العسكرية فى القرأن الكريم
أولاً : عام :
(1) عندما نتكلم عن موضوع علمي عسكري مثل المعركة الهجومية وكيفية التناول
القرآني لها فليس معنى ذلك أننا نضفي على القرآن الكريم الصبغة العلمية، أو
أننا ننادي بأن الكتاب الكريم أحد المصادر العلمية الدنيوية، فالقرآن
الكريم كتاب هداية ورحمة، وكل لفظ وكل آية وكل سورة فيه هي إعجاز إلهي لا
يشعر به إلا المتدبر بحق، والمتأمل بصدق، والدارس بعمق، وحيث يستزيد ذلك
المتدبر أو المتأمل أو الدارس ومضات ونفحات روحانية تتراكم داخله في صورة
إيمان فوق إيمان، ونور على نور.
(2) والكتاب الكريم تناول صور المعركة القتالية كما نعرفها في عصرنا اليوم،
سواء كانت هذه المعركة هجومية ـ وهي الصورة الرئيسية للمعركة القتالية ـ
أو الصورة الدفاعية، وكل ما هو مشتق منهما من صور قتالية أخرى. وحتى يمكننا
استعراض التناول القرآني للمعركة الهجومية فمن المهم أن نوضح كيف تتم هذه
المعركة، وذلك من خلال صور واضحة ومبسطة يتمكن معها المستمع الكريم غير
العسكري أن يلم بتلك المعركة، ثم نتناول بعد ذلك كيفية التناول القرآني
للمعركة الهجومية.
(3) ونظراً لأن المعركة الهجومية التي تتم في عصرنا اليوم تنفذ من خلال
مجموعة من المراحل؛ لذا فإن تناولنا لها سوف يتم مرحلة مرحلة، أو صورة صورة
وبالترتيب والترقيم؛ حتى يكون هناك سهولة ويسر عند إيضاح التناول القرآني،
ونعرف ماذا قال القرآن الكريم في كل مرحلة، وكيف عبر عنها، ووجه الإعجاز
الموجود في سياق التناول.
ثانياُ: المعركة الهجومية كما تتم في عصرنا اليوم:
تتم المعركة الهجومية في عصرنا اليوم من خلال ست مراحل، هي كالآتي:
1 ـ الصورة الأولى (مرحلة حشد القوات):
لتنفيذ معركة هجومية ضد دفاعات معادية لا بد من حشد القوات في مناطق الحشد،
وهي مناطق بعيدة عن العدو يتوفر فيها الأمن سواء من مصادر نيران العدو أو
عناصر استطلاعه، وتكون هذه المنطقة على مسافة من العدو مناسبة لا تسبب
الإرهاق للقوات عند تنفيذ التحرك. وفي حالة تواجدها على مسافة بعيدة تحدد
أماكن وقفات لراحة القوات، وفي هذه المنطقة يتم التزاوج بين عناصر الالتحام
والمشاة ( الدبابات ـ القوات الخاصة... ... الخ) وبين عناصر الاقتحام
وعناصر النيران ( المدفعية ـ الهاونات ـ الصواريخ... إلخ) وأيضاً تتم جميع
إجراءات التخطيط للمعركة للوصول للخطة القتالية التي سوف يتم تنفيذها.
2 ـ الصورة الثانية ( مرحلة التحرك والاقتراب من دفاعات العدو ):
وفي هذه المرحلة تتحرك القوات من مناطق حشدها في اتجاه العدو من خلال تقدم
يحقق السيطرة على القوات، وغالباً ما تتم هذه المرحلة ليلاً حتى لا يتكشف
فيه الهجوم، إضافة إلى ذلك فإن هناك العديد من الإجراءات التي تهدف إلى
سرية التحرك والاقتراب، مثل السيطرة على الضوضاء والإضاءة الخاصة بالقوات،
وعلى حجم الاتصالات اللاسلكية حتى لا تلتقط أي محادثات قد يستفيد منها
العدو.
3 ـ الصورة الثالثة ( مرحلة التحول من تشكيلات التحرك إلى تشكيلات القتال ):
عند الاقتراب من العدو ووجود القوات في مرامي أسلحته تقوم القوات بالتحول
السريع من تشكيل التحرك إلى تشكيل المعركة، ويشترط في هذه المرحلة السرعة
في التحول، ووجود إخفاء ممثل في درجة إظلام معينة؛ لذلك غالباً ما نجد أن
هذه المرحلة تتم في فترة الشفق البحري([3])حيث تستغل القوات فترة هذا الشفق
في إجراء التحول المطلوب من تشكيل التقدم إلى تشكيل المعركة.
4 ـ الصورة الرابعة (مرحلة الهجوم على دفاعات العدو):
بعد انتهاء القوات من اتخاذ تشكيلات القتال ووصولها إلى خط البدء للعملية
الهجومية وحيث يكون هذا الوصول غالباً مع انتهاء الشفق البحري وبداية الشفق
المدني([4])والذي يعتبر نهاراً كاملاً من وجهة النظر العسكرية. تبدأ
العملية الهجومية في الإضاءة الكاملة، حتى تستطيع كل وحدة مقاتلة رؤية
الهدف المطلوب الاستيلاء عليه، وتقوم بالقتال في الاتجاه الذي يؤدي بها إلى
هذا الهدف. ويختلف شكل المناورة المستخدمة لتنفيذ القتال من وحدة إلى أخرى
طبقاً لشكل العدو وطبيعة الأرض ... الخ، ورغم هذا الخلاف المنطقي في شكل
قتال الوحدات إلا أن هذا القتال لن يخرج عن اقتراب محسوب باستغلال النيران
وخصائص الأرض، ثم الانقضاض السريع على القوات المحاربة في صورة إغارة
ممزوجة بصيحة النصر (الله أكبر) ، تلك الصيحة التي أطلقها السلف الصالح
فدانت لهم الدنيا شرقاً وغرباً وهم القلة والأقل خبرة.
5 ـ الصورة الخامسة (مرحلة القتال للاستيلاء على أهداف العدو):
تستمر القوات في تنفيذ العملية الهجومية لتدمير دفاعات العدو واختراق
قواته، ودفع القوات المتواجدة في الخلف لتطوير عملية الهجوم، واستغلال
النجاح الذي يتم تحقيقه، وأهم ما يميز هذه المرحلة:
أ ـ الضوضاء الشديدة والصوت العالي؛ حيث حركة المعدات القتالية، ونيران الأسلحة والمدفعيات، واصطدام قوات الجانبين ببعض.
ب ـ الرؤية المحدودة في أماكن مختلفة والتي تنتج عن الغبار المتصاعد من
حركة المعدات والأسلحة والمدفعيات، وتنفيذ القوات لصور المناورة سواء
الالتفاف أو التطويق، إضافة إلى ذلك فقد يلجأ أحد الأطراف إلى استخدام
المواد الدخانية لتعمية الطرف الآخر.
ج ـ التداخل بين الأطراف المقاتلة، وظهور الاختراقات المحدودة في دفاعات
الجانب المدافع في شكل جيوب ما تلبث أن تتوحد وتتسع مشكلة اختراقاً عميقاً
يصل إلى وسط أو مركز القوات المدافعة.
د ـ وتعتبر هذه المرحلة هي المرحلة الرئيسية في حجم الخسائر التي تقع بالأطراف المقاتلة سواء في الأفراد أو المعدات.
6 ـ الصورة السادسة ( مرحلة تدمير العدو وتحقيق الهدف ):
تتيح هذه المرحلة كما سبق الإيضاح من خلال توحد الجيوب التي نجحت القوات
المهاجمة في اختراقها بدفاعات العدو. ويلاحظ هنا أن عملية استغلال النجاح
وتطوير الهجوم تتم في اتجاهات قد نم تركيز القوات فيها منذ بدء الهجوم بحيث
يحقق هذا التركيز سرعة الوصول إلى التجمع الرئيسي للعدو وتدميره، والتواجد
في منتصفه أو وسطه. وتعرف هذا الاتجاهات باسم الاتجاه الرئيسي للهجوم،
وغالباً ما يكون هذا الاتجاه كالآتي:
أ ـ إذا كان الاتجاه الرئيسي للقوات في منتصف مواجهة القتال فإنه يؤدي إلى
تدمير التجميع الرئيسي للعدو من خلال شطره إلى أجزاء، وتدمير كل شطر على
حدة.
ب ـ إذا كان الاتجاه الرئيسي للقوات في يمين أو يسار مواجهة القتال فإنه
يؤدي من خلال مناورة جانبية ومفاجئة غير متوقعة إلى مركز تجميع العدو.
ثالثاً: التناول القرآني للمعركة الهجومية:
1 ـ الصورة الأولى ( مرحلة حشد القوات ):
تناول القرآن الكريم هذه المرحلة في قول المولى ـ عز وجل ـ: )وأعدوا لهم ما
استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم
لا تعلمونهم الله يعلمهم ([الأنفال: 60].ويلاحظ هنا أن الأمر الإلهي جاء في
صورة عامة شاملاً إعداد وتجهيز القوات في أوقات السلم، وأيضاً القيام
بحشدها استعداداً لتنفيذ القتال. وواضح من قوله ـ تعالى ـ أن الإعداد هنا
يشمل عنصر القوة ممثلة في القوة البشرية والأسلحة والمعدات ... الخ، وكذلك
عنصر المناورة ممثلاً في رباط الخيل، وحيث كانت الخيل هي العنصر المشترك في
أغلب معارك هذه الفترة من الزمن، وكانت هي وسيلة المناورة الرئيسية. ويجب
ألا ننسى هنا أن أي معركة قتالية تتم في عصرنا اليوم تتكون من عنصرين
أساسيين، هما: النيران، والمناورة وقد وردا في الآية الكريمة لأهميتها
القصوى عند تنفيذ القتال الصحيح.
2 ـ الصورة الثانية ( مرحلة الاقتراب من دفاعات العدو ):
تناول القرآن الكريم هذه المرحلة من خلال القسم الإلهي في قوله تعالى:
)والعاديات ضبحاً([العاديات : 1]. والعاديات هنا المقصود بها الدواب التي
لها القدرة على العدو والسرعة خلال تنفيذ الأعمال القتالية، وهي ـ على وجه
التحديد ـ الخيل والإبل، وحيث كان يتم استخدامها في القتال في عصر نزول
القرآن. وعندما نتأمل القسم الإلهي هنا فلا بد أن ندرك أن هناك وجه إعجاز
في تلك المخلوقات، ويكفي لإيضاح ذلك أن نقول: إن الإبل والخيل كانتا ـ وسوف
تستمر إلى يوم قيام الساعة ـ أداة من أدوات القتال فعلى الرغم من التطور
الكبير الذي شهدته معدات المناورة مثل الدبابة والناقلة المدرعة والطائرة
العمودية إلا أن هناك العديد من الجيوش العالمية التي تحتفظ بوحدات كبيرة
من الخيالة والهجانة، خصوصاً إذا كانت مسارح عمل هذه الجيوش ذات طبيعة
جبلية أو غابات وأدغالاً، وأيضاً في المسارح الصحراوية لتغطية مواجهات
الحدود الواسعة. ويلاحظ هنا أن الآية الكريمة عندما تكلمت عن العاديات لم
تتناول التوقيت الذي تتحرك فيه، حيث سيتم استنتاج ذلك من الآية التي تليها،
وإنما تناولت الآية ما يجب أن يراعى أثناء التحرك، فجاء اللفظ الكريم
(ضبحاً) والذي هو الصوت الوسط للخيل بين الصهيل والحمحمة، وكأنما تريد
الآية الكريمة أن تدعونا إلى أن تحرك العاديات المقترب في اتجاه العدو لا
بد أن يكون تحركاً مخفياً لا تصدر فيه عن الخيل أصوات عالية، وإنما أصوات
مقبولة لا تكشف تحرك القوات. ولعل ذلك واضح من خلال حديثنا عن هذه الصورة
في المعركة الهجومية التي تتم في عصرنا اليوم.
3 ـ الصورة الثالثة ( مرحلة التحول من تشكيلات التحرك إلى تشكيلات القتال ):
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المرحلة من خلال قول المولى ـ عز وجل ـ:
)فالموريات قدحاً ( وهو الشكل الذي تتخذه القوات المتحركة عند قيامها
باتخاذ تشكيل القتال، حيث تقوم بتنفيذ ذلك بأقصى سرعة ممكنة، نظراً لوجودها
في ميدانالعدو، ونتيجة السرعة في التنفيذ يظهر الشرر من أقدام وأرجل
الخيل. والشرر المنطلق من أرجل وأقدام الخيل لا يظهر إلا إذا كان هناك درجة
من الإظلام، وحيث غالباً ما تتم هذه المرحلة في فترة الشفق البحري. ومن
هنا نجد أن لفظ (قدحاً) قد أوحى لنا بتوقيت هذه المرحلة، وبالتالي فإن جميع
المراحل السابقة لها تكون سابقة في التوقيت، بمعنى إذا كانت هذه المرحلة
(التحول من تشكيل التقدم إلى تشكيل المعركة) تتم في فترة زمنية بها درجة
إظلام فإن المراحل السابقة ـ واقصد هنا مرحلة الاقتراب من دفاعات العدو ـ
تتم في فترة الليل كما سبق الإيضاح.
4 ـ الصورة الرابعة (مرحلة الهجوم على دفاعات العدو):
وقد تناول القرآن الكريم هذه المرحلة في قوله ـ تعالى ـ: )فالمغيرات صبحاً
([العاديات: 3]ولعل الاستخدام لفظ " الإغارة " أصدق كثيراً من لفظ " الهجوم
" على دفاعات العدو، فالمعركة الحديثة في عصرنا اليوم تتم على مواجهات
واسعة وفواصل كبيرة، الأمر الذي يسمح للوحدات المهاجمة بالتعامل المستقل
والمنفصل مع دفاعات العدو، وتأخذ الصورة بعد وصول القوات إلى خط بدء الهجوم
صورة الإغارة ممثلة في الاقتراب المستور والانقضاض السريع على تلك
الدفاعات. ويلاحظ هنا أن تحديد التوقيت جاء واضحاً وصريحاً؛ حيث تتم هذه
المرحلة صباحاً، وحيث إن الصباح أو النهار من وجهة النظر العسكرية يبدأ مع
بداية الشفق المدني، والمرحلة السابقة )فالموريات قدحاً (تمت، وهناك درجة
من الظلام، وهذا ما يعني أنها تتم في فترة الشفق البحري، وبالتالي فمرحلة
(العاديات ضبحاً) تتم أثناء الليل ووجود الظلام.
5 ـ الصورة الخامسة (مرحلة القتال للاستيلاء على أهداف العدو):
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه المرحلة من خلال قوله ـ سبحانه وتعالى ـ:
)فأثرن به نفعاً ([العاديات: 4]. ومعنى " أثرن " أي: أحدثن به نقعاً.
والنقع هنا له معان عديدة، فهو يأتي بمعنى " شق الجيب " (الاختراق الهجومي
لدفاعات العدو) ومعنى الغبار والأتربة (التي تنتج من حركة الخيل، والدبابات
في عصرنا اليوم) ومعنى رفع الصوت (الضوضاء الناتجة عن المعركة) ومعنى
القتل والتدمير (الخسائر التي تحدث في هذه المرحلة)... الخ. وحيث هناك أكثر
من عشر معان للفظ القرآني، وعلى الرغم من اختلافها تماماً بعضها عن بعض
‘لا أن جميعها تصب في صلب موضوع هذه المرحلة.
6 ـ الصورة السادسة (مرحلة تدمير العدو وتحقيق الهدف):
تناول القرآن الكريم هذه المرحلة في قوله تعالى: )فوسطن به جمعا
([العاديات: 5]وكما سبق الإيضاح عند شرح هذه المرحلة أن توسط التجميع
القتالي المعادي يعني النجاح الكامل في تحقيق الهدف النهائي، وأن الوصول
إلى ذلك يتم من خلال توحيد الجيوب المخترقة مع بعضها البعض وفي إطار اتجاه
محدد منتقى بعناية من قبل (أثناء التخطيط للمعركة في منطقة الحشد) بحيث
يحقق هذا الاتجاه سرعة عمل القوات المهاجمة والمحافظة على إجراءات التنسيق
بينها... الخ. والوصول إلى وسط التجميع المعادي قد يتم بالمواجهة أو من
الأجناب، فإذا كان من المواجهة فإن (ويطن) هنا تأتي بمعنى " شطرانا ". أما
إذا كان الوصول إلى التجمع المعادي من خلال الأجناب فإن لفظ " الوسط " هنا
يأتي بمعنى المركز، وهنا يكون التعبير القرآني الكريم قد غطى المفهوم
الكامل للمرحلة وبأشكال المناورة المطلوبة لتحقيق ذلك.
الخاتمة
مع نهاية البحثأحب أن أقف أمام نقاط أرى أنها من وجهة نظري هامة، وهي كالآتي بعد:
1 ـ النقطة الأولى:
إن التناول القرآني للمعركة الهجومية يتم من خلال خمس آيات تتكون من عشرة
ألفاظ، ورغم ذلك فإن التناول القرآني عبر عن محتويات المعركة بالكامل، بل
وتطرق إلى تفاصيل دقيقة للغاية، وهذا الاختصار الشديد والتكامل العجيب خارج
قدرة البشر.
2 ـ النقطة الثانية:
إن التناول القرآني للمعركة الهجومية يتم من خلال استخدامات لفظية غريبة
وعجيبة، وانظر إلى لفظ " ضبحا " الذي يدل على ما يجب اتخاذه من إجراءات
أثناء حركة القوات. ولفظ " قدحاً " الذي يدل على توقيت الحدث بصورة ضمنية،
وطبيعة الحدث بصورة صريحة ... وهكذا.
3 ـ النقطة الثالثة:
وهي لفظ " نقعا " اللفظ العجيب المتعدد المعاني المختلفة والتي استخدمها
المولى ـ عز وجل ـ بالكامل في سياق موضوع الذي تتحدث عنه المرحلة الخامسة،
وهذا اللفظ في حد ذاته تحد واضح لكل جهابذة اللغة العربية: من يستطيع
استخدام لفظ له عشر معان مختلفة ويسخر تلك المعاني في سياق الموضوع الذي
يتكلم عنه؟!.