فلسطين عبر التاريخ
مقـدمة
ثلاثة جوانب تجعل القضية الفلسطينية القضية الأبرز التي شغلت – ولا تزال تشغل العالم والعربي والإسلامي:
الجانب الأول: طبيعة الأرض بقدسيتها وبركتها ومركزيتها في قلوب المسلمين.
والجانب الثاني: طبيعة العدو بخلفيته العقائدية وعدائه التاريخي.
والجانب الثالث: طبيعة التحالف الغربي – الصهيوني الذي هدف أساسا إلىتمزيق الأمة الإسلامية، وإضعافها وإبقائها مفككة الأوصال، تدور في فلكالتبعية للقوى الكبرى.
ولذلك يمثل التحدي اليهودي الصهيوني، الذي انزرع في فلسطين – قلب العالمالإسلامي – بأشكاله العسكرية والسياسية والحضارية، أبرز التحديات التيتواجه الأمة المسلمة، وسعيها نحو التحرر والوحدة والنهضة، لاستردادمكانتها وريادتها بين الأمم.
وليس بخاف أن هذه القضية لم تكن يوماً قضية الفلسطينيين وحدهم؛ لأن إنشاءالكيان اليهودي – الصهيوني على أرض فلسطين لم يكن إلا مركزاً متقدماًلتنفيذ هذا البرنامج الغربي – الصهيوني، وسواء التقى ذلك مع أهداف أخرى منحل مشكلة اليهود في أوروبا، أو التعاطف الديني مع رغباتهم، فإن الحقيقةالصارخة تكشف مدى الظلم الذي يرتكبه الغرب في تهجير شعب فلسطين وتدميركيانه، وتعريض العالم الإسلامي للخطر، والاستقرار العالمي للانفجار، فيسبيل تحقيق أهدافهم تلك، في عالم يزعمون فيه دعوتهم للسلام العالمي وحقوقالإنسان.
فلسطين:
يطلق اسم فلسطين على القسم الجنوبي الغربي لبلاد الشام، وهي الأرض الواقعةغربي آسيا، على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ولفلسطين موقع استراتيجيمهم، إذ تعد صلة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ونقطة التقاء جناحيالعالم الإسلامي.
وقد سكن الإنسان أرض فلسطين منذ عصور موغلة في القدم، كما تدل الحفرياتوالآثار، وشهدت أرضها مراحل التطور الإنساني الأولى في التحول من الرعيإلى الزراعة، كما أن أول مدينة جرى تشييدها في التاريخ هي مدينة (أريحا)الواقعة شمال شرقي فلسطين وذلك نحو 8000 ق.م حسبما يذكر علماء الآثار.
وأقدم اسم معروف لهذه الأرض هو: (أرض كنعان)، لأن أول شعب سكن هذه الأرضومعروف لدينا تاريخياً هم (الكنعانيون)، الذين قدموا من جزيرة العرب نحو2500 ق.م. واسم فلسطين هو اسم مشتق من اسم أقوام بحرية، لعلها جاءت من غربآسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة حوالي القرن الثاني عشر ق.م وورد اسمها فيالنقوش المصرية باسم "ب ل س ت"، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقدسكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، فلم يبق لها أثرمميز سوى أنهم أعطوا الأرض اسمهم.
أما أرض فلسطين بحدودها الجغرافية المتعارف عليها حالياً فلم تتحدد بدقةإلا في أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين (وخصوصاً خلال 1920 – 1923) وقدظلت حدود أرض فلسطين تضيق وتتسع عبر التاريخ، غير أنها ظلت تعبر بشكل عامعن الأرض الواقعة بين البحر المتوسط وبين البحر الميت ونهر الأردن، وعلىأية حال، فإن مساحة فلسطين وفق التقسيمات المعاصرة تبلغ 27009 كم2 وتتمتعفلسطين بمناخ معتدل وهو مناخ البحر المتوسط، وهو مناخ يشجع على الاستقراروالإنتاج.
فلسطين عبر التاريخ:
هناك آثار تشير إلى أن الإنسان سكن فلسطين منذ العصر الحجري القديم (500ألف – 14 ألفاً ق.م) كما يشير العصر الحجري الوسيط (14 ألفاً – 8 آلافق.م) إلى وجود أشكال حياة حضارية تمثلت بما يعرف بالحضارة النطوفية.وعندما قدم الكنعانيون من جزيرة العرب (نحو 2500 ق.م) كانت هجرتهم واسعةبحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقد أنشأوا ما لا يقل عن مائتيمدينة وقرية في فلسطين، مثل مدن بيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدودوبئر السبع وبيت لحم، ويرى ثقات المؤرخين أن معظم أهل فلسطين الحاليين،وخصوصاً القرويين، هم من أنسال القبائل الكنعانية والعمورية والفلسطينية،ومن القبائل العربية التي استقرت في فلسطين قبل الفتح الإسلامي وبعده، حيثاندمج الجميع في نسيج واحد، يجمعهم الإسلام واللغة العربية، حيث أسلمالجميع واستعربوا تحت الحكم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرناً.
كان قدوم إبراهيم - عليه السلام - إلى فلسطين (نحو 1900 ق.م) إشراقة لنورالتوحيد في هذه الأرض المباركة، وقد عاصر حاكم القدس "ملكي صادق" الذي كانعلى ما يبدو موحداً وصديقاً له. وكان لأبي الأنبياء إبراهيم دوره في نشررسالة التوحيد، ويبدو أنه لم يجد عنتاً أو عناءً من أهل فلسطين، ولم يضطرلتركها بسبب دينه أو دعوته فظل مستقراً فيها وينتقل بحرية حيث يشاء إلى أنتوفاه الله في المدينة التي حملت اسمه "الخليل"، وقد سار على دربه أبناؤهمن بعده إسماعيل (الذي استقر في مكة)، وإسحق وابنه يعقوب اللذان استقرا فيفلسطين، وكان ليعقوب - عليه السلام - اثنا عشر ابناً هم الأسباط المعرفونببني إسرائيل (وإسرائيل هو لقب ليعقوب عليه السلام) وقد هاجروا إلى مصرواستقروا فيها، حيث عانوا من اضطهاد الفراعنة بضعة قرون. وأرسل لهم موسى -عليه السلام - (في القرن 13 ق.م) لينقذهم من فرعون وطغيانه، وأهلك اللهفرعون وجنوده، غير أن بني إسرائيل في ذلك الزمان كانوا قد طبعوا على الذلوالجبن فرفضوا الذهاب إلى الأرض المقدسة قائلين لموسى: (فاذهب أنت وربكفقاتلا إنا ها هنا قاعدون).
وتوفي موسى - عليه السلام - قبل أن يدخل فلسطين، وعندما نشأ جيل جديد صلبمن بني إسرائيل بعد أربعين سنة من التيه، قادهم يوشع بن نون - عليه السلام- (نحو 1190 ق.م) حيث عبر بهم نهر الأردن، واستطاع تحقيق بعض السيطرة لبنيإسرائيل في الجزء الشمالي الشرقي من فلسطين، ولمدة 150 سنة تالية سادتالنكبات والفوضى والخلافات والانحلال الخلقي والديني بين بني إسرائيل، ولميتحسن حالهم إلا بقدوم طالوت ملكاً عليهم، والذي استطاع الانتصار علىأعدائه.
وكان ظهور داود - عليه السلام -الذي خلف طالوت إيذاناً ببدء مرحلة جديدةلنور التوحيد في الأرض المباركة، حيث آتاه الله الملك (نحو 1004 ق.م)، وقدواصل حربه ضد الأقوام الكافرة على الأرض المقدسة حيث أخضعها واستطاع نقلعاصمته إلى القدس سنة 995 ق.م وسيطر على معظم فلسطين، باستثناء معظمالمناطق الساحلية التي لم تخضع له، واستمر في حكمه - عليه السلام -حتى 963ق.م حيث خلفه ابنه سليمان - عليه السلام -(963 – 923م) حيث شهدت فلسطينحركة بناء وعمران وازدهار ضخمة، وسخر الله له الريح والجن، وأعطاه ملكاًلا ينبغي لأحد من بعده، وكان حكم داود وسليمان هو العصر الذهبي الذي حكمتفيه فلسطين نحو ثمانين عاماً تحت راية الإيمان والتوحيد قبل الفتحالإسلامي لها.
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير منالأحيان فنشأت مملكة "إسرائيل" شمال فلسطين خلال الفترة (923 – 721 ق.م)التي سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" حيث ضعفتوفسد حكامها وانتهى أمرها بسيطرة الأشوريين بقيادة سرجون الثاني عليها،وتدميرها ونقل سكانها من بني إسرائيل إلى حران والخابور وكردستان وفارس،وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ولم يبق بعد ذلك أثر لأسباط بنيإسرائيل العشرة الذين شكلوا هذه الدولة. أما مملكة "يهودا" فاستمرت منذ(923 – 586)، وكانت عاصمتها القدس، وقد اعترتها عوامل الضعف والوقوع تحتالنفوذ الخارجي فترات طويلة، فقد هزمها ودخل عاصمتها شيشق فرعون مصر(أواخر القرن 10 ق.م) وفعل مثله الفلسطينيون في عهد يهورام (849 – 842ق.م) واضطرت لدفع الجزية للآشوريين، ثم إنها سقطت أخيراً بيد البابليينبقيادة نبوخذ نصر الذي خرب القدس، ودمر الهيكل، وسبى حوالي 40 ألفاً مناليهود، وبذلك سقطت مملكتهم سنة 586 ق.م.
وهكذا فلم تطل مملكة بني إسرائيل في فلسطين أكثر من أربعة قرون حكموا فيمعظم الوقت بعضاً من أرضها، وكان حكمهم غالب الوقت ضعيفاً مفككاً، وخضعأحياناً لنفوذ وهيمنة دول قوية مجاورة، وفي الوقت نفسه ظل أبناء فلسطين منالكنعانيين وغيرهم في أرضهم، ولم يهجروها أو يرتحلوا عنها.
وقد سمح الإمبراطور الفارسي قورش لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعادت قلةمنهم، عاشت إلى جانب أبناء فلسطين، وتمتعت منطقة القدس بنوع من الحكمالذاتي تحت السلطة الفارسية التي استمرت (539 – 332 ق.م) وتلا ذلك عصرالسيطرة الهللينية الإغريقية على فلسطين (332 – 63 ق.م) واستمر يدير شئوناليهود "الكاهن الأكبر" واستطاع اليهود تحقيق حكم ذاتي منذ سنة 164 ق.مأخذ يضيق ويتسع، وتزداد مظاهر استقلاله وتضعف حسب صراع القوى الكبرى فيذلك الوقت على فلسطين (الرومان، البطالمة، السلوقيين).
وقد تمكن الرومان من السيطرة على فلسطين 63 ق.م وأخضعوها لحكمهم المباشرمن سنة 6م حيث ألغوا الحكم الذاتي اليهودي في منطقة القدس، وقد ثار اليهود(66 – 70م) لكن القائد العسكري الروماني تيتوس أخمد ثورتهم ودمر الهيكل،ثم ثار اليهود مرة أخرى وأخيرة (132 – 135م) لكن القائد الروماني جوليوسسيفروس احتل القدس ودمرها، وأقام الإمبراطور الروماني هدريان مدينة جديةفوق خرائبها سماها إيليا كابيتولينا حيث عرفت بعد ذلك باسم إيلياء، وهواسم هدريان الأول، وحظر على اليهود دخول القدس حوالي 200 سنة تالية، وندرتأعدادهم نسبة إلى السكان طوال 18 قرناً تالية.
بينما ظل أهل البلاد الأصليون من كنعانيين ومن اختلط بهم من قبائل العربمستقرين في البلاد قبل قدوم بني إسرائيل وفي أثناء وجودهم، وظلوا مستمرينكذلك بعدهم إلى أيامنا هذه