نظرية الإحلال / و نظرية الاحتواء / وظاهرة تعدد الأديان .. في الجزء
الأول من هذا البحث ( سيكلوجية الدين والتدين : لماذا الاعتقاد في
الديانات الخرافية ) ؛ سبق تعريف ظاهرة تعدد الأديان : [ بأنها الظاهرة
التي يحتل فيها " الإله الوثن " وعبادته حيز " الإله الحقيقي " وعبادته في
داخل النفس البشرية .. وبهذا يصبح التمسك بالوثن والدفـاع عن الدين هو
التمسك الطبيعي بالإله والدين .. كما تقضي بذلك الفطرة البشرية ] . وهو ما يمكن أن يعرف باسم " نظرية الإحلال " .. أي إحلال " الإله الوثن " مكان " الإله الحقيقي " في داخل النفس البشرية . وقد رأينا مثل هذا الفكر واضحا في فكر ابن عربي في الأبيات السابقة ..!!! والفكر الصوفي ـ
شأنه في هذا شأن الفكر المسيحي أو الفكر اليهودي أو أي فكر وثني آخر ـ
يخلط بين الدين ( بمعنى المضامين الدينية ) وبين إدراك وجود الحضرة
الإلهية أي إحساس الإنسان بوجود الله .. الخالق المطلق للوجود ( سبحانه
وتعالى ) .. ودوافع ممارسة العبادة .. كما سبق وأن بينت هذا في الجزء
الأول من هذا البحث .وقد شاهدت ذلك
بنفسي ـ كثيرا ـ في الكنائس في أثناء إقامتي في الولايات المتحدة . فقد
تجد في قداس الآحاد ـ في الكنائس ـ دموع كثيرة وربما نحيبا عند إدراك وجود
هذه الحضرة الإلهية ( أثناء العبادة ) . وعادة ما يصور التليفزيون
الأمريكي نساء كثيرات ـ عقب أدائهن لصلاة الآحاد ـ وهي تقول وبانفعال شديد
وبكلمات متهدجة .. وعيون ممتلئة بالدموع .." إني أدرك أو أحس وجود عيسى في داخلي : I feel Jesus inside me "
فمثل هذه المشاعر
هي مشاعر حقيقية لا لبس فيها ولا غموض ..!!! وهي إن دلت .. إنما تدل على
فطرية وجود الله عز وجل ـ الخالق المطلق ـ فحسب في أعماق النفس البشرية
ولا علاقة لها بمفهوم ومنطق المضامين الدينية .. أو حتى الصفات الإلهية .
وفي الحقيقة ؛ تعبر هذه الصورة عن احتلال عيسى ( عليه السلام ) ـ أو أي
وثن آخر في حالة عبادة الأصنام ـ لحيز الإله في النفس البشرية فحسب ..!!!
فالإنسان ليس له فضل في هذه الفطرة الخاصة بإدراك وجود الله ( عز وجل ) ..
أو الإله على نحو مطلق .. كمفهوم الاختبار في هذه الحياة الدنيا للوصول
إلى الله عز وجل من خلال العقل أو الإيمان العاقل ..!!! هذا وقد سبق وأن
بينت في مرجعي ال سابق : " الحقيقة المطلقة .. الله والدين والإنسان " ..
أن دموع الانفعال بوجود الحضرة الإلهية يتساوى فيها الإنسان في المساجد ..
في الكنائس .. في المعابد .. وفي المراصد .. وخلافه . فالإنسان مفطور على
إدراك وجود الخالق ولا أعذار في هذه الفطرة على النحو السابق ذكره .· الشرك بالله .. من سقطات بعض الصوفية ..!!! والآن ؛ وبعد
رؤيتنا للفكر الإسلامي في قضية الشرك بالله ( سبحانه وتعالى ) سوف نعرج
الآن على بعض الفكر الصوفي ( وكذا الرهبنة المسيحية ) وبيان سقطاتهما
المهلكة .. والتي تدّعِي بإمكانية عبادة الله ( سبحانه وتعالى ) بأي دين ..!!! بداية لابد
لنا من إلقاء الضوء على الفكر الصوفي ؛ حيث يدور هذا الفكر ، بصفة عامة ،
حول " قضية أو مشكلة الفناء " ( في الله سبحانه وتعالى ) . فإلى جانب
التصوف السني ( أبو القاسم الجنيد ، وأبو حامد الغزالي .. والذي يعني
الوصول إلى الحب الإلهي من خلال الدين الإسلامي ) فإنه يوجد ثلاثة اتجاهات
رئيسية في الفكر الصوفي وهي :
- " الفناء والاتحاد " ( ويمثله : البسطامي ) . أي التوحد مع الله سبحانه وتعالى .
- " الفناء
والحلول " بمعنى حلول الله ـ تنزه عن هذا ـ فيه ، ويمثل هذا الفكر : "
حسين بن منصور الحلاج " ، وله مواجيده في مخاطبة المولى ( عز وجل ) منها :
عجبت منك ومنى يا منية المتمنى
أدنيتنى منك حتى ظننت أنك أنى
وغبت فى الوجد حتى أفنيتنى بك عنى
- " الفناء ووحدة الوجود " ( ويمثله : ابن عربي ، ومن الغرب الفيلسوف اليهودي " باروخ اسبينوزا " ) .
والتصوف ـ بصفة
عامة ـ هو مجاهدة النفس لتصفية القلب لله .. وغايته النهائية الوصول إلى
الحب الإلهي . ويمكننا القول ـ بصفة عامة ـ بأن الفكر الصوفي الصحيح هو
محاولة الوصول ـ من خلال الفكر الإسلامي ـ إلى مقام :) .. رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) (( القرآن المجيد : التوبة {9} : 100 )أي أن يصل العبد إلى الرضاء المتبادل بينه وبين الخالق العظيم سبحانه وتعالى .وكما رأينا في الفقرة السابقة ؛ أن قبول مبدأ عبادة الله بأي دين لا يعني سوى الشرك بالله سبحانه وتعالى ، بل
ويعكس هذا الفهم .. عدم التفريق بين المضامين الدينية من جانب .. وبين
الفطرة الدينية الخاصة بالانفعال بالحضرة الإلهية ودوافع ممارسة العبادة
من جانب آخـر .. بدون الحاجة إلى إعمال العقل في النص الديني . وربما لعدم
درايـة بعض الصوفية ـ من المسلمين ـ بمـا تحويه الديانات الأخرى من مضامين
وثنية ( خرافات وأساطير ) عن صفات الإله ـ على النحو الذي رأيناه من قبل
في كتابات الكاتب السابقة ـ نجد أن بعض الصوفية تقبل بعبادة الله ( I ) بأي دين كما سنرى . ولبيان هذه السقطة .. سوف نبدأ بفكر الفيلسوف الصوفي محي الدين ابن عربي ( 560 – 638 هجرية / 1165 – 1240 ميلادية ) الذي دعى إلى تمييع الحدود
.. وإزالة الفروق بين الأديان .. وفتح القلوب لكل المعتقدات .. بل وإلى
الدين الواحد المؤسس على الاعتقاد الواحد الجامع لمختلف المعتقدات .. حيث
صاغ ـ ابن عربي ـ تلك الدعوة شعرا كما جاء في مقدمة هذا البحث ..قد كنت قبل اليوم أُنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قـابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان [5] !وبيت لأوثـان وكعـبـة طـائفوألواح تـوراة ومصحف قرآن !
أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه ، فالحب ديني وإيماني !
وكما نرى أن ابن
عربي قد سوي بين الدين السماوي الحق .. وبين الديانات الوضعية .. وكذا
الديانات الوثنية الأخرى بما في ذلك عبادة الأصنام ..!!! وبديهي ؛ لم يفهم
ابن عربي معنى الدين على نحو مطلق .. وبالتالي لم يفهم معنى الدين
الإسلامي ..!!! وما أعماه عن هذا الفهم هو : أن الفكر الصوفي تحركه دائما مشاعر ( الحب ) الخاصة بإدراك وجود الحضرة الإلهية فقط .. أو ما يمكن أن يعرف أو يسمى بالفناء في الله ( عز وجل ) .. وهي مشاعر فطرية ( وانفعالات عاطفية ) يشترك فيها ( أو يجتمع عليها ) كل الناس على النحو الذي بيناه في مرجع الكاتب السابق : " الإنسان والدين : ولهذا هم يرفضون الحوار " .فإدراك الحضرة
الإلهية هي فطرة أودعها الحق ـ تبارك وتعالى ـ في داخل النفس البشرية
بداية من عملية خلقه أو تكونه الجنيني .. كما جاء هذا في قوله تعالى ..) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) (( القرآن المجيد : الأعراف {7} : 172 - 174 )
فمشاعر وانفعالات
وجود هذه الحضرة واحدة في النفس البشرية بصفة عامة . لا فرق فيها بين
إدراك المسلم لله عز وجل .. وبين إدراك المسيحي لإلهه ( المسيح ) .. أو
إدراك عابد الأصنام لإلهه وهو يقف بين يديه . فالمشاعر هنا واحدة .. حيث
يشترك في هذه الأحاسيس الإنسان بصفة عامة .. حيث تقف " الفطرة البشرية " وراء هذه الأحاسيس. فمثل هذا الإدراك للحضرة الإلهية هو جزء من الفطرة التي خلق الله ( U
) الإنسان عليها . والخطأ كل الخطأ أن تؤخذ هذه المشاعر .. والانفعالات
الفطرية .. على أنها دليل صدق على صحة العقيدة ..!!! لأن هذا يؤدي مباشرة
إلى الشرك .. وظاهرة تعدد الأديان .وهنا نرى ـ جيدا ـ أن ابن عربي توقف فهمه عند إدراك هذه الفطرة فقط .. أي فطرية إدراك وجود الله ( I ) في النفس البشرية .. ولهذا رأى أن كل العبادات في جوهرها تقدم للخالق ( U ) أيا كانت صورته ..!!! وهو بهذا العلم القاصر لم يتنبه إلى قوله تعالى ..) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ .. (23) (
( القرآن المجيد : الإسراء {17} : 23 )
وإلى قوله تعالى ..) .. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)(
( القرآن المجيد : لقمان {31} : 13 )
وإلى قوله تعالى ..) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)(( القرآن المجيد : النساء {4} : 48 )
وإلى قوله تعالى ..) .. إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ .. (72)(
( القرآن المجيد : المائدة {5} : 72 )
فالإنسان " مخلوق
" وليس خالقا ..!!! فالقرار والأحكام الخاصة بالعبادة .. يحددها الله
سبحانه وتعالى .. وليس الإنسان .. كما جاء في قوله تعالى على لسان يوسف (
عليه السلام ) ..) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) (( القرآن المجيد : يوسف {12} : 39 - 40 )
فكما نرى .. ) .. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ..( وليس الحكم لأي إنسان .. فالإنسان ليس حرا في أسلوب عبادته .. كما وإنه ليس حرا فيما يعبد .. والأمر كله لله سبحانه وتعالى .. ) .. أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ .. (