كُتب كثيرا عن قصة المواجهة بين جمال عبد الناصر وبين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وإن كان أغلب الحكايات التى نسجت حول هذه القصة هو مجرد خيال.. ولكن لم يكتب إلا القليل عن المواجهة بين جمال عبد الناصر وبين المخابرات البريطانية الخارجية المعروفة باسم جهاز الإم آى سكس أو Mi6. وقد صدر فى بريطانيا مؤخرا جدا واحد من أهم الكتب عن جهاز المخابرات البريطانية الخارجية وهو يتناول تاريخها وأساليبها وأسرارها.. الكتاب بعنوان إم آى سكس: مغامرة داخل العالم السرى لجهاز المخابرات البريطانية من تأليف الصحفى البريطانى المعروف ستيفن دوريل ويحتوى على سبعة أجزاء أهمها على الإطلاق الجزء الخاص بعمليات المخابرات البريطانية فى الشرق الأوسط.. هذا الجزء يحتوى على 5 فصول مهمة تتعلق بنشاط المخابرات البريطانية فى فلسطين وقبرص وإيران واليمن وقبل هذا وذاك نشاطها فى مصر.. وتحت عنوان السويس: رواد اغتيال وبلطجة خصص الكاتب فى أكثر من 50 صفحة قصة المخابرات البريطانية مع عبدالناصر.
عندما قامت ثورة يوليو 1952 ومرور عام عليها كانت المخابرات البريطانية مشغولة بإيران والمواجهة مع محمد مصدق رئيس الوزراء الذى حاول تأميم صناعة البترول الإيرانية وضرب احتكارات الشركات البريطانية والامريكية لها.. وتمكنت هذه المخابرات من الإطاحة بمصدق فيما مثل نجاحا كبيرا لها.. إلا أن هذا النجاح لم يخف حقيقة أن - وكما يرد الكتاب على لسان رئيس الإم آى سكس فى ذلك الوقت جورج يانج - المخابرات البريطانية كانت تعانى من تدهور فى أدائها فى عدد من البلاد العربية وخصوصا مصر.. أولا وقبل أن تقوم الثورة لم يكن للمخابرات البريطانية أى علم بتنظيم الضباط الأحرار حتى ان أحد الضباط البريطانيين البارزين فى القاهرة كان قد تقابل مع أحد المعلمين المصريين فى كلية ضباط أركان حرب المصرية وأخبره الأخير بسر كبير وهو أن هناك تنظيما سريا داخل الجيش المصرى وأن هذا التنظيم يخطط للقيام بمحاولة لقلب نظام الحكم.. وأسرع الضابط البريطانى بارسال هذا الخبر للسفارة التى أرسلته بدورها لأنتونى إيدن الذى كان فى ذلك الوقت وزيرا للخارجية البريطانية.. وما كان من إيدن إلا أن أرسله للمخابرات البريطانية التى ردت عليه قائلة: إن هذه المعلومات لا أساس لها من الصحة وإن الجيش المصرى بالكامل يدين بالولاء للملك فاروق.. وكان هذا الرد من المخابرات البريطانية قبل ثورة يوليو ب3 شهور فقط.. وحتى عندما قامت الثورة - كما يقول الكتاب - فشلت المخابرات البريطانية فى أن تفهم أن هذه الثورة بخلاف خلعها للملك فاروق كانت فى أعماقها تمثل حالة كره ومقت عارم من جيل مصرى شاب للاحتلال البريطانى وتجاه كل ما هو بريطانى.. والنتيجة أن المخابرات البريطانية لم تفهم فيما بعد حقيقة الصراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب.. ويقول جيفرى هنتون مدير محطة المخابرات البريطانية فى القاهرة عند قيام الثورة وصديق كيم فيلبى ضابط المخابرات البريطانية الذى اكتشف فيما بعد أنه كان أكبر جاسوس للاتحاد السوفيتى.. إننا لم نتمكن من فهم الأهداف الحقيقية لثورة يوليو ليس فقط لأن أداءنا كان غير كفء فى جميع المعلومات ولكن لأن عبدالناصر نجح بذكاء خارق فى التمويه على أهدافه وعدم كشف كرهه العميق للاحتلال البريطانى الذى طال مكوثه فى مصر.. لم تعرف المخابرات البريطانية - كما يضيف الكتاب - أن ناصر كان قد قام فى شبابه بالانضمام لمظاهرات ضد الإنجليز وأنه تقريبا احتجز فى السجن بسبب هذا النشاط، كان عبدالناصر - كما يقول ضابط السفارة البريطانية فى القاهرة فى مارس 1953 جون دى كورسي- يعتقد اننا كقوة عظمى كنا فى حالة انهيار وشيخوخة ومن ثم كان الهدف ألا يقبل هو وزملاؤه بأقل من انسحابنا التام وأنهم ليسوا ملزمين بأى نوع من التحالف معنا فى المستقبل.
وعندما بدأت تفهم بريطانيا بعض الشيء توجهات ثورة 23 يوليو مع بداية 1953 كان تفكير إيدن هو قيام المخابرات البريطانية بتدبير انقلاب ضدها إلا أنه تخلى عن هذا التفكير بعد أن اقنعه السفير رالف ستيفنسون رئيس أركان المخابرات المشتركة فى ذلك الوقت بأن الإطاحة بحكومة محمد نجيب سوف تسهل على القومى المتشدد عبد الناصر الاستيلاء بالكامل على السلطة.. علاوة على هذا كانت المخابرات الأمريكية تأمل فى أن يكون عبد الناصر ظهيرا لأمريكا وأن يتكلل هذا بعقد صلح بين مصر وإسرائيل.. فى هذا الإطار ضغط الأمريكان على البريطانيين للإسراع بعقد اتفاقية جلاء عن مصر مع عبد الناصر وعلى أمل أن يؤدى هذا الجلاء إلى تهدئة خواطر ناصر ونظامه وأن يصبح حليفا للغرب بعد هذا الانسحاب.. وكان رأى المخابرات البريطانية لهذا التقييم الأمريكى أنه تقييم غير سليم لأنها كانت تعتقد - وبغباء شديد - أن عبد الناصر لن يطول به البقاء فى الحكم.
على أية حال يعود الكتاب ويذكرأيضا أنه عند بدء الثورة وبعد استيعاب المخابرات البريطانية لبعض أبعادها ونوايا القائمين عليها وخصوصا عبدالناصر قامت بأول محاولة للانقلاب عليها.. بدأت هذه المحاولة من خلال قيام عميل يوغوسلافى موجود فى القاهرة بالسفر إلى روما ومقابلة جون فارمر مدير محطة المخابرات البريطانية فى العاصمة الإيطالية.. قام العميل بتقديم شخصيتين مصريتين بارزتين لفارمر هما: الأمير محمد عبدالمنعم ابن خديو مصر السابق، ومرتضى المراغى الذى كان وزير داخلية سابق.. وكانت الخطة تقتضى الاعتماد على عدد من ضباط الجيش الموالين لعبد المنعم والمراغي للقيام بانقلاب وتنصيب عبد المنعم ملكا والمراغى رئيسا للوزراء.. إلا أن هذه الخطة سرعان ما تم صرف النظر عنها بعد أن تبين أن عبد المنعم والمراغى لا يتمتعان بأى قدر من الشعبية أو المساندة داخل أو خارج الجيش.
ثم جاء عام 54 وشهد قصة الصراع بين محمد نجيب وعبد الناصر وانتهى لصالح الأخير، وأكثر من هذا نجح عبد الناصر فى التوصل لاتفاقية جلاء كامل مع البريطانيين.. إلا أن المخابرات البريطانية لم يهدأ لها بال حيث أخذت فى استعراض القوى التى يمكن أن تناوئ عبد الناصر وتشكل خطرا حقيقيا ينقلب عليه ويتخلص منه فى النهاية.. وجدت المخابرات البريطانية أن الإخوان المسلمين هم أفضل قوة لتنفيذ هذا المخطط وخصوصا بعد انقلاب عبد الناصر عليهم.
ووجدت المخابرات البريطانية فرصتها السانحة فى المدعو سعيد رمضان الذى كان قد انضم للإخوان المسلمين فى 1940 وتتلمذ على يد حسن البنا وتزوج ابنته فى 1949 وبعد مقتل رئيس الوزراء النقراشي والقبض على عدد كبير من الإخوان المسلمين هرب سعيد رمضان إلى باكستان وقام بتأسيس محطتين إذاعيتين موجهتين للبلاد العربية.
ويقول الكتاب إن سعيد رمضان أصبح متعاملا فيما بعد مع المخابرات البريطانية والأمريكية وحتى السويسرية وخصوصا بعد أن استقر به المقام فيما بعد فى جنيف.. وفى جنيف وبالتعاون مع سعيد رمضان قام ضابطا المخابرات البريطانية نيل ماكلين وجوليان آمري بتنظيم حركة مضادة لعبد الناصر من الإخوان المسلمين ومستغلة فى ذلك تدهور العلاقة بين عبد الناصر والإخوان وخصوصا بعد أن عارضوا خططه فى الإصلاح الزراعى.. علاوة على ذلك كان هناك تنسيق مع عدد آخر من جماعة الإخوان ممن لجأوا للسعودية لتنظيم خطة المخابرات البريطانية الانقلابية ضد عبد الناصر.. وقد علم عبدالناصر ببعض ما يفعله سعيد رمضان - كما يقول الكتاب - فقام بسحب الجنسية المصرية منه وكان ان قامت ألمانيا الغربية - التى كانت غاضبة من عب الناصر فى ذاك الوقت لاعترافه بألمانيا الشرقية - باعطاء جواز سفر ألمانى لسعيد رمضان.
وقد اتجه سعيد رمضان بالجواز الألمانى إلى ميونخ بألمانيا ثم عاد لسويسرا واستقر به المقام فى جنيف حتى توفى عام 1995.. وفى جنيف - يقول الكتاب - أسس رمضان المركز الإسلامى وقام بالتنسيق مع المدعو يوسف ندا لتأسيس بنك التقوى.
كانت سويسرا عندما انتقل سعيد رمضان اليها تعرف انه عميل للمخابرات البريطانية والأمريكية وانه أصبح يقوم بنشاط موجه بالتنسيق معهما ضد عبد الناصر، ولكن - وكما يقول الكتاب مستندا للأرشيف المخابراتى السويسرى - ان أجهزة المخابرات السويسرية تركته على أساس ان جماعته لا تعكس اتجاهات معادية للغرب وفيما بعد استخدمته لصالحها.. قام سعيد رمضان بالتنسيق مع حسن الهضيبى من خلال تريفور إيفانز المستشار الشرقى للسفارة البريطانية للتخطيط لعملية اغتيال عبد الناصر.. وأخيرا فى 26 أكتوبر وأثناء قيام عبد الناصر بالقاء خطاب فى الاسكندرية أطلق أحد أعضاء الإخوان 8 رصاصات عليه ولم تصبه وفشلت محاولة الاغتيال التى دبرها سعيد رمضان فشلا ذريعا وليزداد بعدها حنق المخابرات البريطانية على عبد الناصر ونظامه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
استعرض ملفا شخصيا ارسل رسالة خاصة