموعة الثالثة - أماكن للقرابين وفخار قرابيني يغطيالمدافن الحفر، مشيراً إلى موضعها. على كلٍ، طالما أنها كانت الوحيدة فقطالموثقة، فإن تلك البني الفوقية لا يمكن عدها مؤشرات ثقافية كما هو الحالبالنسبة لتلك الخاصة بالمجموعة الثالثة.
من حيث البنية، فإن مقابر المجموعة الثالثة (حوالي 2200- 1500 ق.م.)مشابهة لمقابر المجموعة الأولى رغم تجلي بعض الاختلافات الدالة على تطورفي المفاهيم الجنائزية التى يمكن تفسيرها كنتيجة إما لمؤثرات مصرية أومؤثرات جنوبية. يتجلى هذا التطور بصورة أساسية في الاتجاه المختلفللجثمان، وفي غياب مدافن مضافة فوقية، وفي بناء غرف دفن بالطوب غيرالمحروق، وتعميم البني الفوقية المرتبطة بالقرابين و، في فترات لاحقة،وجود قرابين حيوانية. سمة مدهشة تمثلت في الوجود المتكرر لتماثيل من الطينتصور نساء وأبقار.
مع ذلك، فإن هذه الثقافة المتجذرة في النوبة السفلى لأكثر من ألف عام، مننهاية المملكة القديمة (3) حتى وسط الأسرة الثامنة عشرة، قدر لها أن تتطوروبالتالي أن تحسن أنماطها. تلك التغيرات تتبدى بوضوح في المجاميعالجنائزية المعتمدة بشدة على العلاقات بمصر، التى كانت بدورها تشهد تغيراتعلى مدى الأزمان. وتتبدى أيضاً في المباني الجنائزية وطرق الدفن.
الحفر التى بدأت دائرية إلى حد ما أو ذات أشكال مستطيلة، أصبحت مستطيلة معألواح حجرية مصطفة تغطيها في بعض الحالات. خلال المرحلة الانتقاليةالثانية، تم توسيع الحفرة في المقابر لتتحول إلى غرفة من الطوب غيرالمحروق، مغطاة في حالات بقنطرة، تشيد عادة فوق مستوى الأرض(شكل 6). غطت مبان حجرية، مكونة من حجارة جافة دائرية مغطاة بالحصى والرمل، الحفرة.مع زيادة في الحجم، من 2 - 3 متر في القطر الى 16 خلال المرحلة الانتقاليةالثانية، تدنت نوعية البناء. منذ البدايات الأولى وضعت جرار و، في حالاتأكثر، مسلات مستطيلة وجماجم ثيران على حوافها الخارجية. في أوقات متأخرةمن المرحلة الانتقالية الثانية، شيد مصلى من الطوب غير المحروق أو مكانللقرابين في حالات في الجزء الشمالي للمبنى.
شكل 6: مبان فوقية لمدافن المجموعة الثالثة (نقلاً عن يونكر)
وضع المتوفى في وضعية مقرفصة في الحفرة وفق اتجاه تغير خلال المملكةالوسطى : شرق- غرب، الرأس في الشرق متجهة شمالاً أصبح شمال - جنوب، الرأسمتجهة غرباً. زين المتوفى بحلي مختلفة، في الأساس عقود وأسورة. تدل العديدمن المكتشفات على وجود ملابس- سواتر العورة، والصنادل، والقبعات،والمخدات. إبداع هام في المرحلة الانتقالية الثانية تمثل في إدخال الدفنفي عنقريب.
يظهر هذا الوصف أن إسهام المجموعة الثالثة كان جلياً بالنسبة لتطورالمباني الجنائزية أكثر منه بالنسبة لتغيرات المجاميع الجنائزية. بنهايةالمرحلة، مجاراة للنموذج الذى يظهر في المجموعة الأولى واحتمالاً تحتالتأثير المصري، أصبحت المقبرة تحتوى على غرفة دفن، وبنية فوقية ومصلى،وهو تقليد تم الاحتفاظ به في الفترات اللاحقة. التغيرات في اتجاه الجثمانالتى حدثت خلال المملكة الوسطى كانت ذات أهمية دينية محددة لكنها غامضةلازالت.
حدثت تغيرات أخرى هامة. فرغم أن معظم الجبانات تتألف من مقابر متشابهةنسبياً تشير، بالنسبة للمجموعة الأولى، إلى مجتمع مساواتي، فإن مقابر أكبروأكثر ثراءً، تظهر خلال المرحلة الانتقالية الثانية على أطراف الجبانات،كاشفة عن بداية عملية التراتب الاجتماعي. يشير ذلك إلى التأثير من ثقافةكرمة الجنوبية، والذي ينعكس أيضاً في إبداعات جنائزية مثل جماجم الثيرانوالدفن على عنقريب (4).
بالطبع، فإنه فقط إلى الجنوب من بطن الحجر سجل المنقبون التطور الأكثرإثارة للتقاليد الجنائزية الخاصة بتلك المرحلة وبخاصة في كرمة، حيث توجدجبانة تتألف من حوالي 30.000 مقبرة إلى الشرق من المدينة القديمة. قادتأعمال جامعة هارفارد ومؤخراً بعثة جامعة جنيفا إلى الكشف عن معلومات تتعلقبتطور التقاليد الجنائزية من أصول تلك الثقافة حتى اختفائها في بداياتالمملكة الحديثة عبر ثلاث مراحل متتالية وسمت بكرمة القديمة والوسطىوالكلاسيكية (حوالي 2500- 1500 ق.م.).
الأساس، وهو عادة حفرة منفردة، تحول بطريقتين : أولاً، القسم الأفقي،دائري أو بيضاوي خلال فترة كرمة القديمة، أصبحت أكثر استدارة في فترة كرمةالوسطى وأخيراً مستطيلة في فترة كرمة الكلاسيكية؛ ثانياً، الحفرة، أصلاًصغيرة، زاد حجمها إلى درجة معتبرة في خلال فترة كرمة القديمة لتعود إلىحجمها الطبيعي في فترة كرمة الكلاسيكية.
| |
|