صيفاقــــس
تمهيد:
لم
تظهر الممالك الأمازيغية في شمال إفريقيا إلا في القرن الثالث قبل
الميلاد، وقد استهدف ملوكها الأوائل وهم: صيفاقس وماسينيسا وباگا وفيرمينا
جمع شمل الأمازيغيين وتوحيد تامازغا. ومن ثم، يمكن الحديث عن ثلاث سلالات
ملكية أمازيغية قديمة. وهي الأسرة المازيلية ( أو الماسيلية)، وموطنها
نوميديا الشرقية، ومن أهم ملوكها: أيليماس وزيلالسان وگايا وأوزالكاس
وماسينيسا وكافوسا وميكيوسا وماستانابعل وگولوسا وأمفسال الأول وأدربعل
ويوغرطة وگوضا وأمفسال الثاني ويوبا الأول ويوبا الثاني وبطليموس. والأسرة
الثانية وهي الأسرة الميسايسولية ( أو المازيسولية)، وموطنها نوميديا
الغربية، ومن أهم ملوكها: صيفاقس وفيرمينا. أما الأسرة الثالثة فهي الأسرة
أو الأسر الموريطانية، ومن أهم ملوكها: باگا، وبوكوس الأول، وبوگود وبوكوس
الثاني وبوگود الثاني.
وعلى أي حال يعتبر صيفاقس الملك الأمازيغي الأول
الذي أسس تامازغا وسعى جاهدا لتوحيدها وجمع شمل أبنائها. إذا، من هو
صيفاقس؟ وما هي المراحل التي قطعتها ثورته؟ وماهي أهم إنجازاته ؟ وما
نتائج ثورته ؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول كشف القناع عنها في موضوعنا
المتواضع هذا.
1- من هو صيفاقــــس؟
يعد
الملك صيفاقس Syphax أو سيفاقس أو سيفاغس أو سفك عند ابن خلدون من الملوك
الأمازيغيين الأوائل الذين عملوا على توحيد ساكنة تامازغا إلى جانب الملك
ماسينيسا و الملك باگاBaga والملك فيرمينا . وقد عاش الملك صيفاقس في
القرن الثالث قبل الميلاد. وينتمي إلى الأسرة المازيسولية التي كان موطنها
نوميديا الغربية. وقد صار ملكا لها، واتخذ سيگا عاصمة له أو ما يسمى الآن
في الجزائر بعين تيموشونت. وهناك مملكة أخرى تقابلها في الشرق تسمى ماسولة
التي ينتمي إليها ماسينيسا ويفصلها عن الأولى نهر شليف الحالي، وتمتد في
حدودها الترابية حتى قرطاجنة بتونس. وبتعبير آخر، هناك نوميديا الشرقية أو
ماسولة، ونوميديا الغربية أو مازيسولة. وسيدخل صيفاقس في حروب طاحنة مع
ملك ماسينيسا الموالي للروم ستنتهي بانتصار ماسينيسا وحلفائه الروم الذين
قتلوه سنة 203 قبل الميلاد.
2- تطور مقاومة صيفاقــــس:
اشتدت
الحرب البونيقية الثانية ( Les guerres puniques) بين الرومان
والقرطاجنيين، فحاولت كل من روما وقرطاجنة أن تجذب صيفاقس لصالحها كي
يساعدها في حروبها الطويلة الأمد ضد منافستها اللدودة. وتدخل صيفاقس في
البداية للصلح بين الطرفين، ولكن الحكومة الرومانية كانت متعنتة في
مواقفها المعادية للقرطاجنيين. فمال صيفاقس إلى قرطاجنة وتزوج بالجميلة
الفينيقية الحسناء "صوفونيسبا" . وأصبح صيفاقس مواليا للقوات القرطاجنية
بعد أن علم بنوايا روما الاستعمارية وأطماعها في شمال أفريقيا. في حين،
التجأت الحكومة الرومانية إلى شاب أمازيغي طموح ألا وهو ماسينيسا فأغرته
بامتيازات عدة تتمثل في غرامات مالية والسماح له بالتوسع في أراضي
القرطاجنيين التي سيحصل عليها بمجرد القضاء على منافسه صيفاقس والتحالف مع
الرومان للقضاء على القوات القرطاجنية. وهكذا استطاع ماسينيسا" أن يهزم
صيفاقس الماسايسولي؛ ثم مكّن الرومان من الانتصار على أمهر جنرال عرفه
التاريخ القديم، ألا وهو حنبعل القرطاجي؛ وذلك في معركة " زامّا" الشهيرة،
سنة202 ق.م. لقد كان سبب بغضه لقرطاجة هو تمسكه بمدإ"أفريقية للأفارقة!"
ومما أثار حفيظته ضدها بشكل خاص، حسب ما روي، هو تزويج القرطاجيين صيفاقس
مخطوبته"صوفونيسبا".
والواقع أن جيرانه القرطاجنيين كانوا متواطئين مع
خصمه الماسولوسي قصد القضاء على ملكه. فلم يجد بدا من محالفة الرومان، مع
إضمار غايته القصوى في نفسه، وهي إنشاء مملكة أمازيغية موحدة مستقلة عن كل
نفوذ أجنبي، ولاسيما أن اتفاقية الصلح بين روما وقرطاجة (201 ق.م) كانت
تنص على أن من حقه أن يعمل من أجل استرجاع جميع الأراضي التي كانت بقبضة
أجداده، في غير تحديد لتلك الأراضي."
ومن المعلوم أيضا، أن صيفاقس قد
تحالف في البداية مع الرومان إبان الحرب البونيقية الثانية، وكان في نفس
الوقت معارضا لگايا ملك نوميديا الشرقية وابنه ماسينيسا المتحالفين مع
القرطاجنيين.
لكن صيفاقس سيتوسع في مملكة نوميديا الشرقية بعد وفاة
ملكها گايا ، وسيتحالف مع القرطاجنيين الذين قدّموا إليه يد العون في
توسعه الترابي، وزوجوه حسناء قرطاجنة ، وهي من أعلى طبقة اجتماعية وهي
الفتاة "صوفونيسبا" بنت أزدربال جيسكو قائد قوات قرطاجنة. وهكذا، نجد
صيفاقس يدخل في تحالف عسكري مع القرطاجنيين ضد الرومان من أجل أن يحظى
برضى عشيقته. وبالتالي، سيخوض صراعا مريرا ضد أخيه الأمازيغي ملك ماسينيسا
الذي كان في بداية الأمر مواليا للفينيقيين، ولما رأى تهاون قرطاجنة وعدم
مبالاتها تجاه حقه في الولاية على عرش أبيه، خرج عن طاعة قرطاجنة عام158
قبل الميلاد وتحالف مع الحكومة الرومانية وخاصة مع القائد الروماني الأكبر
سيپيون الأفريقي لمحاصرة قرطاجنة وتطويق ملك صيفاقس في مملكته مازولة.
ولقد
استطاع القائد الروماني گايوس لايليوس أن ينتصر على صيفاقس وأن يوقعه
أسيرا سنة 203 قبل الميلاد بفضل مساعدة ماسينيسا قرب سيرتا أو ما يسمى
حاليا قسنطينة بالجزائر. وۥأرسل صيفاقس بعد ذلك أسيرا إلى عاصمة إيطاليا
من قبل الجنرال الروماني كورنيليوس سيپيون الأفريقي حيث مات فيها سنة 202
أو203 قبل الميلاد. وقد تولى الحكم بعد صيفاقس ابنه فيرمينا الذي يعد آخر
ملك مازوليسي قبل أن توحد مملكة نوميديا من قبل ماسينيسا.
3- انجازات صيفاقــــس:
من
أهم إنجازات الملك الأمازيغي صيفاقس أنه أول من أسس مملكة أمازيغية واسعة
وهي مملكة مازيسولة التي كانت توجد في غرب الجزائر وتمتد إلى نهر ملوية
غربا وعاصمتها الكبرى هي سيگا، وانتقل صيفاقس من زعيم قبلي إلى ملك يحكم
سلطنة أمازيغية شاسعة الأطراف، ثم حمل التاج والصولجان، وضرب العملة
باسمه، ونظم الجيش الأمازيغي تنظيما محكما متأثرا في ذلك بالتنظيمين:
القرطاجني والروماني. واستعان كذلك بابنه فيرمينا في تسيير الشؤون الحربية
والعسكرية. " ومع أنه تأثر إلى حد بتقاليد اليونان السياسية، كان يعتمد في
ممارسة سلطته على مساعدة زعماء القبائل. كانت له علاقات دبلوماسية مع كل
من قرطاجة وروما. كانت لغة الحياة اليومية والتخاطب في مملكته هي
الأمازيغية، وكانت لغة اسمه هو المقصود فيما كتبه ابن خلدون عن أصل البربر
إذ قال إن جدهم هو "سفك"؛ يعزز هذا الفرض أن بلوتارخوس Plutarkhos زعم
شيئا من هذا القبيل."
ويعد صيفاقس أيضا من الملوك الأمازيغيين
الأوائل الذين سعوا إلى توحيد البربر وجمع شملهم تحت دولة واحدة وهي دولة
تامازغا (دولة الأمازيغيين). ويتضح هذا عندما أراد أن يوحد مملكة نوميديا
الشرقية مازيلة ( مسيلة) ومملكة نوميديا الغربية ألا وهي مازيسولة في إطار
دولة أمازيغية كبرى في شمال أفريقيا تمتد من قرطاجنة التونسية شرقا إلى
نهر ملوية غربا.
هذا، ولم يتحالف صيفاقس مع القرطاجنيين عسكريا ونسبا
إلا من أجل محاربة الرومان والوقوف في وجه قواتهم الغازية التي كانت
تستهدف إذلال الأمازيغيين وتركيعهم خسفا وهوانا، وهذا ما لم يقبله
الأمازيغيون الأحرار الأشاوس الذين تربوا عبر تاريخهم الطويل على الحرية
والكرامة والأنفة. وكان صيفاقس يرى أن توحيد تامازغا لن يكون إلا على
يديه؛ بيد أن سلطانه السياسي سينهار غدرا سنة 203 قبل الميلاد على يد
منافسه الأمازيغي ماسينيسا.
ويكشف لنا هذا المآل التاريخي التراجيدي
صراع الأمازيغيين مع بعضهم البعض، وتطاحنهم حول السلطة وتنافسهم حول
الامتيازات والمصالح الشخصية عن طريق التقرب من الرومان من أجل الحصول على
الجوائز والهبات والغنائم على حساب التنكيل بقرطاجنة وضرب حضارة
الفينيقيين التي أسدت الكثير إلى الحضارة الأمازيغية. وفي هذا الصدد يقول
الأستاذ العربي أكنينح:" يتضح من تاريخ الممالك الأمازيغية، أن علاقة
البربر بفينيقيي قرطاجة، لم تكن تتسم بالتصادم والجفاء، كما سيكون عليه
الحال في عهد الرومان والوندال والبيزنطيين، فيما بعد. فقد تفاعل سكان
شمال إفريقيا مع الفينيقيين، واندمجوا معهم لأنهم كانوا يشعرون أنهم من
أصل واحد وتربطهم أكثر من رابطة، لذا تحالفوا معهم ضد روما. وكان صيفاقس
رئيس مملكة مازيسولة وزوج صفان بعل ابنة هزدروبال،حليف قرطاجة ...هو
الوطني الذي ناضل وحارب دفاعا عن إمبراطورية شمال إفريقيا( قرطاجة ) ضد
الإمبراطورية الغربية عن المنطقة والمتمثلة في روما."
وهكذا نجد
القائد الروماني سيپيون يستغل النواميد للقضاء على قرطاجة أولا واحتلال
نوميديا ثانيا عن طريق ضرب ملكين ببعضهما البعض ملك صيفاقس وملك ماسينيسا
وجرهما إلى الصراع البونيقي والصراع المحتدم بين الرومان والقرطاجنيين.
لذلك كان مسينيسا شخصية مفضلة بلا ريب في كتابات المؤرخين الرومان؛ لكونه
ساعد كثيرا القوات الرومانية على دك كل معاقل القوات القرطاجنية. بيد أن
الرومان سينقلبون ضده ويوزعون تركته بين أولاده الثلاث. وفي هذا الصدد
يقول عبد الله العروي:" ثم يحتد الصراع بين روما وقرطاج أثناء الحربين
البونيقيتين الأولى والثانية ويجتاز شيبو(سيپيون) إلى أفريقيا مبحرا من
الجزيرة الأيبيرية قصد إيجاد حلفاء بربر ضد أعدائه. فينتهزها المؤرخون
فرصة ثالثة ويقدمون لنا الجماعات المقيمة غرب التراب القرطاجي والتي كانت
تسمى كلها آنذاك بالنواميد وتنقسم إلى قسمين: المسيلة شرقا والمزسيلة
غربا. تتلخص أخبار تلك الحقبة في سيرتي رجلين، يمثل كل واحد منهما أحدى
الجماعتين البربريتين: ماسينيسا الزعيم المسيلي وصيفاقس الزعيم المزسيلي.
يسوق المؤرخون القدامى أخبارا طويلة حول ماسينيسا، جاعلين منه بطل مغامرات
شيقة، ليست في الواقع سوى انعكاسات لسياسة روما في المغرب، بل يرويها
پوليپ، المؤرخ اليوناني، ضمن تاريخ عائلة شيبو( سيپيون) التي يعترف
بالولاء لها الزعيم الناميدي والمؤرخ اليوناني معا. قد يتنازع المؤرخون
إلى ما لانهاية حول السؤال التالي: هل استغلت روما ماسينيسا للقضاء على
قرطاج أم بالعكس استخدم ماسينيسا روما لبناء دولة ناميدية قوية بقصد توحيد
شمال أفريقيا بعد استيعاب الحضارة البونيقية؟ لكن الأمر المحقق هو أن كل
المبادرات كانت بيد مشيخة روما، بعد انتهاء الحرب البونيقية الثالثة سنة
202 قبل الميلاد. كان الرومان يستطيعون في أي وقت توقيف أي حركة يشمون
فيها خطرا على مصلحتهم."
وعليه، فقد أوشك صيفاقس أن يؤسس دولة
أمازيغية كبرى تمتد شرقا وغربا، وتستطيع أن تقف في وجه القوات الرومانية
المتوحشة لولا ماسينيسا الذي خيب طموحات صيفاقس السياسية والعسكرية حيث
أدخله في حروب استنزافية أدت بصيفاقس إلى مقتله في العاصمة الرومانية غدرا
وخيانة.