كثيرون، وخصوصا من العرب والمسلمين، تحدثوا عن زوال الكيان الصهيونى كحتمية تاريخية أو قرآنية وما شابه. ولكن مثل هذه الأحاديث خلت في الغالب من القراءة الموضوعية للواقع وكانت أقرب إلى التفكير الرغائبي منها إلى الدراسة العلمية.
كما أن الكثير من الصهاينة أنفسهم تحدثوا عن احتمالات زوال الكيان ولكن في الغالب ضمن منطق تحذيري وبهدف تحشيد القوى ورص الصفوف. ومؤخرا نشر في الكيان الصهيونى كتاب مترجم عن الفرنسية لباحثين بلجيكيين هما ريشار لأوف وأوليفيا بوروخوفيتش بعنوان «إسرائيل: مستقبل مشوب بالريبة».
وقد عرض البروفسور يوسف هودرا الذي يدرس العلوم الاجتماعية في جامعة بار إيلان لهذا الكتاب في مقالة نشرت في «هآرتس».
وكتب أن هذا كتاب هام وضروري في هذه الأيام تحديدا حيث تكثر التحذيرات والتنبؤات – المدروسة والأخروية - حول الشروخ البادية في المجتمع الإسرائيلي. ولكن لأوف وبوروخوفيتش يعرضان علينا تقييما دقيقا ورصينا بشأن فرص المجتمع الإسرائيلي في البقاء ككيان قومي على المدى المتوسط، بين 10-20 عاما.
تشظي الأيديولوجيا
والمؤلفان لا يخفيان تعاطفهما مع الكيان الصهيونى ومع الدولة الفلسطينية، وفي هذا الإطار يحللان بعمق وتوازن مثالي العوامل المقررة لبقاء إسرائيل والأيديولوجيا الصهيونية المفترض أن تشكلها.
وهناك من يعتقد أن هذا المشروع قريب من الفشل بسبب أن الطموح «لإدخال أغلبية الشعب اليهودي إلى أرض إسرائيل» يزداد تشظيا. وكذلك الرأي السائد بأن وجود الكيان الصهيونى ككيان ديموقراطي يضعف في السنوات الأخيرة. ولكن قلق المؤلفين أكثر عمومية وشدة.
وبحسب رأيهما فإن وجود الكيان الصهيونى في الشرق الأوسط يمكن أن يزول إذا لم يحسن زعماؤها العمل في الظروف الخارجية والداخلية التي يتعلق بها هذا الوجود.
ويعرض الباحثان البلجيكيان ثمانية معايير لفحص قدرة الكيان الصهيونى ككيان سياسي على البقاء. ويكرسان لكل واحد من هذه المعايير فصلا معمقا ورصينا.
والمعيار الأول يتعلق باستمرار وتنوع المواقف المعادية للسامية والمعادية للصهيونية والتي لا تنبع فقط من التاريخ الديني والثقافي للغرب بل من الأفعال البائسة للكيان نفسه، خصوصا في مجال التقليص الذي تفعله بمعنى المحرقة النازية والاضطهاد للفلسطينيين في المناطق المحتلة.
أما المعيار الثاني فيشير إلى صعود الأصولية الإسلامية التي ترى في إسرائيل فرعا وتلميذا سيئا للإمبريالية الغربية. ويزعم المؤلفان أن هذا الميل سيتعاظم مع مرور الوقت وسوف تنشأ أوضاع ممكنة لهجمات مشتركة أيديولوجية ودبلوماسية وعسكرية ضد الكيان الصهيونى.
غياب الاستقرار
ويتصل الفصل الثالث بالوضع المتواصل لغياب الاستقرار في الدول المعادية للكيان الصهيونى. وتغيير هذا الوضع لن يترجم بالضرورة إلى سياسة إقليمية تسلم بوجود الكيان، بل العكس من ذلك. فالاستقرار يسمح للدول المتنازعة حاليا مع بعضها أن توحد قواها ضد هذه الدولة العبرية.
ويعرض المعيار الرابع للتكنولوجيا العسكرية الحديثة، التي تسمح بهجمات مدمرة ومشتركة من بعيد. من هنا ليس بوسع الكيان مستقبلا أن يخوض حروبا فقط على أراضي العدو: فشواطئها سوف يغدو معرض للهجمات كما حدث في حرب الخليج الأولى العام 1991.
في المكان الخامس يأتي التأييد الدولي، وخصوصا من الولايات المتحدة، الذي يتراجع، سواء بسبب ظهور أجيال جديدة لا تشعر بالذنب جراء المحرقة النازية (فضلا عن مشاركة الكيان الصهيونى في الاستهانة بها جراء استغلالها سياسيا)، أو بسبب تغيير حاد في السياسة الخارجية للدول الغربية جراء صعود قوى عظمى جديدة (مثل الصين، الهند والبرازيل) والطلب العالمي المتزايد على المواد الخام والتي لا تتوفر للكيان الصهيونى.
وبموازاة ذلك هناك المعيار السادس الذي يعرضه المؤلفان وهو يتعلق برد فعل الرأي العام الشديد ضد الكيان الصهيونى كلما تبين أنها تنوي فعليا ضم ومصادرة الأراضي التي احتلتها العام 1967 عبر إبعاد وقمع سكانها الفلسطينيين. ويتعزز هذا الميل بقدر ما تقوم الجاليات اليهودية في العالم بقبول وتمويل – فعليا أو ظاهريا - العدوانية الصهيونيه في هذا المجال.
والعامل الضاغط الآخر الذي يعيب على الوجود القومي الصهيونى هو العامل الجغرافي. فالكيان الصهيونى دولة صغيرة وضيقة وفي حال تعرضها لهجوم منسق يستعين بوسائل تكنولوجية متطورة، كما يكتب المؤلفان، فإن إصابة المواقع الاستراتيجية الإسرائيلية أمر محتوم.
وفي النهاية يشدد المؤلفان على الشروخات الكثيرة داخل الكيان الصهيونى والتي تضعفه من الداخل. ويريان أن النمو الديموغرافي يميل لمصلحة الشرائح المعادية للصهيونية والتي تثقل على الدولة وخصوصا شريحة المستوطنين التي تزداد توسعا واحتلالا للمناصب المركزية في السياسة وفي الجيش. وفي مثل هذه الظروف لا مجال لحكم ناجع أو لاتزان عقلاني في سيرورة اتخاذ القرارات.
نموذج فاشي
إن كل هذه المعايير والمتغيرات تشكل عند لأوف وبوروخوفيتش موضع تفسير موسع وإذا نقصها شيء فإنه يرد في مراجع مناسبة، وقدم للكتاب بترجمته العبرية المؤرخ إيلي بار نبي الذي قدم تأييدا حذرا للمؤلفين.
وكتب أن العالم «ابتسم لإسرائيل» حتى العام 1967 حينما مالت لمنح التأييد والمساعدة لدول آسيا وأفريقيا التي كانت ضحية الإمبريالية وعندما وقفت إسرائيل بشجاعة في منطقة عاصفة. ولكن إسرائيل بحسب رأيه فقدت هذه المكانة بعد العام 1967، عندما صارت «ضحية البربرية النازية تسبب بدورها معاناة لا توصف للفلسطينيين». حينها «تبددت صلاحية معسكرات الإبادة».
وانقلب الأبطال التوراتيون، وبدأ الضحية في استيعاب مواقف الظالم. لكن بار نبي لا يشارك المؤلفين «التشاؤم الراديكالي» لأنه «ليس هناك نموذج في العالم المعاصر لمحو دولة قومية» ولأن «إسرائيل مسلحة جيدا وتمتلك سلاح يوم القيامة».
ومع ذلك فإن البروفسور هودرا يرى أن «سلاح يوم القيامة» يستدعي، وليس فقط يمنع، هجمات بوسائل مشابهة أو سواها. ويرى هودرا أيضا أن أهم ما في الكتاب يتعلق بهشاشة الدعم الدولي لإسرائيل وخصوصا من جانب الولايات المتحدة، والشروخات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي.
ويقول إن بوسع الكيان الصهيونى الركون إلى الغرب طالما لم تحدث في الذاكرة الجمعية لدولها تغييرات بعيدة المدى، خصوصا في النخبة. ولكن هذه الظروف تتراجع.
وأوضح أن الشروخات في المجتمع الصهيونى ـ الثقافية، الدينية، الطبقية والأيديولوجية - تتعاظم وبرغم أن الشعور بالحصار يشوشها أحيانا إلا أن الوضع الأمني أو السعي لتحقيق السلام يثير احتكاكات قاسية وربما عنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي.
وربما لهذا السبب يميل مؤلفا الكتاب إلى التفكير بأن على الكيان الصهيونى أن تحقق فعليا الفصل بين الدين والدولة إذا كانت تطمح فعلا للبقاء كدولة قومية.