موقع ويكليكس الالكترونى نشر الوثائق السرية المسربة من السجلات العسكرية الأمريكية فى افغانستان والاعلام الأمريكى لا يهدأ عن متابعة الوثائق وما ورد فيها وعن المتابعه اللحظية للعلاقات بين وزارة الدفاع الأمريكية وادارة الموقع والمفاوضات الجارية لوقف نشر ما تبقى من وثائق .. الخ.
كما تابع المراقبون توسع نشر الوثائق بالنقل من هذا الموقع، من قبل صحف غربية معروفة ومستقرة بما أعطى السبق للموقع ووسع من مساحة نشر الوثائق وزاد من الجمهور المنشغل بالجدل حولها، وحول الموقع.
وهكذا اصبح الموقع فى بؤرة الأحداث، ومصدراً للمعلومات الخاصة جدا،بما جعله يندفع مجددا ويعلن أنه سيبدأ فى نشر وثائق عن حرب العراق هى الاخرى، بما يتبعها من ضجيج،وهو يحول الموقع الى ظاهرة اعلامية تستحق البحث والتامل.
وسط تلك التطورات، تركز الحديث عن ما تضمنته الوثائق السرية المنشورة،من اشارات إلى تعاون المخابرات الباكستانية مع حركة طالبان، وهو ما دفع السلطات الباكستانية للدخول فى معركة لنفى ما ورد بهذا الصدد. كما جرى الحديث عن مخاطر نشر اسماء عملاء افغان متعاونين بشكل سرى مع قوات الاحتلال الأمريكية، إذ نظر بعض المراقبين لهذا النشر، باعتباره بلاغاً لحركة طالبان بأسماء هؤلاء العملاء بما يسهل عليها اصطيادهم او قتلهم.
والنتيجة، أن موقع ويكليكس صار محط اهتمام كل الساسة، وأصبح نقطة اهتمام من وسائل الإعلام الأخرى، بما دفع للاهتمام الدولى به ومتابعة ما ينشر عليه.
وإذا توقفنا فى هذا المشهد قليلاً، وبحثنا فى خلفياته وظروف ظهوره وكل هذا الذى يجرى بشأنه، نجد أنه جاء فى نهاية مرحلة طويلة من شكوى العسكريين الامريكيين من تفوق إعلام المتمردين (المقاومين )- الارهابيين او المعارضين او المعاديين للولايات المتحدة الأمريكية، اياً كانت التسمية – على الإعلام الامريكى. كان وزير الدفاع الأمريكى السابق رونالد رامسفيلد، دائم الشكوى لهذا السبب.
كما نجد أن هذا الاهتمام أو لفت الانظار إلى خطورة ما ينشره هذا الموقع قد جاء بعد ما تعرضت له وسائل الإعلام الأمريكية " العولمية ذات التأثير الدولى الواسع، من حالة ضعف أمام الإعلام الحديث بصفة عامة إذ تدهورت الأوضاع الإعلامية والمالية لكل الصحف والمجلات الامريكية الشهيرة) فى مقابل ظهور وتاثير وسائل تقليدية اخرى على المستوى الدولى لعل أهمها دير شبيجل الألمانية،يطرق العقل ويمثل مفتاحا لفهم ظاهرة ويكليكس وابعادها، والاهم فى التفسير هو أن مواقع امريكية اخرى على الشبكة العنكبوتية،شهدت ترويجاً واهتماما من قبل إدارة اوباما والرجل نفسه، إذ لعبت المواقع الالكترونية دوراً بارزاً فى انتخابات الرئاسة الامريكية السابقة. واذا تابعنا ذات الفكرة، سنجد أن مواقع اليكترونية أمريكية شهدت دعماً وتوسعاً على صعيد التأثير الدولى، يعد أهمها موقعى فيس بوك وتويتر، وأن تلك المواقع صارت تلعب دوراً خطيراً فى هذا التأثير الدولى بأبعاده السياسية والاجتماعية والقيمية. وإذا كان موقع فيس بوك الامريكى بات معلوماً تأثيراته -حتى فى القضايا السياسية المصرية الداخلية – فان موقع تويتر قد لعب الدور الأبرز فى الأحداث الداخلية فى إيران،اظهرت احداث ما بعد الانتخابات الرئاسية الاخيرة.
ومن كل ذلك، وفى الرؤية العامة لأوضاع التأثير الأمريكى فى الإعلام والسياسة الدولية، نجد تراجعاً فى تأثير وسائل الإعلام التقليدية،بل تراجعاً فى وسائل الإعلام الفضائية العولمية وأهمها سى ان ان الأمريكية التى انطلقت بالتزامن مع العدوان الامريكى الغربى الأول على العراق 1990، ونجد اهتماماً امريكياً بالمواقع الاليكترونية فى المرحلة الراهنة. وهنا يصبح ما يجرى بشأن موقع ويكليكس، ذا دلالات ابعد من تلك القضايا او الظواهر التى تسلط عليها الأضواء، ومما نشر عليه من وثائق حول افغانستان ومن دلالاتها وتأثيراتها بشأن الحرب فى افغانستان .. إلخ.
الوثائق .. واللعبة
واقع الحال أن حكاية نشر اكثر من 90 الف وثيقة من السجل العسكرى السرى للقوات الأمريكية فى افغانستان، امر يحتاج فى حد ذاته إلى تفكير وتدقيق. كما أن اتجاهات الوثائق ومؤشراتها هى فى حد ذاتها تحمل مؤشرات تظهر قراءتها، أن امر نشر كل تلك الوثائق هو جزء من خطة إعلامية " مساندة" للخطة الاستراتيجية الأمريكية وليست فعلاً مضاداً للخطة والقوات الأمريكية !.
فى مسألة تسريب كل هذا الكم من الوثائق السرية من السجل العسكرى الأمريكى، فالأمر إذا تعرض للتمحيص يبدو صعب التصديق أو يستحيل استيعاب حدوثه.
فمن ناحية لم نر رد فعل أمريكياً على صعيد المؤسسة العسكرية يتناسب مع هذا الحدث الجلل، ومن ناحية ثانية لا يمكن تصور أن الامور "سائبة" إلى هذا الحد فى الحفاظ على الوثائق الأمريكية فى ظل وجود قوانين سرية المعلومات وتحديد أزمان معينة للكشف عن الوثائق، كما أن الوثائق السرية جرى تسريبها من داخل جهة عسكرية معروف عنها الشدة والصرامة فى الحفاظ على اسرارها.
الامر لا يصدق، إذ نحن امام مؤسسة عسكرية ما يميزها هو التقدم التقنى والتكنولوجى وخاصة فى مجال" المعلوماتية"، وهى ليست فقط " الجهة" التى " اخترعت الانترنت" الذى احدث هذا الانقلاب فى الحياة االانسانية بكافة جوانبها، بل هى الجهة التى تملك أعلى القدرات فى مجال الحواسب الآلية وبرامجها، اذ هى تعتمد أساساً على تلك الحواسب والبرامج فى تفوقها الدولى.
لا يعقل ونحن نرى مؤسسة بهذه الدرجة من التطور أن نسمح لعقولنا بالاستغفال إلى درجة تصديق، خروج نحو91 ألف وثيقة من السجل العسكرى للجيش الأمريكى، تتعلق بمجريات حرب ما تزال وقائعها جارية!
لكن اللافت ايضاً، او لنقل الكاشف، ان تلك الوثائق التى نشرت قد تمركزت حول ذات القضية التى يجرى تداولها فى تصريحات المسئولين الأمريكيين ووسائل الإعلام الامريكية الأخرى وفى ذات الاتجاه والتأثير.
القضية الاساسية فى الوثائق التى نشرها الموقع، هى قضية مساندة المخابرات الباكستانية لحركة طالبان الأفغانية، التى هى ذات القضية وذات الاتجاه الذى ورد فى التصريحات الامريكية الرسمية كثيراً ومطولاً حتى وصلت العلاقات الأمريكية الباكستانية حد الأزمة الشديدة.
لقد نشر الكثير عن أن الخطة الاستراتيجية الأمريكية فى الحرب على افغانستان منذ وصول اوباما للسلطة تتمثل فى تطوير المعركة بأتجاه باكستان، كما اعلنت مؤخراً ان خطة الانسحاب الأمريكية من افغانستان تقوم بالأساس الآن – وفق دوائر امريكية عديدة- على جعل باكستان سبب فشل الحملة العسكرية العدوانية الأمريكية، حتى لا تكون قوة الولايات المتحدة وهيبتها قد ضربت فى الصميم أمام حركة طالبان، وكذلك تحدثت دوائر امريكية وغربية عديدة، تحدثت فى الفترة الأخيرة، حول توجه استراتيجى امريكى حالى، لتغيير التحالف القديم كان قائما خلال الحرب الباردة مع باكستان، إلى تحالف مع الهند، تحقيقاً للمصالح الغربية فى محاصرة الصين، وبسبب أن باكستان فى تحالف مع تلك الدولة.
إذا ادركنا كل ذلك ووضعناه فى الاعتبار نجد بالدقة، أن الاتجاه الرئيسى للوثائق السرية التى نشرها موقع ويكى ليكس تصب مباشرة فى داخل الاستراتيجية والسياسة والإعلام الأمريكى وليست خارجه عنها ولا يحزنون، وان ما لا تستطيع الإدارة الأمريكية قوله الآن بسبب مواءمات السياسات الرسمية هو بالدقة ما قالته الوثائق السرية المنشورة فى الموقع.وان الموقع هو بوابة ومساحة نشر امريكية،ذات صفات خاصة ولاهداف لا يمكن تحقيقها من خلال البوابات ومساحات النشر الاخرى،هو الاشد فعالية.
هى اذن عملية "عسكرية" مرتبة مدبرة ضمن فعاليات نشر ما تريد نشره القيادة الأمريكية، ومن خلال وسيلة اشد فعالية فى تحقيق أهداف النشر، إذ لو نشرت تلك الوثائق فى وسائل اعلامية امريكية مباشرة" لكان الأمر محل شكوك، أما نشرها فى موقع مؤسس وينشر من خارج الولايات المتحدة، وإثارة الضجيج والرفض حول ما نشره،فهو فى قلب الهدف تماماً.
أبعد من الحرب
غير أن أهمية أمر موقع ويكيليكس ودوره، تبدو حالة أبعد وأعقد من حكاية الحرب على افغانستان، ومن تحميل باكستان مسئولية فشل الحملة العسكرية، وحتى من التمهيد لتغيير التحالف التقليدي الأمريكي الباكستاني باتجاه التحالف مع الهند إذ كل ذلك يرتبط بدور الموقع.
الأمر يرتبط باستعادة السطوة الأمريكية على الإعلام الدولى، بعد حالة تراجع " رآها" الكثير من الساسة والخبراء الاستراتيجين، تصل إلى درجة الخطر على الدور والنفوذ الدولى للولايات المتحدة.
ما نشهده بشان هذا الموقع، هو جزء من خطة اعلامية أمريكية لإستعادة السطوة الإعلامية الأمريكية من خلال وسائل الاعلام الحديثة، واهمها الشبكة العنكبوتية التى نجحت مواقع دولية أخرى معادية للتوجه والدور والنفوذ الأمريكى فى احتلال مساحات تاثير قوية فيها.
نحن أمام خطة امريكية للسيطرة الإعلامية من خلال موقع ويكيليكس ( ومواقع أخرى)، لتعالج انهيار تأثير الوسائل التقليدية ( الصحف والمجلات وحتى سى إن إن)، إذ ضعف تأثير الاعلام الأمريكى، ولمعالجة ضعفه يجرى كل هذا الضجيج لتثبت موقع ويكليكس كأحد المواقع التى تحقق نفاذا للرؤى والسياسات الأمريكية، لكن دون مسئولية امريكية مباشرة لا اكثر ولا اقل،وهذا نمط العمل الاعلامى فى زمن العولمة،او فى زمن الاعلام الرمادى،القائم على قصص وحكايات وروايات الراى والراى الاخر،وهو النمط الاشد خطورة وفعالية فى التاثير على المشاهد .
أما الجانب الآخر المتعلق بالحرب الافغانية مباشرة، فقد أصبح واضحاً ان الولايات المتحدة الأمريكية تدير الان خطة للانسحاب من افغانستان، وهى تخشى من انعكاسات خطيرة لهذا الانسحاب والهزيمة، خاصة وان الانسحاب من هذا البلد، يترافق ويتزامن مع الانسحاب من بلد آخر هو العراق.
وفى ذلك يبدو المغزى –مما نشر على الموقع-واضحاً ومحدداً ومؤكدا، إذ صدر مؤخراً كتاب للأمريكى بوب وورد، تحت عنوان حروب اوباما، سار فيه فى نفس خط المنشور فى موقع ويكيليكس، ليس فقط فى شأن نشر الوثائق ولكنه كشف عن تحول خطير فى شأن دور المخابرات الامريكية، التى فى رأيه ورؤيته تحولت الى تشكيل تنظيمات شبه عسكرية، كاشفاً سيطرتها وادراتها لمعسكر على الحدود الأفغانية الباكستانية مهمة منع تسلل عناصر حركة طالبان عبر الحدود،وهو امر لم يكن معروفا من قبل على الاطلاق،كما اماط اللثام عن حجم هائل للخلافات داخل الادارة الامريكية بشان افغانستان .. إلخ.
نحن هنا أمام تمهيد أمريكى للانسحاب من افغانستان، لكن الاصل فى الحكاية هو أن الإعلام الأمريكى صار فى وضع خطر، وان الإدارة الامريكية والمخططين الاستراتيجيين يسعون لاستعادة الهيمنة والتأثير الإعلامى الذى تضرر كثيراً بعد العدوانين على العراق وافغانستان،وبفعل ظهور اجهزة اعلام ذات تاثير دولى اخذت نصيبا من نصيب تاثير اجهزة الاعلام الامريكية.
واذا عدنا لتاريخ التحركات الامريكية فى هذا الشان،نجد اننا امام سيناريو جرى امامنا من قبل وعايشناه فى العراق،حين جرى تقديم الإعلام الأمريكى وتقويته فى التاثير فى العالم،من خلال نشرة مآسى ومخازى سجن ابو غريب فى العراق؟! .
ام نسينا؟!