مصير المعدات المختلفة
أخذ القادة والفنيون يتساءلون عما إذا كان ظهور هذه الطائرات قد أنهى عهد
الرادار، وما هو مصير المعدات الرادارية ومعدات الدفاع الجوى والقوات
الجوية التي يصل ثمنها إلى أرقام خيالية وفلكية؟ ولكنهم اطمأنوا قليلاً
عندما عرفوا أن الأعداد التي أنتجت من هذه الطائرات محدودة للغاية، وذلك
بسبب الارتفاع المذهل في تكلفة إنتاجها، مما يحدد بالقطع استخدامها في
الهجوم على الأهداف الاستراتيجية الهامة فقط في الدولة، وهي تلك الأهداف
المدافع عنها جيداً بوسائل الدفاع الجوي المختلفة، ويعتبر الهجوم عليها
مخاطرة جسيمة قد تكلف المعتدي خسائر باهظة. ورغم أن تدمير مثل هذه الأهداف
الاستراتيجية يخل بالتوازن الاستراتيجي للدولة ويفقدها أهم عناصر أمنها
القومى من الموارد أو الصناعات أو الأهداف الاستراتيجية، مما يجعلها في
موقف صعب للغاية ويهبط من معنويات شعوبها، إلا أنها على الجانب الآخر لا
يمكنها أن تحقق الحسم الاستراتيجي في المعركة، وخصوصاً بالنسبة للقوات
المسلحة للدولة المعادية، والتي لن يتحقق الحسم ضدها إلا باستخدام
الطائرات التقليدية التي تمثل الغالبية العظمى من القوات الجوية.
وعموماً يمكن القول إنه رغم التأثير المحدود لإمكانات الطائرات الشبح عن
حسم نتيجة الحرب، إلا أنه يجب عدم إغفال الأهمية البالغة للأهداف
الاستراتيجية المعرضة للتدمير بواسطة هذه النوعية من الطائرات، إذ ربما
تصل أهمية الهدف الاستراتيجي المعرَّض للتدمير إلى الدرجة التي ربما ترغم
الدولة على الاستسلام وتغير من مصير الحرب، مثلما حدث في نهاية الحرب
العالمية الثانية عندما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية القوة النووية
ضد جزيرتي هيروشيما ونجازاكي، فكانتا مثالاً لما يمكن أن تفعله القوة
العاتية المدمرة بغيرها من الأهداف الحيوية البالغة الأهمية.
ولكي نصل إلى الأسلوب المضاد لمثل هذه النوعية من الطائرات، يجب أن نعود
قليلاً إلى الوراء لكي نبحث في أرشيف الحرب الإلكترونية عن سابقة أو أسلوب
أو نظام يمكن من خلاله الوصول إلى الأسلوب الأمثل.
نشأة وظهور أجهزة تحديد الاتجاه RWR.
في شتاء 1943م تزايدت كثافة الغارات الإنجليزية على المدن الألمانية في
الحرب العاليمة الثانية، وبرغم جميع المحاولات التي قام بها الألمان
لإعادة تنظيم الدفاع الجوي، إلا أنها جميعاً باءت بالفشل، وكان الألمان
يشاهدون تدمير مدنهم ليلة بعد ليلة دون أن يتمكنوا من اتخاذ أى إجراء مضاد.
ولذلك تم تجنيد العلماء وأحسن أصحاب العقول الفنية لديهم لحل هذه المشكلة،
وشرع الفنيون على الفور في بناء نظام راداري جديد ذي تردد بعيد كل البعد
عن تردد الأجهزة المستخدمة، مما يصعب من عملية التداخل، ولم يقف تقدم
الألمان عند هذا المجال فقط، بل سرعان ما قاموا بتركيب أجهزة استقبال
الإنذار Radio WarningWarning Recievers (RWR) في طائراتهم، وهي أجهزة
يمكن مقارنتها بالجهاز ميتوكس Metox السابق تركيبه في السفن والغواصات عند
بداية الحرب العالمية الثانية، وهو يمتاز عن الرادار العادي بأنه آلة
سلبية لايصدر عنها أي إشعاع كهرومغناطيسي يمكن التقاطه بواسطة العدو، كما
وأنه ذو مدى كبير جداً بالنسبة للرادار العادي، حيث يمكن اكتشاف الهدف قبل
أن يقوم رادار الهدف المعادي بالتقاطه، بل كان يمكن أيضاً اكتشاف الرادار
المعادي في القاذفات على مسافة تصل إلى ضغف مسافة رادار الطائرة القاذفة.
وبذلك يتيسر للمقاتلات وقت كافٍ للقيام بالمناورة والهجوم على القاذفة، كا
يمكن أيضاً لأجهزة RWR أن تقوم بتوجيه المقاتلات إلى أهدافها؛ ورغم أنها
بالطبع لا تستطيع قياس المسافة، إلا أنها تستطيع تحديد الاتجاه بدقة بالغة.
وفي أوائل عام 1944م أصبح لدى الألمان نوعية من أجهزة RWR في طائراتهم،
كان أحدها هو الرادار ماكسوس Maxos الذي يمكنه التقاط إشعاعات الرادار
الإنجليزي المستخدم في المقاتلات التي تحدد الأهداف في القاذفات، أما
الرادار RWR الثاني فأطلق عليه اسم فلنسبرج Fliensburg، وكان مؤلفاً
لاستقبال إشعاعات رادار بريطاني آخر محمول جواً يطلق عليه مونيكا Monica،
وكان مركباً على ذيل القاذفات البريطانية لإنذارها عن اقتراب الطائرات
الألمانية.
وكان الرادار فلنسبرج مكوناً من نظام جديد للتوجيه الذاتي يحقق توجيه
المقاتلة آلياً إلى الهدف، وكذلك مستقبل مقارن وهوائيين عموديين مثبتين في
مقدمة الطائرة.
لقد نجحت القوات الجوية الألمانية نجاحاً باهراً باستخدام هذا الجهاز، وفي
الوقت نفسه أصبحت الروح المعنوية لدى الطيارين للمقاتلات البريطانية في
أسوأ حالاتهم، فكان أحسن الطيارين لديهم يقومون بإلقاء حمولاتهم من
القنابل بمجرد شعورهم بأدنى احتمال لالتقاط هذا الرادار لطائراتهم.
وتصاعدت حدة الموقف في ليلة 30-31 مارس 1944م، عندما استطاع الألمان تدمير
95 طائرة للحلفاء - أثناء غاراتهم على "نورمبرج" - من إجمالى 795 طائرة
قاذفة، ولقد عرف البريطانيون أخيراً بأمر هذا الجهاز عندما هبطت طائرة
ألمانية من طراز "جونكرز" هبوطاً اضطرارياً في الأراضي الإنجليزية، وكانت
الطائرة تحمل الرادار "فلنسبرج"، ولقد دهش الإنجليز دهشة بالغة عندما
عرفوا الغرض الذي صُمم هذا الجهاز من أجله، والذي كان مؤلفاً لاستقبال
إشعاعات الرادار "مونيكا" المركبة على ذيل القاذفات، وتأكدوا بذلك من أن
هذا الرادار بدلاً من توفير الحماية لهم ضد المقاتلات فإنه كان يجذبها
إليه كما يجذب الضوء الفراشات من حوله، ويجعل الهجوم عليها أمراً بالغ
السهولة.
ولقد استخدمت أجهزة RWR أيضاً في مواقع الحرب الإلكترونية الأرضية كأجهزة
لتحديد الاتجاه لإرشاد وحدات إعاقة الرادارات الأرضية إلى أهدافها الجوية،
حيث إن من الواضح أن وحدات الإعاقة لا تحتاج إلى اتجاه الهدف فقط للتوجيه
عليه.
لقد أصبح السؤال الملح الآن هو: هل تعتبر أجهزة RWR الحل المناسب ضد طائرات الشبح؟
ولكن يقف أمام هذا الحل عقبه كبرى وهي قياس المسافة، وهي تلك العملية التي
يعجز عنها جهاز RWR، حيث إنه يعتمد على نظرية استقبال الإشعاعات فقط، بعكس
الرادار المعادى المزود بمرسل ومستقبل، والذي يمكن بواسطته قياس زمن وصول
النبضات إلى الهدف ثم ارتدادها واستقبالها في مستقبلات خاصة، ومن ثم يمكنه
قياس المسافة، فإذا كان بالإمكان تزويد أو إيجاد وسيلة غير رادارية لإيجاد
المسافة تكون المشكلة قد حلت.