من عولمة مصر.. إلي تمصير العالم
خالد عمر بن ققه
منذ الخامس والعشرين من يناير الماضي، والعالم كله يتابع الأحداث الجارية في مصر، وكأنه يتابع حرباً كونية، لدرجة أن بعض القنوات الفضائية العربية والعالمية، تجاهلت عمدا كل الأحداث التي تملأ دول العالم لتركز كل نشراتها الاخبارية علي"ميدان التحرير" في القاهرة، وبذلك انتفت المقولات العربية السابقة القائلة: إن مصر تعمل دائما من أجل تمصير العرب، لأنها اليوم تمصّر العالم كلّه، ما يعني أهميتها ودورها، و الا ما كانت لتؤثر علي أسواق النفط والذهب والبورصات. مع أنها لا تزال قائمة، دولة تشهد حراكا اجتماعيا، ومحاولات غير مدروسة للتغيير.
بات العالم كله يتابع نشاط المنتفضين في" ميدان التحرير" وبمعرفة المكان، عرف أيضا أن هناك زمانا مصريا مقتطعا من عمر البشرية، وأتبع ذلك بتحليلات ومقولات جاهزة أفرغت من محتواها، ثم صُبّت صبّا علي الفعل المصري الراهن، فكشفت ما بداخل بعض النفوس المريضة فزادت بعض المصريين مرضا علي أمراضهم و أوجاعهم، لدرجة جعلت من ميدان التحرير ميادين أخري بدءا من المواقف الصادرة من البيت الأبيض، مرورا بتصريحات بعض قادة الاتحاد الأوربي، وليس انتهاء بمن تخلوا عن مهاجمة أعدائهم أو النظر في مصير أوطانهم ليتذكروا ثوراتهم ـ التي ما رعوا نتائجها حق رعايتها ـ وتناسوا ما هم فيهم من استغلال وفساد ومظالم لاتزال قائمة، حيث ينتظر الرافضون منهم من يحرك جمعهم ليقضوا علي أنظمة عمّرت فهرمت، وما ذلك ببعيد.
لقد زيّن للمصريين المنتفضين فعلهم ـ ولا يحق لنا هنا ان نعتبره سيئا أوحسنا، لأن الحكم متروك للشهور والسنوات القادمة الحبلي بصراع علي السلطة ستشارك فيه أطراف داخلية وأخري خارجية ـ غير أن هذا التأييد لن يعمّر طويلا في نظري، لأنه يتضارب مع طبيعة الثقافة المصرية، التي اتسمت بها الشخصية المصرية علي طول تاريخها، والتي جاءت واضحة في كتاب "شخصية مصر" للمفكر الراحل "جمال حمدان"، ومعني ذلك أن المراقبين سيتساءلون في الغد القريب عن فعل التغيير في مصر، وقد اعتبره كثيرون ثورة، ان كان يحمل مواصفات الثورة علي المستوي العالمي، وسينتهون بلا شك الي تمصير الفعل الثوري علي المستوي العالمي في المستقبل، حيث ستكون مقاومة الأنظمة في المستقبل علي شاكلة الأسلوب المصري، الذي نراه اليوم، يغني في المتظاهرون عن الحب، ويتزوج فيه الذين لم يجدوا فرصة للزواج أيام السلم، وتلد فيه النساء في ميدان عام بعيدا عن المستشفيات والبيوت، حتي ينال مواليدهن الشهرة، وتعبّر النساء عن رغبتهن في الحرية، وتغيّرن من نمط حياتهن حين تأتين من أقصي الصعيد للمطالبة بإسقاط الرئيس.
علي أرض ميدان التحرير اليوم تمتد سلطة الأحزاب والجماعات والمنتفضين والحياري والمستضعفين، ووقود حرب التغيير، تماما مثلما كانت قبائل العرب، تتقاتل علي الأرض الجرداء، وتتحرك فيه جماعات الرفض بنفس طريقة كليب حين كان يحدد سلطته علي الأرض بآخر موقع يقف عليه كل كلبه، ويأتيه المصريون من كل المحفظات والقري والأرياف ليعرفوا من خلاله القاهرة، التي يطلقون عليها اسم مصر.
في ميدان التحرير يطالب المنتفضون برحيل الرئيس مبارك، وغدا حين يرحل ـ ان تحقق ذلك ـ سيجدون أنفسهم في حيرة، فالرئيس، الذي جمعهم تحت سلطته ثلاثة عقود، حبا أو كرها هو الذي يجمعهم اليوم، دون قصد منه، في انتفاضة واحدة، يخلط من يشارك فيها بين الجد والهزل، فمن يا تري سيجمعهم ليغنوا وليكونوا أمة واحدة كما لم نعرفهم في السابق، حين طغي بعضهم علي بعض من خلال وضع طبقي، كان ذلك قبل النظام الحالي وسيستمر بعده.
رحيل الرئيس مبارك، لم يعد مطلب الذين ضاقت عليهم مصر بما رحبت، واتسع لهم ميدان التحرير بالرغم من ضيقه، بل هو مطلب كثير من المصريين ـ وليس كل المصريين ـ لكن هذا المطلب يواجه بفوضي من قادة العالم ونخبه، فلا أعرف مثلا كيف تتفق الولايات المتحدة وايران علي ضرورة تغيير نظام الحكم في مصر؟، وينطبق هذا علي كل المتدخلين في الشؤون المصرية بما في ذلك النخب العربية.
وبغض النظر ان كانت تلك حالة من الحب أو رغبة في التغيير أو حتي مساندة للشعب المصري، فالذي نعرفه أن كل ردود الأفعال المؤيدة لحركة الاحتجاج المصري، وما أكثرها، أو تلك الرافضة، وما أقلها، تمثل نوعا من التشويش والتضليل للشعب المصري، خاصة الذين يسكنون منه في القري والأرياف، حيث تقوم علي رهن الفعل الحالي ووضع مدخل للتحكم في مصر مستقبلا، ولست أدري إن كانت الدول الغربية تقبل من شعوبها ما يقوم به الشعب المصري، وما موقف ساركوزي من الاحتجاجات الشعبية منا ببعيد، وكذلك الحال بالنسبة لموقف بوش وتوني بلير من شعبيهما حين أشعلا حرباً ضد العراق، ناهيك عن مسألة الشرعية، حيث السعي المتواصل لاسقاط النظام الحالي من اجل كرزاي جديد في مصر، ما يعني ان الاستجابة لمطالب القوي الدولية خاصة الولايات المتحدة واسرائيل لم تعد كافية، ولابد من نظام آخر للمرحلة الجديدة.
مهما يكن فان محاولة عولمة الانتفاضة المصرية من أجل تحقيق أهداف الغرب، التي خطط لها منذ سنوات، وجاءت فرصة تحقيقها من خلال حركة الشعب المصري، قد باءت بالفشل علي مستوي الممارسة، وتحديدا من ناحية صناعة القرار سواء لدي فريق السلطة، الذي لم يستجب لضغوط الغرب ـ الي الآن علي الأقل، أو لدي المحتجين، الذين رفضوا التدخل الخارجي والمزايدة علي حركتهم، فإضطرت مكرهة الي التغير في مواقفها، حسب التغيرات الحاصلة علي الأرض، وقد تكون هذه عودة مصرية لاثبات الذات و استقلال القرار السياسي، ذلك أن مصر لم تعد تملك قرارها منذ اتفاقية السلام مع اسرائيل، وها هي الدول الكبري، خاصة الولايات المتحدة مجرد رد فعل للوقائع المصرية، وهذا يعني تمصير العالم، وبقاء هذا مرهون بمدي المحافظة علي استقلال القرار هناك، خاصة بعد أن تنتهي الي التغيير في نهاية العام الحالي.
يبقي أن نشير الي أن تمصير العالم من ناحية الاهتمام والمتابعة للوضع في مصر، لن يظل طويلا، حيث لن تقبل دول العالم المتربصة بمصر أن يعّم الحب في أجواء الحرب، ولا ان تستمر النكت والتعليقات الساحرة والأغاني، ولا أن يكون ميدان التحرير سوقا أو مساحة للتجمع، وباختصار فالأسلوب المصري للمواجهة مع النظام غير قابل للتصدير وحتي المحافظة عليه، اذ بالرغم من الضحايا الذين سقطوا في المواجهات لا تزال حركة الاحتجاج سلمية ورد فعل النظام عليها مقارنة برد فعل أنظمة كثيرة ضد حركات التغيير في العالم اقل استعمالا للعنف، مع أن الجبهة الداخلية اهتزت وتوترت نتيجة لانسحاب الشرطة وأجهزة الأمن في الأيام الاولي، وحصول شرخ بين الشعب وتلك الأجهزة، وهو أيضا ما سعت قوي عدة لحدوثه مرة أخري مع الجيش. تمصير العالم أيضا بدا في تلك المتابعة لتعايش أسالبب المواجهة، حيث أعترف المجتمع المصري والحكومة والمنتفضون بوجود الخارجين علي القانون (البلطجية) باعتبارهم قوة تحرك المجتمع، وهو اعتراف خطير لأنه يكشف عن مرض مستفحل في المجتمع المصري، أيّدهم المجتمع الدولي، ثم جاءت حرب البغال والحمير والجمال، فكشفت علي أن كل جماعة مهنية تعد للآخر في المجتمع ما أوتيت من قوة لترهبه، مع أن استعمال تلك الحيوانات باعتراف شهادة البعض كانت من أجل الدفاع عن الرزق، وليست بدعم أو مناشدة أو طلب من الرئيس. فهل دول العالم التي تبارك وتؤيد وتدافع ـ من أجل اقتناص النصر الشعبي ـ تقبل بحدوث مثل هذا في مجتمعاتها.
واضح أن محاولات تدويل الأوضاع في مصرـ بعد تصريحات بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة ـ مقصود به أمركة الانتفاضة، والوقوف ضد استمرار تمصير العالم، حيث ستكون حركة الشباب ضحية لمحترفي السياسة، الذين عجزوا خلال عقود علي تحريك الشعوب، خصوصا وأنهم حديثو عهد في السياسة، وعلي العموم فان دور مصر قبل الأحداث الأخيرة تراجع بشكل ملحوظ، وأثناء الأحداث عادت لتحدث أبناءها، فلم يصغوا اليها لأنهم منشغلون باستعادة حريتهم.. وحين يجدوا أنفسهم التي يروها في رحيل الرئيس مبارك قبل انتهاء فترته، ان رحل، سيعيشون حياة أخري يتذكرون فيه "زمان كان لهم بيت وأحباب طيبون"، ويتذكرون أيضا معني أن تكون الدولة قوية، فيها سلم اجتماعي، حين كان معظهم يطعم من جوع ويؤمن من خوف.
كاتب وصحفي جزائري