الاضرابات
في مصر الي حلقات ميلودرامية من مسلسل مأساوى عرض حلقاته ما يزال مستمرا ،
حتي مل المتابعون من الحبكة الدرامية ، فلا يمر يوم الآن دون اضراب
أواعتصام أو احتجاج ، حتي شملت معظم فئات المجتمع ، ووصلت إلي العصب الحساس
منه، وهو قطاع عمال النقل العام والمعلمين بالمدارس ؛ فيالها من مهزلة
تدعو للأسف، حينما يتأكد الجميع ان الحقوق لا تأتي الا بالاعتصامات
والاضرابات، ورغم ان المنطق والعقل ومبادئ حرية الانسان في المجتمع المدني
مع مشروعية وحق العامل في الاعتصام، الا ان المجتمع المدني بمنطق العمل
الاجتماعي وتضافر مصالح الكل في واحد يقف ضد الاعتصامات ذات المطالب
الفئوية ؛ خاصة في ظل التوقيت الحساس والمرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر
.
(1)
فلا
أحد ينكر ان الاضرابات ما هي الا مظهر مهم جدا من مظاهر الديمقراطية، وان
كل المنظمات الحقوقية طالبت طوال سنوات مضت بتكفل الدولة لحق المواطنين في
الاعتصامات والاضرابات؛ وما إن كفل القانون هذا الحق حتي اصبح وباءً
حقيقيًا ينخر في عظام الاستقرار المصري، وربما يتسبب في العديد من المشكلات
التي لا حصر لها.
فحسب
الدراسات التي قامت بها الباحثة هويدا علي أستاذة العلوم السياسية في
جامعة العلوم والتكنولوجيا لتحليل ظاهرة الاحتجاجات والاضرابات في مصر، نجد
انها تضاعفت بشكل مثير للغاية إلا انها اصبحت وباءً حقيقيًا يتكاثر بسرعة
غريبة؛ فقد كان عددها في العام 1998 حوالي 100 زادت الى 115 في العام 2001،
ثم تصاعدت الموجة بشدّة لتصل إلى 220 في العام 2006، وسجّل العام المنصرم
ارتفاعاً ملحوظاً في الاضرابات والاحتجاجات الشعبية لمختلف الفئات في مصر،
فقد وقع في (أبريل) 57 احتجاجاً، وفي (يوليو)
97، وفي (سبتمبر) 94، وعقب الثورة وصل عدد الاضرابات والاعتصامات الي حوالي
300 في عدة اشهر.. وهذه ارقام مقلقة للغاية في ظل المرحلة الانتقالية التي
تشهدها البلاد.
وتؤكد
الدراسة أن هذه الاحتجاجات بدأت في المناطق الصناعية المهملة، مثل كفر
الدوار والمحلّة وشبرا الخيمة وحلوان.. لكن شرارة الغضب بدأت منذ عامين
بعمال الغزل والنسيج في شركة إسكو بقليوب، احتجاجاً على بيع المصنع خوفاً
على حقوقهم، وكانت توقّعاتهم صائبة، فقد تم تخفيض عدد العمال ، بعد خمس
موجات من الإحالة إلى المعاش المبكّر والتقاعد، من 24 ألف عامل إلى 3500
فقط، وهو ما جعل عمّال المحلّة يضربون عن العمل خوفاً من خصخصة مصانعهم،
الى جانب مطالبتهم بزيادة الأجور وصرف مستحقاتهم وحل اللجنة النقابية.
إن
المجتمع المصري لم يشهد مثل هذه الكثافة الاحتجاجية منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية. وتكاثر حركات الاحتجاج الاجتماعي، وتصاعد مطالبها على
نحو كبير، ينذر بزيادة الأمور سوءا وتعقيدا بالنسبة للدولة وبالنسبة
للمجتمع على السواء.
فبينما
بدأت تظهر على المؤسسات الرسمية بمختلف مستوياتها علامات ارتباك وتشنج،
عكستها زيادة حدة الانفلات الامني الذي يشهده الشارع، راحت الأحوال العامة
للمواطنين تتعقد أكثر فأكثر، وتزداد صعوبة ؛ بسبب الزحام واختناقات المرور
التي تبدو مستعصية على الحل ووصول التلوث إلى مستويات خطرة، واتساع نطاق
عدوى الإضرابات والمظاهرات؛ حتي باتت تضرب مواقعا مهمة وخطيرة.
(2)
ومع
انتشار ثقافة الاضراب بشكل واسع، واصبح أي مواطن يتعرض لمشكلة يفكر في
الاعتصام لحلها، اصبح انتشار هذه الثقافة على نحو هذا المدي الواسع من شأنه
أن يضر الدولة؛ لأن الاضرابات العفوية تتم خارج اطار مؤسسات او تعاليم
منهجية، فبدلا من أن يتم تنظيم اضرابات تدريجية يحاول منفذوها تحقيق أكبر
قدر من الصدمة للحكومة، ولو علي حساب الشأن العام مثلما فعل الصيادلة من
قبل وموظفو الضرائب العقارية وخبراء وزارة العدل وعمال غزل المحلة قبل
الثورة، ازدادت لتشمل مختلف القطاعات حتي وصلت للبنوك والمعلمين في المدارس
.
ومن
الملاحظ ان الاجور هي المحرض الرئيسي علي الاضرابات؛ فمعاناة الأجور تمتد
لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع، فعندما تعلم أن 42% من إجمالى العاملين فى
مصر يتقاضون دخلا شهريا أقل من 800 جنيه ؛ وأن 49% من إجمالى المشتغلين
ليست لديهم اشتراكات فى التأمين الصحى، أى أنهم يتحملون تكاليف علاجهم
بالكامل، وعندما تعلم أيضا أن 54% من العاملين فى قطاع التعليم و49% من
نظرائهم فى الصحة يتقاضون أقل من 470 جنيها شهريا.. ستعرف حجم معاناة هؤلاء
الذين يقومون بالاحتجاجات التى تطلق الحكومة عليها اسم "فئوية".
ان تشوهات هيكل الأجور هي
التي تقف وراء موجات الاحتجاجات العمالية ؛ وما كشفته من تفاوت كبير بين
الأجور والأسعار ؛ يؤكد علي ضرورة تبنى الدولة لسياسات اقتصادية جديدة أكثر
عدالة فى توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع أمرًا حتميا.
(3)
ان
سلوك الاضراب والاحتجاج ليس بعيدا عن عين الحق والقانون فهو من ناحية أولى
لابد أن يكون سلميا ولا يتحول إلى اضراب هادم ينال من أمن واستقرار
الدولة، ومن ناحية ثانية فهو حق قانونى كفله العهد الدولى للحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 والذى يعد قانونا من قوانين
الدولة ولا مساس – بأى حال – بهذا الحق ؛ فالاضراب هو حق شرعى لكل مواطن يشعر بأن حقه يسلب منه أو يتم الاعتداء عليه، وأننا لا نستطيع أن نمنع أى شخص من حقه مادام يشعر بالظلم. لكن
أن يضرب الاحتجاج مصالح ومقدرات وأمن الوطن وأن يتحول الي حالة عنف واحراق
سيارات وقطع طريق واشعال اطارات محروقة عليه ؛ فهذا عمل من أعمال البلطجة
لا الاضراب .
إذن؛
الاضرابات يجب أنننظر لها علي ثلاثة محاور ؛ أولها: الاقتصاد، الذى لا
يتحمل مثل هذه الإضرابات فى هذا التوقيت الصعب.. ثانيا: الحق الشرعى فى
الاحتجاج والتظاهر الذى يكفله القانون.. ثالثا: التجاهل التام من المسئولين
الذين لا يسمح وقتهم بتبنى هذه المطالب فى هذه الظروف التى تمر بها
البلاد.
إذن لابد من ايجاد حلول سريعة لوقف نزيف الاقتصاد المصري من جراء الاعتصامات العمالية الفئوية التي تضرب كل القطاعات بعد ثورة يناير.
كما
أن دعاوي الإضرابات التي انتشرت مؤخرًا تبشر بدخول الطبقة العاملة بكل
ثقلها لتحول مسار الحياة السياسية ، وتغير النظام الاجتماعي والاقتصادي
الذي ورثه النظام الحالي من نظام مبارك، ويصر على الحفاظ عليه.. فظهور هذه
الدعاوي - في حد ذاته - يعني أن مجموعات عمالية أكثر تنظيما تقود
الاحتجاجات، وتعلن عنها مسبقا بخلاف الانطلاق العفوي للإضرابات الذي كان
يهيمن على الحركة العمالية لفترات طويلة. وهو ما يعني تطورا تنظيميا هاما
في صفوف الطبقة العاملة يفتح إمكانية تنسيق أوسع بين المواقع وتشكيل لجان
قيادة مشتركة ومطالب موحدة للحركة العمالية؛ فالثورة المصرية لم تنجح في
الإطاحة بنظام " مبارك " إلا بدخول العمال إلى ساحة الثورة عبر طوفان من
الإضرابات.. والثورات العربية التي لم تتدخل فيها الحركة العمالية مثل
سوريا وليبيا واليمن تحولت إلى حروب أهلية ومذابح.
(4)
الحركة
العمالية في مصر وتونس هي التي حمت الثورة ؛ واليوم لن تكتمل الثورة وتحقق
أهدافها إلا بدخول الطبقة العاملة معترك العمل السياسي المدني المنظم ؛
ولابد أن تعي الحكومة الدرس جيدا ولتتأكد من ان العمال قادرون علي العطاء
والبناء ؛ ومن الضروري أن تتكاتف الجهود من اجل حل هذه الازمة، خاصة ان
هناك العديد من الاقتراحات التي اطلقها مهتمون ومعنيون بالامر للوصول الي
الطريق الصحيح، والتي منها علي سبيل المثال لا الحصر: الاتفاق علي تخصيص
أيام الجمع من كل أسبوع لكل الفئات التى لديها مطالب وحقوق بالتظاهر فى أى
مكان يريدون التظاهر فيه، والذي من الممكن أن يكون ذا معنى أو مغزى لدى
المتظاهرين. وأن تقوم كل فئة بتحديد مطالبها وصياغتها فى بيانات أو لافتات
قبل يوم الجمعة؛ على أن يتم رفعها وتوزيعها يوم الجمعة فى المكان المحدد،
وفى وقت محدد يختارونه ويعلنون عنه. وتقوم الجهات المسئولة بتحديد بريد
إلكترونى لمن يستطيعون استخدام الإنترنت، والإعلان عنهما من بداية الأسبوع
حتى يستطيع الجميع الإرسال قبل نهاية الأسبوع. ويقوم شباب متطوعون من شباب
الثورة الواعى بتلقى هذه الاتصالات والإيميلات وعمل جدول يشمل البيانات
المرسلة أعلاه، ويتم تسليمه لمجلس الوزراء. ويقوم مجلس الوزراء باختيار
المسئول المعنى بمطالب هذه الفئة، وإرساله إلى مكان الاعتصام؛ لمعرفة مطالب
الفئة والتواصل مع المعتصمين وتحديد إمكانية تنفيذها من عدمه وتحديد مدة
زمنية للاستجابة لهذه المطالب. وتقوم الشرطة بحماية هذه الاحتجاجات
السلمية. شريطة التزام العاملين بالعمل طوال أيام الأسبوع لشعورهم بأنه
سيتم الاستماع ومناقشة مطالبهم فى آخر كل أسبوع ؛ مما سيعود بالفائدة على
الاقتصاد المصرى.
ومن
الضروري أيضًا عدم حرمان أى مواطن من حقه فى الاحتجاج والاعتراض والمطالبة
بحقوقه.. وتحقيق التواصل الجدى الفعال المفقود بين المسئولين وأبناء
الشعب. وتقليل عدد الاعتصامات على مدار الأسبوع بعد تحديد مدة زمنية للنظر
فى المطالب. وسهولة حركة المرور نوعا ما.. أيام العمل عند انتهاء حالات
الاعتصامات فى الشوراع. ومن الممكن أن تكون هذه فرصة أن تعود الثقة من جديد
بين الشعب والشرطة