المولد والنشأة :
إنه محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبى عامر بن
الوليد ابن يزيد بن عبد الملك المعافرىّ القحطانىّ من أصول يمنية ، جده
الأكبر "عبد الملك المعافرى" هذا كان أحد قادة الجند مع طارق بن زياد
أثناء فتح الأندلس الأول وكان أبوه "عبد الله بن محمد" من أهل الفضل
والعلم حجّ ثم مات قافلاً من حجه رحمه الله إلى طرابلس المغرب. وأمه هى
"بُريْهة بنت يحيى بن زكريا التميمىّ " من بنى تميم لذلك قال فيه ابن دارج
القسطلىّ :
تلاقت عليه من تميمٍ ويَعْرُبِ ... شموسٌ تلالا فى العلا وبدورُ
مـن الحِمــيْريْنَ الذين أكُفُّهـم ... سحـائبُ تَهْمي بالنَّدى وبحــورُ
وُلد محمد بن أبى عامر عام 327هـ وهو العام الذى إنهزم فيه المسلمون
فى عهد عبد الرحمن الناصر رحمه الله فى معركة الخندق عند مدينة "شنت
مانقش" أمام قلعة سمّورة المنيعة وكأن ميلاد محمد بن أبى عامر فى هذه
السنة هو أخذ الله بثأر المسلمين على يدى المنصور يرجع أصله من "تركش" فى
الجزيرة الخضراء فى جنوب الأندلس و نشأ محمد بن أبى عامر كمثله من أقرانه
على القرآن والفقه إلا أنه كان ظاهر النجابة وكانت له حال عجيب فى قوة
الإرادة والطموح والسعى وراء هدفه حتى قال عنه ابن الآبار فى كتابه "الحلة
السيراء" :
كان أحد أعاجيب الدنيا فى ترقيه والظفر بتمنيه !!
لافتة فى أحد الطرق الأسبانية لمدينة الجزيرة الخضراء ومكتوبة بالخط العربي
وقال عنه ابن عذارى المراكشىّ فى كتابه "البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب" :
وكان محمد هذا حسن النشأة ، ظاهر النجابة ، تتفرس فيه السيادة ...
وإرتحل محمد بن أبي عامر إلي قرطبة حاضرة الدنيا طلباً للأدب وعلم
الحديث , فطلب علم اللغة على أبى علىّ القالىّ البغدادىّ اللغوى المشهور
وعلى أبى بكر ابن القوطية , وقرأ الحديث على أبى بكر ابن معاوية القرشىّ
وغيره , فنبغ فى تلك العلوم كلها ونما ذكره فيها .
حلم المنصور بن أبى عامر :
كان محمد بن أبى عامر رحمه الله له همة عجيبة وإرادة قوية وكان لديه
حلما عظيما وهو أن يصبح حاكم الأندلس !! ، وقد كان رحمه الله يخبر أصحابه
بهذا والمقربين اليه , حتى أنه لربما قلدهم الخُطط والمناصب وهو مازال فى
حداثة سنّه !!
واليكم هذه القصة التى أوردها ابن الخطيب فى كتابه " أعمال الأعلام
في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الاسلام " وأوردها أيضا ابن النباهى فى
ترجمة القاضى الجليل محمد بن يبقى بن زرب فى كتابه " المرقبة العليا فيمن
يستحق القضاء و الفتيا " يقول :
(
ومن أعجب أحواله – أى محمد بن أبى عامر –
أنه كان على بصيرة من أمره , هانئاً بما ذخرت له الأيام فى حداثة سنّه ,
فكان يتكلم فى ذلك بين أصحابه , ويشير الى ما خبأ الله له من غيبه فحدث
ابن ابى الفيّاض فى كتابه قال : أخبره الفقيه أبو محمد علىّ بن أحمد , قال
: أخبرنى محمد بن موسى بن عزرون , قال : أخبرنى أبى قال : اجتمعنا يوماً
فى متنزه لنا بجهة الناعورة بقرطبة , ومعنا ابن أبى عامر , وهو فى حداثته
, وابن عمه عمرو بن عسقلاجة , والكاتب ابن المارعزّى ورجلٌ يعرف بابن
الحسن من جهة مالقة , كانت معنا سفرة فيها طعامٌ , فقال المنصور من ذلك
الكلام الذى كان يتكلم به : لا بد لى أن أملك الأندلس , وأقود العسكر ,
وينفذ حكمى فى جميع الأندلس !! , ونحن نضحك منه ونهزأ به . وقال : تمنّوا
علىّ فقال ابن عمه عمرو : " أتمنّى أن تولينى على المدينة , نضرب ظهور
الجناة ونفتحها مثل هذه الشاردة " وقال ابن المارعزّى : "أشتهى أن تولينى
أحكام السوق !" وقال ابن الحسن : "نتمنّى أن تولينى القضاء بجهتى ! " قال
موسى بن عزرون : وقال : تمنّى أنت ! فشققت لحيته , وأسمعته كلاماً سمجاً
قبيحاً ...
فلم يك إلا أن صار الملك اليه ,
فولى ابن عمه المدينة , وولى ابن المارعزّى السوق , وكتب لابن الحسن
بالقضاء , قال : "وأغرمنى أنا مالاً عظيماً , أجحفنى وأفقرنى لقبيح ما كنت
جئت به .." ) إنتهي كلام ابن الخطيب .
وأيضا قصة أخرى عجيبة من قصص المنصور بن أبى عامر فى هذا الجانب
ذكرها أبو الحسن النباهى فى كتابه (المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء و
الفتيا) أنقلها لكم بتصرف :
(
كان المنصور بائتاً ليلة مع أحد إخوانه
في غرفة، فرقد رفيقه، ودنيُّه، ولم يرقد هو قلقاً وسهراً فقال له صاحبه:
يا هذا قد أضررتني هذه الليلة بهذا السهر , فدعنى أرقد ...
فقال المنصور: إنني أتفكر في من
يصلح أن يكون قاضياً للأندلس، ولمّا استغرب صاحبه ذلك، قال له: "يا هذا!
أأنت أمير المؤمنين؟ فقال له: "هو كذلك".
ثم أخذ صاحبه يعرض بعض أسماء
القضاء وقال : يصلح فلانٌ ويصلح فلانٌ , ومحمد بن أبى عامر لا يجوز من
المذكورين أحداً , حتى ذكر صاحبه "أبي بكر محمد بن يبقى بن زرب" العالم
الجليل الفاضل ، فتهللت أسارير وجه محمد بن أبى عامر وقال : يا هذا ! فرجت
عنّى , ليس بالله يصلح لها أحدٌ غيره > ثم رقد ونام مطمئناً !!! )
هكذا كان المنصور بن أبي عامر فى حداثة سنّه يحدّث نفسه بحكم
الأندلس , وأن يقود العسكر وينفذ حكمه فيها , فكان يضع هذا الهدف نصب
عينيه ويعمل له ويخطط من أجله ويسعى من أجل تحقيقه ..
تمثال لمحمد بن أبى عامر فى مسقط رأسه بمدينة الجزيرة الخضراء بأسبانيا .
حياة محمد بن أبى عامر فى قرطبة :
إقتعد محمد بن أبى عامر دكاناً عند الزهراء , المدينة الملكية التى
بناها عبد الرحمن الناصر أيام الخليفة الحكم المستنصر رحمه الله يكتب
شكاوى الناس أو طلباتهم أو حاجاتهم التى يرفعونها الى الخليفة او الحاجب ,
وكان يأنس إليه فتيان القصر وظل على ذلك مدة حتى رفع ذكره وعلا شأنه وبدأ
نجمه فى الظهور .
حتى طلبت السيدة صبح زوج الخليفة الحكم المستنصر رحمه الله وأم ولى
العهد "هشام" من يكتب عنها , فدلوها على محمد بن أبى عامر , فترقى الى ان
كتب عنها , فاستحسنته ونبهت عليه الحكم المستنصر رحمه الله ورغبت فى
تشريفه بالخدمة .
ومن ذلك اليوم وبدأ نجم محمد بن أبى عامر فى الظهور وظهرت منه نجابة
وذكاء أعجبت الحكم المستنصر رحمه الله فترشح الى وكالة ولى العهد "هشام"
لسنة 359هـ , فأعجبت به الحكم المستنصر , فولاه قضاء بعض الكور بأشبيلية ,
ثم ترقى الى المواريث والزكاة فأظهر حسن التدبير مع ما له من الرأى السديد
فأعجب به الحكم المستنصر رحمه الله فولاه الشرطة الوسطى بقرطبة ثم أصبح
صاحب السكة ثم قدمه الى الأمانات بالعدوة ..
وظل محمد بن أبى عامر فى ترقى مستمر وبدأ بزوغ فجره ومن ورائه فجر
الأندلس كلها , حتى لازم الحكم المستنصر رحمه الله وأوكل اليه القيام على
أمر ولى العهد "هشام" بن الحكم المستنصر فبذلك أصبح محمد بن أبى عامر فى
منزلة رفيعة جداً .
وكان محمد بن أبى عامر يصطنع الرجال من حوله ويمهد لنفسه وكان يتخذ
رجاله من البربر من أهل العدوة لخشونتهم وصلابتهم عند الحروب ولكى يقوم
بالقضاء على الصقالبة ويدمر نفوذهم فيما بعد كما سيأتى .
بقايا مدينة الزهراء فى أسبانيا ...
وبذلك أصبح محمد بن أبى عامر من كبار رجال القصر وهو مازال فى العقد
الثالث من عمره , وليس يضاهيه فى منزلته إلا الحاجب جعفر المصحفىّ وقائد
جيش الثغور غالب الناصرىّ وأصبح محمد بن أبى عامر حديث العامة فى قرطبة
فكان لا يمر يوم إلا وهو فى زيادة ترقى فكانت أيامه فى إقبال وتخبر عن
سعده وبزوغ فجره وسطوع شمسه فتمكن حبه للناس وكان بابه مفتوح لهم على
الدوام , وأفشى الأمن فى قرطبة بعدما ضجت العامة من ضياع الأمن لكثرة
اللصوص وتسلط الفتيان الصقالبة على العامة فقد ظهر وفشى ظلمهم وبغيهم حتى
قضى عليهم محمد بن أبى عامر كما سيأتى بيانه إن شاء الله .
وفاة الحكم المستنصر :
وتوفى الخليفة الحكم المستنصر رحمه الله فى قصره بقرطبة بعدما أصيب
بالفالج , وذلك فى عام 366هـ بعد أن حكم الأندلس 16 عاماً كانت كلها بركة
وخير على المسلمين فى الأندلس , وولى من بعده ابنه "هشام" وهو ابن اثنتى
عشرة سنة 12 سنة !! وتسمّى وتلقب " هشام المؤيد بالله " وكان وقتها بلغ
محمد بن أبى عامر 39 عاماً , فكان لابد من رجل يدبر أمره ويقوم على عمل
الدولة وتدبير الخلافة .
فتكون مجلس وصاية على الخليفة الصبىّ ويتكون من أكبر 3 رجال فى الأندلس وقتها وهم :
1- الحاجب جعفر المصحفىّ
2- قائد الثغور غالب الناصرىّ
3- قائد الشرطة وحاكم المدينة محمد بن أبى عامر
عند وفاة الحكم المستنصر رحمه الله جاشت الروم وهاجت حتى كادت تطرق
أبواب قرطبة ولم يحرك الحاجب جعفر المصحفى ساكناً خوفاً على منصبه وتبعه
فى ذلك غالب الناصرىّ قائد الثغور وكانت بينه وبين الحاجب جعفر المصحفى
خلافة قديمة وبغضاً وكراهية شديدة فلم يقم أى منهما لنصرة المسلمين وتأديب
النصارى الذين هجموا على ثغور المسلمين .
قال ابن حيان (
... وجاشت النصرانية بموت
الحكم وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة ولم يجدوا عند جعفر
المصحفي غناء ولا نصرة وكان مما أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد
نهرهم لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو ولم تقع حيلته لأكثر منه مع
وفور الجيوش وجموع الأموال وكان ذلك من سقطات جعفر فأنف محمد بن أبي عامر
من هذه الدنية .. )
فقام محمد بن أبى عامر بأخذ رجاله وطلب من جعفر المصحفى أن يمده
بالرجال والعتاد والمال اللازم للقيام بحملة لتأديب النصارى وليعلموا أن
مازال بالمسلمين شوكة ومنعة , وبالفعل قام المنصور بحملة عظيمة جدا فى
الشمال وغنم من السلاح والأموال الشيىء الكثير . وقفل راجعا الى قرطبة بعد
52 يوما من الغزو والجهاد وكان يوزع المال فى طريق عودته الى قرطبة على
الجند والعوام حتى تمكن حبه فى قلوب الناس , واستبشروا به جدا . وكان
وصياً على الصبى هشام المؤيد بالله , فقام بإسقاط ضريبة الزيتون عن الناس
, فسروا بذلك أعظم سرور , ونسب شأنها الى محمد بن أبى عامر وأنه أشار الى
ذلك , فأحبوه لذلك ثم يقول ابن عذارى فى "البيان المغرب " :
(
ولم تزل الهمة تحذوه والجد يحظيه والقضاء
يساعده , والسياسة الحسنة لا تفارقه حتى قام بتدبير الخلافة وأقعد من كان
له فيها إنافة وساس الأمور أحسن سياسة وداس الخطوب بأخشن دياسة فانتظمت له
الممالك وانضحت به المسالك وانتشر الأمن فى كل طريق واستشعر اليمن كل فريق
وأسقط جعفرا المصحفىّ وعمل فيه ماأراده ... )
وإلتف المسلمون حول محمد بن أبى عامر ، فى الوقت الذى بدأت أيام
الحاجب جعفر المصحفىّ فى الزوال ، فقد أفل نجمه وكورت شمسه ورغب الناس عنه
، وأصبح يمشى وحيدا فى طرقات الزهراء بعد ان كان من قبل كثيف الموكب وجليل
الهيبة وكان الناس لا يستطيعون الى الوصول اليه لكثافة موكبه ، ثم أقدم
محمد بن أبى عامر بالتحالف مع غالب الناصرىّ وتزوج ابنته "أسماء" وكان عرس
مشهود فى الأندلس كلها , وبدأت نكبة الحاجب جعفر المصحفىّ فخلعه محمد بن
أبى عامر وأصبح الحاجب من بعده ..
دينار أندلسي يشمل اسماء الخليفة الحكم ابن الناصر، وصاحب السكة عامر والحاجب جعفر المصحفي .
فسبحان من يدبر الأمر وهكذا حال الدنيا , فظلّ فى تلك المحنة حتى
نكبه محمد بن أبى عامر وسجنه فى سجن المُطبّق فى الزهراء حتى مات فى سجنه
, وكان جعفر المصحفى يستعطف الحاجب محمد بن أبى عامر ويرسل له أبياتا :
هبني أســـأت فأيـن العفـو والكرم .. إذ قادنـي نحـوك الإذعـان والنـدمُ
يـا خـير مـن مـدت الأيـدي إليـه .. أمـا ترثي لشيــخٍ رمـاهُ عندك القلـمُ
بالغت في السخط فاصفح مقتدر .. إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا
فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا فكتب اليه :
الآن يـــا جـــاهلا زلـــت بـــك القـــدم .. تـبـغي التـكــرم لمــا فـاتــك الكـــرمُ
أغـــريـت بــي مـلكـا لـــولا تـثـبــته .. مــا جـــاز لـي عنــده نـــطق ولا كلـــمُ
فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق .. إن الملوك إذا مـا استنقموا نقموا
نفــسي إذا سـخطــت لـيست براضيـــة .. ولـو تشفـع فيــك العـــرب والعـجمُ
وحين جاء الأمر بسجن الحاجب جعفر المصحفىّ وودّع أهله وابنائه ومن
عجيب ما قاله جعفر المصحفى فى هذا الأمر أنه كان ينتظر هذا منذ 40 أربعين
سنة وذلك لأنه سجن أحد الناس ظلما فى سجن المُطبّق بالزهراء فقام السجين
وتضرع الى رب العالمين ودعا وقال فيما معناه :
اللهم عليك بكل من ساعد فى سجنى ظلما وأهلكه فى غيابات السجون ...
سبحان الله ... هذا يوم إجابة الدعاء وبالفعل سُجن جعفر المصحفى فى سجن المُطبّق بالزهراء ومات فيه ....
وكان المؤرخون يشبّهون نكبة المصحفيين ، آل جعفر المصحفى ، بنكبة
البرامكة فى المشرق أيام هارون الرشيد رحمه الله وهكذا بدأت شمس محمد بن
أبى عامر تسطع على الأندلس وبدأ عهد جديد فى الأندلس ، عهدٌ ما رأت
الأندلس مثله ولا حتى أيام عبد الرحمن الناصر رحمه الله ..
إنه عهد الحاجب المنصور ...