خريطة الطريق العسكرية إلى الحرب العالمية الثالثة". وقد انقسم البحث المذكور إلى عدة أجزاء، كان الجزء الأول منه تحت عنوان: "التصميم العسكري العالمي لـ "البنتاغون" تقسيم يهدف إلى غزو العالم"، والجزء الثاني تحت عنوان: "الانتشار العسكري لقوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يتم في مناطق عديدة من العالم في وقت واحد". وأما الجزء الثالث فحمل عنوان: "مفهوم الحرب الطويلة يميز المذهب العسكري الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
بدا البحث قريبًا للغاية من كتابات الاستراتيجيين السوفيات قبل أكثر من عشرين عامًا ولمدة طويلة من زمن الاتحاد السوفياتي. ولهذا بدا يكرر مفاهيم قديمة كنا قد اعتقدنا أنها انطوت بتفكك الاتحاد السوفياتي والنهاية التي ختمت وجوده. ولكن تطورات الشهور الماضية تعيد إلى الأذهان مفاهيم العسكرية الأمريكية، وتجعل الاتهامات السوفياتية تبدو مبررة ومعقولة. بل إن هذه المفاهيم المتجددة تبدو مثيرة للفزع، خاصة أنها تأتي من كتاب أمريكيين للشؤون الإستراتيجية، وأن هؤلاء الكتاب ابعد ما يكونون عن الشيوعية في أي صيغة من صيغها.
فما الجديد؟ أمران على درجة قصوى من الأهمية، أولهما ما أعلنه البنتاجون قبل أيام (بالتحديد في 26 ابريل ) عن إنشاء وكالة جديدة للمخابرات العسكرية الأمريكية باسم "خدمة الدفاع السرية". وأعلن "البنتاجون" أن الوكالة الجديدة ستنشر عدة مئات من ضباط المخابرات للقيام بعمليات تجسس موجهة إلى أهداف تتعلق بحروب أمريكية مستقبلية وتستهدف كلًا من الصين وإيران.
أما الأمر الثاني فهو الجهد الهائل الذي تبذله الولايات المتحدة لتحويل حلف شمال الأطلسي إلى حلف دولي، لا تقتصر مهامه الدفاعية أو الهجومية على شمال الأطلسي من ناحيته الغربية حيث تقع الولايات المتحدة نفسها، أو من ناحيته الشرقية حيث تقع أوروبا. فالواضح أن خطة توسيع نطاق المهام العسكرية للحلف لا تقتصر على مد مظلة الحلف لتشمل أوروبا الشرقية، إنما تمتد لتشمل منطقة الشرق الأوسط والشمال الإفريقي وكل إفريقيا و كل أسيا، بما فيها الصين وجنوب شرق آسيا التي تشمل فيتنام وماليزيا والفلبين وإندونيسيا حتى أستراليا، بل تمتد إلى أمريكا اللاتينية لتشمل القارة الأمريكية الجنوبية بأكملها. وقد عقد "حلف الأطلسي" في بروكسل مؤتمرا على مدى يومين حضره القادة العسكريون من خمسين دولة، أي ما يزيد على ربع دول العالم. كان الهدف المعلن للمؤتمر "بحث مستقبل أفغانستان". ولكن الهدف غير المعلن الذي تسرب إلى الإعلام الأمريكي والأوروبي، ربما بصورة متعمدة من القيادة الأمريكية للحلف، ارتبط باجتماع سابق عقد في بروكسل أيضا في كانون الثاني/ يناير الماضي وحضره القادة العسكريون من 67 دولة، وبالتالي كان "اكبر اجتماع لرؤساء أركان الحرب في تاريخ العالم كله". بالإضافة إلى هذا، فإن اجتماعي القادة العسكريين كانا تمهيدًا لاجتماع أكثر توسعًا لما يسمى "اللجنة العسكرية لحلف الناتو". وهذا الاجتماع مقرر عقده على مستوى رؤساء الأركان في مدينة شيكاغو الأمريكية. وتفيد المعلومات المتاحة حتى الآن عن اجتماع "القمة العسكرية" هذا أن موضوعه الرئيسي سيكون دور حلف "الناتو" العسكري العالمي. والدول التي سيمثلها في هذا المؤتمر رؤساء أركانها هي دول أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وأوروبا والشرق الأوسط ودول القوقاز (الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا) وشمال شرق آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية) وجنوب شرق آسيا ودول جنوب المحيط الهادي. وقد تأكد أن الإمارات العربية المتحدة ستكون بين الحضور.
وإذا عدنا إلى التطور الأول الذي ذكرناه فإن صحيفة "نيويورك تايمز" نقلت عن مسئول عسكري أمريكي قوله إن الهدف من إنشاء "خدمة الدفاع السرية" هو إعادة ترتيب العمليات البشرية المخابراتية لوزارة الدفاع الأمريكية ككل، فضلًا عن تأمين وجود ضباط المخابرات الأمريكيين في المواقع الصحيحة لمتابعة المتطلبات. والمسئول العسكري نفسه لم يشأ أن يوضح ما يعنيه على وجه التحديد بهذه "المتطلبات". ولكن الباحث الاستراتيجي الأمريكي بيل فان اوكين قال إن من المرجح أن يكون هدف الوكالة الأمريكية الجديدة للتجسس هو "إيران التي تنظر إليها واشنطن على أنها عقبة لا يمكن احتمالها أمام مسعى الامبريالية الأمريكية لتأكيد هيمنتها على المناطق المنتجة للطاقة ذات الأهمية الإستراتيجية، مناطق الخليج وآسيا الوسطى". وألمح الباحث إلى أن "وكالة المخابرات الدفاعية الأمريكية تركز أساسًا على إمداد القادة الميدانيين خاصة في العراق وأفغانستان، إلا أن الخدمة الدفاعية السرية ستوجه فيما يبدو نحو الاستعداد لحروب لم تقع بعد".
معنى هذا أن إيران تقع في دائرة الاهتمام العسكري الأمريكي، ليس فقط من زاوية التعهد الأمريكي بالوقوف إلى جانب إسرائيل إذا قررت هذه أن تنفذ تهديداتها بشن هجمات عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية. وهنا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار ما ذكرته صحيفة "واشنطن تايمز" اليمينية الاتجاه في 26 نيسان/ ابريل الفائت، من أن الإدارة الأمريكية تعتقد أن إيران تسعى لتشكيل "جيش قراصنة" بغرض استهداف "وحدات البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة كمحطات توليد الكهرباء وشبكات المياه عبر هجمات على أنظمة التشغيل بـ"الإنترنيت" حال نشوب مواجهات مستقبلية بين البلدين". وذكرت الصحيفة أيضًا أن لجنتي الأمن الداخلي بمجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين عقدتا جلسة استماع مشتركة لمناقشة هذا الأمر مع تصاعد المخاوف من طموحات نووية إيرانية وتوقعات بوجود عملية عسكرية وشيكة من جانب إسرائيل ضد إيران.
في الوقت نفسه كشف الجنرال بيني غانتز، رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي، عما وصفه بأنه "إمكانية مشاركة دول أخرى مع إسرائيل في شن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية". وعقبت صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية على هذا التصريح قائلة إن هذا التلميح يفيد بوجود ضوء اخضر من دول أخرى لمهاجمة إيران والبرنامج النووي الإيراني المثير للجدل". وعلى الرغم من أن رئيس الأركان الإسرائيلي رفض الإفصاح عن تلك الدول الأخرى واتخذت الصحيفة البريطانية الموقف نفسه، إلا أن أسماء دول مثل السعودية وقطر والإمارات تتردد في مصادر إعلامية عديدة في الفترة الأخيرة باعتبارها دولًا تؤيد مهاجمة إيران وتبدي استعدادًا للمشاركة في هذا الهجوم. وقد ورد أيضا اسم جمهورية أذربيجان في آسيا الوسطى، عندما ذكرت صحافة الغرب منذ نحو أسبوعين، أن إسرائيل وأذربيجان وقعتا اتفاقًا عسكريًا بأن تستخدم طائرات إسرائيل أراضي هذه الدولة كقاعدة لشن الغارات على أهداف إيران المجاورة.
وفيما يتردد الحديث عن استعداد دول أخرى لمشاركة إسرائيل في مهاجمة إيران عسكريًا، فإن وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك رأى هذا الوقت مناسبا للتحذير من انضمام دول أخرى إلى إيران في مجال التسابق على امتلاك القوة النووية. ولكن في هذا المجال لم يتردد الوزير الإسرائيلي في تحديد أسماء الدول الأخرى. فقد حذر من انضمام مصر وتركيا لسباق التسلح النووي أسوة بإيران. وقال باراك، الذي كان يتحدث في ذكرى يوم الاستقلال الإسرائيلي، "إن التعامل مع هذا التصميم الإيراني الذي قد تنتهجه مصر أو تركيا أمر معقد، غير أن التعامل مع هذا التحدي نفسه بعد حصول إيران على قدرة نووية عسكرية سيكون أكثر تعقيدًا بشكل ملموس".
وذهبت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى أقصى مدى في تأكيد تأييد الولايات المتحدة ودعمها لـ"إسرائيل"، إذ أصدرت بيانًا في يوم الاستقلال الإسرائيلي وصفت فيه أمن إسرائيل بأنه حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدة أن واشنطن وتل أبيب تجمعهما روابط عميقة تقوم على أساس المصالح والاحترام المتبادل. وأضافت "ان علاقاتنا مع "إسرائيل" تزداد قوة يومًا بعد يوم، ونحن نعمل على تعزيز الأمن الإقليمي وإنشاء شراكات اقتصادية جديدة وزيادة حجم التجارة البينية وتوسيع التعاون في مجال الطاقة... "اعلموا، وأنتم تحتفلون بعيد استقلالكم وسط التغييرات التي تجتاح المنطقة، أن الولايات المتحدة تقف معكم للحصول على فرص جديدة ومواجهة التحديات الصعبة وستواصل العمل معكم ومع جيرانكم لتحقيق الهدف المشترك المتمثل في تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط".
ويبقى سؤال لا يمكن الإفلات من الإجابة عليه "هل تستطيع الولايات المتحدة أن تستعد لعولمة الحرب، أي لإثارة حرب عالمية ثالثة - لتأكيد هيمنتها الإستراتيجية والاقتصادية والثقافية على العالم - بينما هي عاجزة تمامًا عن الخروج من مأزقها في حرب أفغانستان التي استمرت حتى الآن لنحو احد عشر عاما، من دون التوصل إلى نتيجة حاسمة تمكنها من الخروج من هذه الورطة"؟
لعل الإجابة الوحيدة الممكنة على هذا السؤال هي أن الولايات المتحدة بصدد خطط حربية ضد الصين وفي الشرق الأوسط، لمساندة إسرائيل ضد إيران وتأمين سيطرتها على مصادر الطاقة النفطية لأجل غير مسمى، وفي أوروبا لفرض هيمنتها الاقتصادية، وبالمثل في أمريكا اللاتينية، بسبب هذا العجز الواضح الملموس عن الخروج من مأزق الحرب "الصغيرة" في أفغانستان.
إن خطة الحرب العالمية الثالثة تهدف بالدرجة الأولى والأخيرة إلى تأخير تراجع الولايات المتحدة إلى مركز الدولة الثانية ـ بعد الصين ـ اقتصاديًا واستراتيجيًا، الأمر الذي يتوقعه الإستراتيجيون الأمريكيون أنفسهم بحلول العام 2020. ولهذا فإن التقدير الاستراتيجي الأمريكي يقوم على استخدام القوة الأمريكية من الآن وقبل أن يحين وقت التراجع. والتقدير الاستراتيجي الأمريكي يعتمد اعتمادا أساسيا على قوة حلف الأطلسي الموسع وليس على القوة الأمريكية في حد ذاتها.
وإذا أخذنا بوجهة النظر القائلة إن التغييرات الأخيرة في الشرق الأوسط ما هي إلا جزء من الخطة الأمريكية فإن الصورة تصبح أكثر تعقيدًا مما كانت في أي وقت.
أن أمريكا تريد الخروج من الأزمة بتكبير هذه الأزمة.
والأمر المؤكد أن إسرائيل هي الطرف الأوحد الذي يمكن أن يخوض هذه الحرب الأمريكية عارفًا بتفصيلاتها من الألف إلى الياء. مع ذلك فإن أمريكا نفسها لا تبدو موحدة وراء هذا الهدف. إنما يبدو لها أن مصلحة إسرائيل يمكن أن توحد الأمريكيين وراءه. وهذه بدورها رؤية تنظر إلى الخلف، فإن النظرة للأمام تؤكد أن تيارات قوية داخل المجتمع الأمريكي لم تعد ترى تطابقًا بين مصالح إسرائيل ومصالح أمريكا.