حكاية البطلة الحقيقيّة لفيلم الصعود إلى الهاوية هبة سليم...جاسوسة فوق العادة .
السبت سبتمبر 27 2008 -
القاهرة - صلاح الإمام
من ثنايا نقطة سوداء وغامضة، ربما لا يدرك وجودها صاحبها نفسه، تنطلق
أولى شرارات الخيانة لتتحول بصمت وتحت جنح الظلام إلى نار قد تحرق أوطاناً
كاملة، حتى يظهر في مواجهتها من يحوّل هذه الشرارة إلى نار تحرق صاحبها
وإن طال الزمن وغلب الحذر. معاً نغوص في عالم الجاسوسية الغامض, نتعرف الى
الخونة وندرك ما في قلوبهم من عتمة وسواد ونتعرف، في الوقت نفسه، الى
أصحاب «نقطة النور» التي حولتهم إلى أبطال يطردون ويطاردون أصحاب النقاط
السوداء... إنها المطاردة الأقدم والأطول في تاريخ شعوب العالم... مطاردة
الأبطال والجواسيس.كلنا حفظ عن ظهر قلب قصة فيلم «الصعود إلى الهاوية»
التي كتبها الأديب الراحل صالح مرسي، وأخرجها المخرج الراحل كمال الشيخ،
وجسدت بطولتها النجمة الراحلة مديحة كامل والنجم محمود ياسين في بدايات
عام 1979، وهي قصة حقيقية بطلتها فتاة مصرية، اسمها الحقيقي هبة سليم،
وشريكها كان ضابطا في الجيش المصري برتبة مقدم يدعى فاروق الفقي.
إنها واحدة من أشرس المعارك بين جهاز المخابرات المصرية ونظيره
الإسرائيلي... معركة أديرت بذكاء شديد وبسرية مطلقة، انتصرت فيها
المخابرات المصرية في النهاية، وبرهنت على يقظة الذين يحاربون في الخفاء
للحفاظ على أمن الوطن وسلامته.
عاشت سليم في حي المهندسين، أحد أرقى أحياء القاهرة، وتحمل بطاقة عضوية
في نادي الجزيرة، أشهر نوادي العاصمة ويضم أبناء الطبقة الأرستقراطية،
انخرطت هبة في «غروب» من شلة أولاد الذوات تسعى خلف أخبار الهيبز، وملابس
الكاوبوي وأغاني ألفيس بريسلي ملك موسيقى «الروك آند رول» آنذاك.
عندما حصلت على الثانوية العامة، ألحت على والدها، وكان وكيل وزارة في
التربية والتعليم، للسفر إلى باريس لإكمال تعليمها الجامعي، فالغالبية
العظمى من شباب النادي أبناء «الهاي لايف»، لا يدخلون الجامعات المصرية
ويفضلون جامعات أوروبا المتحضرة، وأمام إلحاحها وبكائها مع ضغوط والدتها،
وافق الوالد، فالحرية المطلقة التي اعتادتها في مصر كانت مقدمة جيدة
للحياة والتحرر في عاصمة النور.
جمعتها مدرجات الجامعة بفتاة يهودية من أصول بولندية دعتها إلى سهرة في
منزلها، وهناك التقت بعدد من الشباب اليهودي فتعجبوا لأنها مصرية ومع ذلك
لا تشغل بالها بالهزيمة التي لحقت ببلدها، ولا تهتم بجو الحرب الذي فرض
نفسه على بلادها، وأعلنت في شقة صديقتها البولندية أنها تكره الحرب،
وتتمنى لو أن السلام يعم المنطقة. في زيارة أخرى، أطلعتها زميلتها على
فيلم يصوّر الحياة الاجتماعية في إسرائيل وأسلوب الحياة في «الكيبوتز»،
وأخذت تصف لها كيف أنهم ليسوا وحوشاً آدمية كما يصورهم الإعلام العربي، بل
هم أناس على درجة عالية من التحضر.
مولد جاسوسة
في تلك الشقة الموبوءة كان ميلاد الجاسوسة هبة، تردّد عليها أحد ضباط
الموساد الإسرائيلي وأوهمها باستحالة أن ينتصر العرب على إسرائيل وهم على
خلاف دائم وتمزّق خطير، في حين تلقى إسرائيل الدعم اللازم في جميع
المجالات من أوروبا وأميركا. كانت تلك الأفكار والمعتقدات سبباً رئيساً
لقبولها العمل لصالح الموساد، من دون إغراءات مادية أو عاطفية أثرت فيها،
مع ثقة أكيدة في قدرة إسرائيل على حماية «أصدقائها» وإنقاذهم من أي خطر
يتعرضون له في أي مكان في العالم.
تذكرت هبة صديقها المقدم فاروق الفقي الذي كان يطاردها في نادي الجزيرة
ولا يكف عن تحيّن الفرصة للانفراد بها وإظهار إعجابه الشديد ورغبته الملحة
في الارتباط بها، ملت كثيراً مطارداته لها من قبل في النادي وخارجه، وكادت
يوماً ما أن تنفجر فيه غيظاً في التلفون، وذلك عندما تلاحقت أنفاسه
اضطراباً وهو يرجوها أن تحس به، كثيرا ما قال لها: أعبدك.. أحبك، لكنها
كانت تصده بعنف، تذكرت هبة هذا الضابط الولهان، وتذكرت وظيفته المهمة في
مكان حساس في سلاح المهندسين في القوات المسلحة المصرية، وعندما أخبرت
ضابط الموساد عنه، كاد أن يطير بها فرحاً، ورسم لها خطة اصطياده.
في أول إجازة لها في مصر، كانت مهمتها الأساسية تنحصر في تجنيد المقدم
فاروق وبأي ثمن، وكان الثمن هو موافقتها على خطبتها له. فرح الضابط العاشق
بعروسه الجميلة التي فاز بها أخيراً، وبدأت تدريجياً تسأله عن بعض
المعلومات والأسرار الحربية خصوصاً مواقع الصواريخ الجديدة التي وصلت من
روسيا، فكان يتباهى أمامها بأهميته ويتكلم في أدق الأسرار العسكرية، ويجيء
بها بالخرائط زيادةً في شرح التفاصيل!
أرسلت هبة فورًا برسائل عدة إلى باريس بما لديها من معلومات، ولما
تبينت إسرائيل خطورة وصحّة ما تبلغه هذه الفتاة لهم اهتموا بها اهتماماً
فوق العادة، وبدأوا بتوجيهها إلى الأهم في تسليح مواقع القوات المسلحة
المصرية، وبالذات قواعد الصواريخ والخطط المستقبلية لإقامتها والمواقع
التبادلية المقترحة.
سافرت هبة إلى باريس مرة ثانية تحمل في حقيبتها صفحات عدة دونت فيها
معلومات غاية في السرية والأهمية لدرجة حيرت المخابرات الإسرائيلية، فماذا
يمكنهم أن يقدموه كمكافأة لهذه الفتاة الصغيرة التي قدمت لهم أسرارا في
غاية الخطورة؟ سؤال كانت إجابته عشرة آلاف فرنك فرنسي حملها ضابط الموساد
إلى الفتاة، مع وعد بمبالغ أكبر وهدايا ثمينة وحياة رغدة في باريس، الغريب
أن هبة رفضت النقود بشدة وقبلت السفر إلى القاهرة على نفقة الموساد بعد
ثلاثة أشهر من إقامتها في باريس، كانت الوعود البراقة تنتظرها إذا جندت
خطيبها ليمدَّهم بالأسرار العسكرية التي تمكنهم من اكتشاف نوايا المصريين
تجاههم.
عشق وخيانة
لم يكن المقدم فاروق الفقي بحاجة إلى التفكير في التراجع، إذ إن
الحبيبة الجميلة هبة كانت تعشش في قلبه وتستحوذ على عقله. لم يعد يملك
عقلاً ليفكر، بل طاعة عمياء سخّرها لخدمة إرادة حبيبته، وعندما اصطحبها في
سيارته إلى صحراء الهرم، كان خجولاً لفرط جرأتها معه، أقنعته وهي بين
ذراعيه أنها لم تصادف رجلاً قبله أبداً، ليس هذا فحسب، بل أبدت رغبتها في
قضاء يوم كامل معه في شقته، ولم يصدق أذنيه، فلطالما ألح عليها من قبل،
لكنها كانت ترفض بشدة، الآن تعرض عليه ذلك بحجة سفرها، وفي شقته في منطقة
الدقي في القاهرة تركت لعابه يسيل وجعلته يلهث ضعفاً وتذللاً، لكنها هيهات
أن تمنحه كل ما يريد, حجبت عنه متعة اللقاء، وأحكمت قيدها حول رقبته، فمشى
يتبعها أينما سارت. سقط ضابط الجيش المصري في بئرها، ثم وقّع وثيقة
خيانته، ليصير في النهاية عميلاً للموساد، تمكن من تسريب وثائق وخرائط
عسكرية موضحاً عليها منصات صواريخ «سام 6» المضادة للطائرات، التي كانت
تسبب خسائر فادحة لسلاح الجو الإسرائيلي عند الإغارة على أهداف مدنية
وعسكرية في مصر، وكانت القوات المسلحة تسعى بكامل طاقاتها لنصبها لحماية
مصر من غارات العمق الإسرائيلية، الى درجة أنهم كانوا يعملون على ضوء
القمر في ملحمة وطنية تجلت فيها أروع أمثلة البطولة.
لاحظت القيادة العامة للقوات المسلحة وجهازا المخابرات العامة
والحربية، أن مواقع الصواريخ الجديدة تدمر أولاً بأول بواسطة الطيران
الإسرائيلي، حتى قبل أن يجف الأسمنت المسلح فيها، وحدثت خسائر جسيمة في
الأرواح، وتعطل تقدّم العمل في مشروع حائط الصواريخ المضادة للطائرات الذي
كان وقتها هدفا استراتيجيا.
تزامنت الأحداث مع وصول معلومات لرجال المخابرات المصرية بوجود عميل
عسكري سرب معلومات سرية جداً إلى إسرائيل، وبدأ شك مجنون في كل شخص ذي
أهمية في القوات المسلحة، وفي مثل هذه الحالات لا يستثنى أحد بدءاً من
وزير الدفاع.
اتسعت دائرة الرقابة التلفونية والبريدية لتشمل دولاً كثيرة، مع رفع
نسبة المراجعة والرقابة إلى مائة في المائة من الخطابات وغيرها، ذلك كله
لمحاولة كشف الكيفية التي تصل بها هذه المعلومات إلى الخارج. كذلك بدأت
رقابة قوية وصارمة على حياة وتصرفات كل من تتداول أيديهم هذه المعلومات من
القادة. كانت رقابة لصيقة وكاملة، تبينت طهارتهم ونقاؤهم، ثم أُدخل موظفو
مكاتبهم في دائرة الرقابة، كذلك مساعدوهم ومديرو مكاتبهم وكل من يحيط بهم
مهما صغرت أو كبرت رتبته. في تلك الأثناء كانت هبة تعيش حياتها في باريس،
عرفت المنكر والتدخين وعاشت الحياة الأوروبية بكل تفاصيلها.
عرض عليها ضابط الموساد زيارة إسرائيل، فلم تكن لتصدق أبداً أنها مهمة
إلى هذه الدرجة. وصفت هي نفسها تلك الرحلة فقالت إن طائرتين حربيتين
رافقتا طائرتي كحارس شرف وتحية لي!! وهذه إجراءات تكريمية لا تقدم أبداً
إلا لرؤساء وملوك الدول الزائرين، حيث تقوم الطائرات المقاتلة بمرافقة
طائرة الضيف حتى الوصول الى المطار. في مطار تل أبيب، كان ينتظرها عدد من
الضباط اصطفوا بجوار سيارة ليموزين سوداء تقف أسفل جناح الطائرة، أدوا
التحية العسكرية لها، واستقبلها مائير عاميت رئيس جهاز الموساد في مكتبه،
ثم أقام لها حفلة استقبال ضمت نخبة من كبار ضباط الموساد، عندما عرضوا
تلبية كل أوامرها طلبت مقابلة غولدا مائير رئيسة الوزراء، وجدت على مدخل
مكتبها صفاً من عشرة جنرالات إسرائيليين أدوا لها التحية العسكرية،
قابلتها مسز مائير ببشاشة ورقة وقدمتها إليهم قائلة: قدمت هذه الآنسة
لإسرائيل خدمات أكثر مما قدمتم لها أنتم مجتمعين.
المراقب الذكي
في القاهرة، كان البحث لا يزال جارياً على أوسع نطاق، والشكوك تحوم حول
الجميع، إلى أن اكتشف أحد مراقبي الخطابات الأذكياء «من المخابرات
المصرية» خطاباً عادياً مرسلاً إلى فتاة مصرية في باريس سطوره تفيض
بالعواطف من حبيبها، لكن الذي لفت انتباه المراقب الذكي عبارة كتبها مرسل
الخطاب، تقول إنه قام بتركيب إيريال الراديو الذي عنده، ذلك أن عصر الأخير
انتهى، إذن فالإيريال يخص جهازاً لاسلكياً للإرسال والاستقبال، وقال لي
أحد ضباط المخابرات المصرية الذين شاركوا في هذه العملية، وكنت قد التقيته
عام 1988 في أحد الأجهزة المدنية في الدولة وكان يعمل كمدير للعلاقات
العامة، إن صاحب الخطاب ذكر أنه حصل على إجازة (من نوع معين) وهي نوع من
الإجازات لا تمنح إلا لضباط الجيش من رتبة مقدم فأعلى، فكانت الكارثة
المكتشفة هي أن مرسله ضابط كبير في الجيش.
استدراج
في اجتماع موسع، وضعت خطة القبض على هبة وعهد إلى اللواء حسن عبد
الغني، نائب رئيس المخابرات المصرية، ومعه ضابط آخر بالتوجه إلى ليبيا
لمقابلة والدها في طرابلس, حيث كان يشغل وظيفة كبيرة هناك، وعرّفاه على
شخصيتهما وشرحا له أن ابنته هبة التي تدرس في باريس تورطت في عملية اختطاف
طائرة مع منظمة فلسطينية، وأن الشرطة الفرنسية على وشك القبض عليها، وما
يهم هو ضرورة هروبها من فرنسا لعدم توريطها ولمنع الزج باسم مصر في مثل
هذه العمليات الإرهابية، وطلبا منه أن يساعدهما في أن يطلبها للحضور
لرؤيته على أساس أنه مصاب بذبحة صدرية.
أرسل الوالد برقية عاجلة لابنته، فجاء ردها سريعاً ببرقية تطلب منه أن
يغادر طرابلس إلى باريس، حيث أنها حجزت له في أكبر المستشفيات هناك وأنها
ستنتظره بسيارة إسعاف في المطار، وأن الترتيبات كافة للمحافظة على صحته قد
اتُّخذت، ولكي لا تترك المخابرات المصرية ثغرة واحدة قد تكشف الخطة
بأكملها، أحاطت السلطات الليبية علما بالقصة الحقيقية، فتعاونت بإخلاص مع
الضابطين لإعتقال الجاسوسة المصرية، وحُجزت غرفة في مستشفى طرابلس وأُفهِم
الأطباء المسؤولون مهمتهم وما سيقومون به بالضبط، وبعدما أرسل والدها رداً
بعدم استطاعته السفر إلى باريس لصعوبة حالته، صح ما توقعه الضابطان، إذ
حضر شخصان من باريس للتأكد من صحة البرقية وخطورة المرض، وسارت الخطة كما
هو مرسوم لها، وذهب الإسرائيليان إلى المستشفى وتأكدا من الخبر، فاتصلا في
الحال بالفتاة التي ركبت الطائرة الليبية في اليوم التالي إلى طرابلس،
وعلى سلّم الطائرة عندما نزلت هبة درجات عدة كان الضابطان المصريان في
انتظارها، واصطحباها إلى حيث تقف الطائرة المصرية على بعد أمتار من
الطائرة الليبية. تعاونت شرطة المطار الليبي في تأمين انتقال الفتاة
لأمتار عدة حيث تقف الطائرة المصرية، وذلك تحسباً لوجود مراقب أو أكثر
رافق الفتاة في رحلتها بالطائرة من باريس، قد يقدم على قتلها قبل أن تكشف
أسرار علاقتها بالموساد.
قُدّمت هبة لمحاكمة منصفة، فاعترفت صراحة أمامها بجريمتها وأبدت ندماً
كبيراً على خيانتها، وحكمت عليها المحكمة بالإعدام شنقا في مايو (أيار)
عام 1973، ثم تقدم محاميها بالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة، لكن
التماسها رُفض، وعاشت شهورا في السجن تنتظر تنفيذ الحكم.
أما الضابط العاشق، المقدم فاروق عبد الحميد الفقي، فاستقال قائده من
منصبه، لأنه اعتبر نفسه مسؤولاً عنه بالكامل، وعندما طلبت منه القيادة
العامة سحب استقالته رفض بشدة، وأمام إصرار القيادة على ضرورة سحب
استقالته، خصوصا أن الحرب وشيكة، اشترط القائد للموافقة على ذلك أن يقوم
هو بتنفيذ حكم الإعدام في الضابط الخائن، ولما كان هذا الشرط لا يتفق
والتقاليد العسكرية، وما يتبع في مثل هذه الأحوال، رفع طلبه إلى وزير
الحربية الذي عرض الأمر على الرئيس السادات بصفته القائد الأعلى للقوات
المسلحة، فوافق فوراً ومن دون تردد.
عندما جاء وقت تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في الضابط الخائن، أخرج
مسدسه وصوبه على رأس الضابط ثم أطلق عليه رصاصتين كما تقضي التعليمات
العسكرية في حالة الإعدام.
كيسنجر
الغريب أن وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر في أول زيارة له
لمصر بعد حرب أكتوبر، أثار خلال محادثات فك الاشتباك وخلال مقابلته الرئيس
السادات في أسوان موضوع الحكم بالإعدام على هبة سليم، وكانت غولدا مائير،
التي بكت حين علمت بالقبض عليها، قد حملته رسالة إلى السادات ترجوه تخفيف
الحكم عليها، ومن المؤكد أن كيسنجر كان على استعداد لوضع ثقله كله وثقل
دولته خلف هذا الطلب، وتنبه الرئيس السادات، الذي يعلم بتفاصيل التحقيقات
مع الفتاة وصدور الحكم بإعدامها، إلى أنها ستصبح مشكلة كبيرة في طريق
السلام، فنظر إلى كيسنجر قائلاً: تخفيف حكم؟ لكنها أعدمت، فدهش كيسنجر
وسأل الرئيس: متى؟ ومن دون أن ينظر إلى مدير المخابرات الحربية قال
السادات كلمة واحدة: النهاردة، وبالفعل نُفذ حكم الإعدام فيها في اليوم
نفسه في أحد سجون القاهرة.
تعد هبة سليم من أخطر الجاسوسات في الشرق الأوسط ليس في زمنها فحسب، بل
في الأزمنة كلها، نظرًا إلى الدور الخطير الذي أدته لخدمة إسرائيل لولا
تدارك المخابرات المصرية لهذه الكارثة واستخدامهم عميل الموساد في توصيل
معلومات مضللة لإسرائيل كانت فاتحة نصر أكتوبر العظيم.
هل سقطت طائرة سلوى حجازي بسبب مطاردة الموساد لطائرة هبة سليم؟
يطرح بعض الخبراء رؤية خاصة لأسباب سقوط طائرة سلوى حجازي، المذيعة
المصرية الشهيرة، فوق سيناء يوم 21 فبراير (شباط) 1973، مفادها أن الموساد
علم بالقبض على الجاسوسة هبة سليم فطارد الطائرة المصرية التي تقلها فكان
أن أسقط طائرة سلوى حجازي، وهكذا طبقاً لهذه الرؤية تلقى الموساد الخبر
بأنها ركبت طائرة بوينغ مصرية بصحبة ضباط مخابرات مصريين، صدرت فورا أوامر
من رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي بانطلاق سرب طائرات مقاتلة لتعقب الطائرة
البوينغ التي تقل هبة سليم، وكانت طائرة الأخيرة انطلقت من مطار بنغازي
يوم 21 فبراير (شباط) 1973، وكانت هناك طائرة من الطراز نفسه في طريقها من
طرابلس إلى القاهرة، قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية باعتراض طائرة هبة
وإجبارها على الهبوط في أحد المطارات العسكرية في سيناء التي كانت وقتها
محتلة وتخضع لهم، لكن الذي حدث هو أن المقاتلات الإسرائيلية وقعت في خطأ
جسيم، فاعترضت الطائرة الأخرى وبثت موجات تشويش على أجهزتها، فضلّ الطيار
طريقه ووجد نفسه فوق سيناء. طلبت المقاتلات الإسرائيلية من طيار البوينغ
الهبوط في سيناء، فلم يستجب فكان أن أطلقت المقاتلات الإسرائيلية صواريخ
جو / جو، لتنفجر الطائرة في السماء، ظنا منهم أنهم قتلوا هبة سليم قبل أن
تعترف على أعضاء شبكتها، لكن الطائرة التي وقعت واهتز لها العالم وقتها
كانت مدنية ليبية، تقل 116 شخصا بينهم وزير الخارجية الليبي وقتها صالح
بوصير ومذيعة التلفزيون المصري الشهيرة سلوى حجازي، أما طائرة هبة فوصلت
إلى القاهرة بأمان الله.
أعصاب مشدودة
انقلبت الدنيا في جهازي المخابرات الحربية والعامة ولدى ضباط البوليس
الحربي، تشكلت لجان من أمهر رجال المخابرات، ومع كل لجنة وكيل نيابة ليصدر
الأمر القانوني بفتح أي مسكن وتفتيشه، كانت الأعصاب مشدودة حتى أعلى
المستويات في انتظار نتائج اللجان، حتى عثروا على جهاز الإيريال فوق إحدى
العمارات، واتصل الضباط في الحال باللواء فؤاد نصار مدير المخابرات
الحربية وأبلغوه باسم صاحب الشقة، فقام بدوره بإبلاغ الفريق أول أحمد
إسماعيل وزير الدفاع الذي أبلغ بدوره الرئيس السادات، تبين أن الشقة تخص
المقدم فاروق الفقي، وكان يعمل وقتها في مكتب إحدى القيادات المهمة في
الجيش، وبحكم موقعه كان مطلعاً على أدق الأسرار العسكرية، وكان الضابط
الجاسوس أثناء ذلك في مهمة عسكرية بعيداً عن القاهرة. قرر قائده أن يستقيل
من منصبه إذا ما ظهر أن رئيس مكتبه جاسوس للموساد، وعندما ألقي القبض عليه
استقال قائده فورا ولزم بيته حزيناً على خيانة فاروق والمعلومات الثمينة
التي قدّمها للعدو.
اعترف الضابط الخائن تفصيلياً في التحقيق بأن خطيبته جنّدته بعد قضاء ليلة معها.
في سرية تامة، قدم سريعاً للمحاكمة العسكرية التي أدانته بالإعدام
رمياً بالرصاص... استولى عليه ندم شديد عندما أخبروه بأنه تسبب في مقتل
الكثير من العسكريين من زملائه بسبب الغارات الإسرائيلية، وأخذوه في جولة
ليرى بعينه نتائج تجسسه، فأبدى استعداده مرات عدة لأن يقوم بأي عمل
يأمرونه به،
ووجدوا، بعد دراسة الأمر بعناية، أن يستفيدوا من المركز الكبير والثقة
الكاملة التي يضعها الإسرائيليون في هذا الثنائي، وذلك بأن يستمر في نشاطه
كالمعتاد خصوصاً أن الفتاة لم تعلم بعد بأمر القبض عليه والحكم بإعدامه.
في خطة بارعة من المخابرات الحربية المصرية، أخذوه إلى فيللا محاطة بحراسة
مشددة، في داخلها نخبة من أذكى رجال المخابرات المصرية وألمعهم تتولى
«إدارة» الجاسوس وتوجيهه، وإرسال الرسائل بواسطة جهاز اللاسلكي الذي
أحضرته له الفتاة ودربته عليه. كانت المعلومات التي ترسل من صنع المخابرات
الحربية، وُظِّفت بدقة متناهية في تحقيق المخطط للخداع، حيث كانت حرب
أكتوبر قد اقتربت، وتلك هي إحدى العمليات الرئيسة للخداع التي ستترتب
عليها أمور استراتيجية مهمة بعد ذلك.
كان من الضروري الإبقاء على هبة في باريس والتعامل معها بواسطة الضابط
العاشق، استمر الاتصال معها بعد القبض عليه لمدة شهرين، ولما استشعرت
القيادة العامة أن الأمر أخذ كفايته وأن القيادة الإسرائيلية وثقت بخطة
الخداع المصرية وابتلعت الطعم، تقرر استدراج الفتاة إلى القاهرة بهدوء كي
لا تهرب إلى إسرائيل إذا ما اكتُشف أمر خطيبها المعتقل.