قصة الهروب إلى مصر
اعتقل الأميركيون الدكتور هايم عقب الحرب العالمية الثانية وأخضعوه
للتحقيق طوال شهور قبل أن يطلقوا سراحه ويعود إلى مسقط رأسه في النمسا حيث
له زوجة وولدان والعديد من الأقارب، وهناك راح يمارس الطب لكن بعد شعوره
بأنه ملاحق من البوليس الدولي (الإنتربول)، والمنظمات الصهيونية في عام
1962، توارى عن الأنظار، ولم يعد أحد يعرف مكانه.
وطوال عشرات السنين، ظل المحققون الألمان يعتقدون أنه مختف في مكان ما في
أميركا اللاتينية حيث تردد أن له ابنة غير شرعية تعيش في تشيلي .
حقيبة الأسرار
قبل أيام حصلت محطة ZDF التلفزيونية الألمانية، ومعها صحيفة نيويورك تايمز
على الشنطة التي يغطيها الصدأ من عائلة دوما، التي تملك الفندق القاهري
الذي كان الدكتور هايم يقيم فيه. وكانت الأسرة قد احتفظت بها طوال هذه
السنوات التي أعقبت وفاته سنة 1992.
وتحتوي الشنطة على أرشيف كامل ومغلفات لم تفتح بعد ورسائل ونتائج فحوصات
طبية وقصاصات من صحف ألمانية ونمساوية عن الجهود المبذولة لملاحقته،
بالإضافة لسجلاته المالية، بعض الوثائق باسم هايم وبعضها الاخر باسم فريد.
لكن معظم الوثائق المدونة بالعربية ومنها طلب الإقامة في مصر والرسائل
الشخصية تحمل اسم طارق حسين فريد، مع الإشارة إلى أن كل هذه الوثائق تتفق
على أن الرجل من مواليد 28 يونيو 1914 في مدينة رادكيشبورغ النمساوية. وهي
المعلومات ذاتها عن مكان وتاريخ ولادة الدكتور هايم.
وتنقل الـ "نيويورك تايمز" عن عشرة أشخاص من المعارف المقربين لطارق حسين
فريد أن أحداً منهم لم يكن يعرف حقيقة الرجل الذين عايشوه لسنوات طويلة،
على الرغم من قول البعض أنهم كانوا يشعرون بأن الرجل يهرب من شيء ما،
ويقول طارق عبد المنعم الرفاعي ابن طبيب الأسنان الذي كان يتولى معالجة
الرجل، وصديقه الأقرب، أنه سمع من أبيه أن طارق حسين فريد ربما كان على
خلاف مع البعض.. من المحتمل اليهود، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعله يلجأ
إلى مصر.
وتشير شهادة الوفاة الصادرة عن السلطات المصرية المختصة إلى أن طارق حسين فريد توفي سنة 1992.
وتنقل الصحيفة الأميركية عن الدكتور روديجر هايم ( 53 عاما) أن طارق حسين
فريد هو الاسم الذي اتخذه والدي لنفسه بعد أن أشهر إسلامه، واعترف الابن
للمرة الأولى أنه كان إلى جانب والده حين وفاته بالسرطان. وقال ان الوفاة
حدثت بعد يوم واحد من انتهاء دورة الألعاب الأولمبية أي في العاشر من
أغسطس 1992 .
وأضاف أنه عرف بمكان وجود والده من عمته التي توفيت في وقت لاحق، لكنه
احتفظ بالسر لأنه لم يكن يرغب في إحراج أصدقاء والده المصريين، أو التسبب
بأي مضايقات لهؤلاء الأصدقاء، وطبقاً لأقوال الابن، فقد غادر والده
ألمانيا بالسيارة إلى فرنسا فأسبانيا ومنها انتقل إلى المغرب قبل أن يستقر
في مصر.
أكاذيب اليهود
من بين الرسائل التي عثر عليها في الشنطة، رسالة موجهة إلى مجلة دير شبيغل
الألمانية بعد أن نشرت المجلة سنة 1979 تقريرا عن قائمة جرائم الحرب
الموجهة إليه، قال فيها ان الصدفة وحدها هي التي جعلته يفلت من قبضة
الشرطة التي داهمت المنزل لاعتقاله وذلك بعد لحظات من مغادرته المنزل. ولم
يعرف إن كان الرجل قد بعث بالرسالة أم أنه كتبها واحتفظ بها لنفسه، وفي
الرسالة ذاتها يتهم سيمون روزنتال، الصهيوني المتخصص في ملاحقة النازيين
على مستوى العالم، بأنه هو الذي فبرك الاتهامات ضده.
وبعد أن دافع عن الفلسطينيين باعتبارهم ضحايا المذابح اليهودية، قال ان
يهود الخزر، ومن وراءهم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، كانوا أول
من أعلن الحرب على ألمانيا سنة 1933.
وعلى الرغم من أن عشرات السنين الماضية قد عملت على إبعاد قضية النازيين
السابقين عن دائرة الاهتمامات العالمية إلى حد كبير، فإن الكشف عن وثائق
الدكتور هايم، أو العم طارق، قد سلط المزيد من الأضواء على قضيته لأن مكان
دفنه لا يزال مجهولاً كما يقول المحققون المتابعون لقضيته.
ويضيف هؤلاء أن موت الرجل يضع نهاية لفصل من مجموعة فصول تتعلق بملاحقة
بقايا النازيين، فبعد أدولف أيخمان الذي خطفه عملاء إسرائيليون من
الأرجنتين قبل نقله إلى إسرائيل حيث أعدم، لا يزال الطبيب النازي جوزيف
مينغل طليقا ويعتقد على نطاق واسع أنه لا يزال على قيد الحياة متخفياً في
مكان ما على الرغم من تقارير تحدثت عن وفاته في البرازيل سنة 1979 . وقد
أنتجت هوليود فيلما بعنوان "ولد من البرازيل" يحكي قصة جوزيف مينغل كما
تخيلها المحققون.
يهود الخزر
تشير الوثائق إلى أن الدكتور هايم أمضى سنوات في دراسة تاريخ يهود الخزر،
وهم قبائل تركية الأصل. ويقول في الأبحاث التي أجراها حول الموضوع أن
غالبية اليهود، ومن بينهم يهود الخزر، لا ينتمون للسامية. وقد أطلع العديد
من أفراد عائلته على أبحاثه تلك، كما أنه كان يعتزم إرسال نسخ منها باسم
مستعار هو الدكتور يوسف إبراهيم إلى العديد من مشاهير العالم، ومن بينهم
سكرتير عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت الدكتور كورت فالدهايم الذي أصبح
فيما بعد رئيساً للنمسا، وزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس
الأميركي والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو.
وخلال فترة إقامته في مصر التي امتدت ثلاثين عاماً، أنشأ طارق حسين فريد
علاقات مميزة مع الكثيرين وبالذات مع أسرة دوما التي تملك الفندق حيث
يقيم، ويقول محمود دوما ابن صاحب الفندق ان العم طارق كان يجيد العربية
والإنكليزية والفرنسية، بالإضافة إلى الألمانية، كما أنه كان مهتماً
بقراءة القرآن ودراسته وقد أهدته عائلة دوما نسخة مترجمة بالألمانية.
وتنقل "نيويورك تايمز" عن محمود أن العم طارق كان كثيراً ما يهديه الكتب
ويشجعه على الدراسة ويقول:" كان لي بمنزلة الأب .. يحبني كابنه ، وأحبه
كما أحب أبي"، ويتذكر أن العم طارق الذي كان شغوفاً بممارسة الرياضة اشترى
مضربين وكرات وشبكة للتنس نصبها على سطح الفندق وكان معه العديد من
الأصدقاء يلعبون التنس بصورة شبه يومية مع العم طارق الألماني المسلم. لكن
الحالة الصحية لهذا العم بدأت في التدهور سنة 1990وتم تشخيص مرضه على أنه
السرطان.
مدفن سري
عندما مات أصر الدكتور روديجر هايم على تنفيذ وصية والده بالتبرع بكل
أعضائه للأبحاث العلمية على الرغم من الصعوبات التي واجهها في هذا الشأن،
حيث أن التقاليد الإسلامية المتبعة توصي بالإسراع في دفن الميت، وكان
محمود دوما أول المعارضين لتنفيذ الوصية لأنه كان يريد دفن العم طارق في
مدفن العائلة بالقرب من والده.
ومن أجل الإسراع في عملية الدفن، تمكن الاثنان من رشوة موظف في المستشفى
ووضعا الجثمان في سيارة تمهيداً لنقله إلى مدفن العائلة، لكن السلطات
المصرية علمت بالأمر في اللحظة الأخيرة وتولت بنفسها عملية دفنه في مكان
سري.