عودة الخيار العسكري من جديد
مع بداية عهد أوباما في العام 2009، تمّ رفع الخيار العسكري عن الطاولة واستُبدِل بسياسة الانخراط الإيجابي مع طهران؛ فقد كان الخيار العسكري في تلك المرحلة غير ذي قيمة، والتلويح به لم يكن مجديا على الإطلاق خاصة أن خصوم واشنطن كانوا يعلمون أنّ الظروف الأميركية الداخلية والخارجية لا تسمح لها بإطلاق حملة عسكرية جديدة.
أكثر من ذلك، أرسلت واشنطن العديد من الرسائل المباشرة والواضحة لإسرائيل بضرورة الامتناع عن قيامها بأية ضربة عسكرية بشكل منفرد، لما لهذا الخيار من انعكاسات سلبية وتداعيات كبرى على الولايات المتّحدة وعلى المنطقة في الوقت الحالي، بل وحذّر العديد من المسؤولين العسكريين الأميركيين إسرائيلَ من مغبة الإقدام على هذه الخطوة، وذهب البعض أبعد من ذلك كـ"بريجنسكي"، الذي طالب الإدارة الأميركية بإسقاط الطائرات الإسرائيلية فيما لو أقدمت إسرائيل على قصف إيران.
وقد ظلّ هذا التقييم قائما حتى نهاية العام 2009 وبداية العام 2010؛ حيث أكّدت العديد من التجارب الأكاديمية التي أُجريت في هذه الفترة على "حروب افتراضية" بين أميركا وإيران وإسرائيل على صعوبة موقف كل من واشنطن وتل أبيب. فقبل عدّة أشهر، قام خبراء وباحثون في كل من "جامعة هارفارد"، و"جامعة تل أبيب"، و"معهد بروكينجز"، -بشكل منفصل ودون تنسيق مسبق- بإجراء مناورات حربية افتراضية "إلكترونية" تتضمن حربًا مع إيران لتحليل مختلف السيناريوهات التي قد تنجم عنها.
ونظَّم "مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية" التابع لكلية كندي في "جامعة هارفارد" الاختبار الأوّل متضمنا مواجهة مفترضة حول برنامج إيران النووي، أما الاختبار الثاني فقد نظّمه "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" مركّزا على عملية التفاوض الأميركية-الإيرانية والرد المحتمل لإسرائيل، وقام "مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط" في واشنطن بتنظيم الاختبار الثالث الذي ركّز على تداعيات قيام إسرائيل بشن هجوم عسكري على منشآت نووية إيرانية وموقف كل من طهران وواشنطن وتل أبيب.
وعلى الرغم من أنّ مخرجات هذه التجارب جاءت لتؤكد على فشل الضربة العسكرية في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، شهدت الأشهر القليلة الماضية تحوّلا في معطيات طرح الخيار العسكري أدى إلى إعادة إدراج هذا الخيار على الطاولة من جديد. ومن هذه المعطيات أنّ الموقف الإيراني العام بدأ يتخبّط ويتراجع لصالح الموقف الأميركي في المعادلة القائمة خاصّة بعد فرض عقوبات قاسية: جماعية وفردية، إضافة إلى تحسّن الوضع الأميركي مقارنة بالفترة السابقة، واستعداد واشنطن لإغلاق الملف العراقي فيما يخص العمليات العسكرية نهائيا، وحصول البنتاغون على معلومات نوعية فيما يتعلق بالشق الاستخباراتي من الملف النووي الإيراني، أضف إلى ذلك الرغبة في الاستفادة من هذه التطورات لتوظيف التهديد باستعمال القوة ضد إيران لدفعها إلى القبول بالحلول المطروحة عليها لتجاوز الأزمة.
أولا: العناصر الدافعة باتجاه الخيار العسكري
لكن وفي شرحه للمعطيات الإستراتيجية للموقف الأميركي، يشير المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الـ (CIA) "مايكل هايدي" إلى أنّ "خيار الضربة العسكرية للمنشآت النووية الإيرانية يبدو حتميا؛ لأن الدبلوماسية على وشك الفشل. لقد اخترنا سياسة الانخراط فاستمروا في التقدّم في برنامجهم. صوَّتنا للعقوبات، فاستمروا أيضا في التقدّم. حاولنا إقناعهم بالعدول عبر النصح تارة وعبر الردع تارة أخرى، لكنّهم استمروا في المضي قدما".
ومن هذا المنطلق، تخضع إدارة أوباما حاليا لضغوطات عديدة لدراسة الخيار العسكري جديّا، والانتقال من مرحلة التهديد باستخدام هذا الخيار، كعنصر ضاغط على إيران لحملها على الالتزام بمحددات المسار الدبلوماسي للأزمة، إلى الاستخدام الحقيقي للقوة العسكرية ضدها لمنعها من الحصول على السلاح النووي. ومن هذه الضغوطات:
1- موقف الحكومة الإيرانية
فقد سبق لأوباما وأن أعلن في الأول من يوليو/تموز2010 أن موقف الولايات المتّحدة وردّود فعلها أصبحت ترتبط من الآن فصاعدا بفعل الإيرانيين أنفسهم وبما ستقوم به حكومتهم، خاصّة أنّ واشنطن كانت قد قدّمت لطهران خيارا واضحا، فإما أن تنفذ التزاماتها الدولية وتحصل على انخراط اقتصادي وسياسي وأمني أكبر وأعمق مع العالم، وإما أن تتهرّب؛ وعندها ستواجه ضغطا أكبر، معتبرا انّه يفضّل الخيار الدبلوماسي لكن من دون إلغاء الخيارات الأخرى.
ويبدو في هذا الإطار أنّ الحكومة الإيرانية لا زالت إلى الآن تعتمد سياسة المماطلة وكسب الوقت، وهو مؤشر سلبي يضع المزيد من الضغوط على إدارة أوباما، ويتيح لخصوم هذه الإدارة أيضا الضغط عليه على اعتبار أنّ خياره السياسي والدبلوماسي قد فشل وأن عليه الانتقال إلى الخيار العسكري.
2- موقف المحافظين الجدد وصقور الجمهوريين
وفي طليعتهم شخصيات مثل السيناتور جون ماكين وجو ليبرمان إضافة إلى جون بولتون وغيرهم من رموز الحرس القديم لبوش الابن إذا صح التعبير. ويضغط هؤلاء على الرئيس الأميركي عبر قنوات عديدة، وخاصة عبر الكونغرس عن طريق إعداد تشريعات تدفع الرئيس إلى الخيار العسكري دفعا، أو عن طريق الإعلام حيث يتم الضغط على الرئيس بالترويج لحتمية فشل الخيار الدبلوماسي المتّبع حتى الآن، وبالتالي حشد الرأي العام خلف استغلال العقوبات القاسية للقيام بضربة عسكرية.
3- موقف الحكومة الإسرائيلية واللوبي الإسرائيلي في واشنطن
ومنها "إيباك"، وهي تضغط باتجاه حسم الموقف مع إيران، وضرورة تحرّك الإدارة الأميركية بشكل قاسٍ وسريع، وتهدد في الوقت عينه بالتحرّك الذاتي الأحادي حال عدم قيام الولايات المتّحدة بأي عمل ذي قيمة، ما يعني عمليا توريط أميركا في مستنقع جديد وفق حسابات تختلف كليّا عن تلك التي تراها إدارة أوباما
4- التزامات أوباما بمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية
فقد سبق للرئيس أوباما أن صرّح في أكثر من مرّة بأنّ حصول إيران على الأسلحة النووية يعدّ "أمرا غير مقبول"، وأنّ من شان هذا التطور أن يحمل تداعيات كارثية على الأمن والاستقرار في المنطقة، وأنّ "الولايات المتّحدة ستواجه ذلك بكل ما أتيح لها من قوة". وقد فهم البعض ذلك على أنّه التزام من أوباما بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي خاصّة أنّ لا أحد في المنطقة مستعد إلى الآن لتقبّل هذه الفكرة؛ فالسماح لإيران بالتحول إلى قوة نووية سيؤدي حتما إلى سباق تسلّح نووي تسعى فيه كل من مصر والسعودية وتركيا وغيرها من الدول إلى اقتناء سلاح نووي في منطقة هشّة للغاية، وهو ما سيؤدي أيضا -بحسب "برنت سكوكروفت" مستشار الأمن القومي السابق للرئيسين جيرالد فورد وجورج بوش الأب- إلى انهيار ثقة الحلفاء بقدرة أميركا على الردع، وستنتقل المشكلة أيضا إلى مناطق أخرى من العالم ككوريا الجنوبية واليابان.
ويرى "إليوت إبرامز" -وهو جمهوري ومستشار سابق للرئيس بوش الابن لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، ومن أبرز منتقدي إدارة أوباما لعدم تضامنها بشكل كافٍ (كما يقول) مع إسرائيل- انّه إذا لم يقم أوباما بعمل عسكري ضد إيران، فستمتلك طهران حينها أسلحة نووية في عهده، وسيكون لذلك تداعيات، لعل أبرزها:
* على المستوى الدولي: سيرى أوباما بأم عينه كيف سيتم الاستهزاء بكل قرارات مجلس الأمن التي ستصبح دون قيمة على الإطلاق، وستتحول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجرد مهزلة، كما ستصبح معاهدة منع الانتشار النووي (NPT) دون فائدة وسينتهي مفعولها. أمّا نظرية أوباما حول العمل الجماعي والتعددي على المستوى الدولي فستنتهي هي الأخرى؛ لأن إيران ستثبت حينها أنّ "المجتمع الدولي" غير فاعل أو لا وجود له على الإطلاق.
* على الصعيد الداخلي: إذا ما امتلكت إيران قنبلة نووية خلال السنتين القادمتين، فسيعاني أوباما من تراجع حاد في شعبيته، وقد يتعرض أيضا لهزيمة مؤكدة في عام 2012. وسيصبح للجمهوريين موقف أفضل وملف متين حول تقويض أوباما للأمن القومي الأميركي؛ ولذلك فعليه أن يستخدم القوة لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي.
ثانيا: العناصر المقيِّدة لاعتماد الخيار العسكري
على الرغم من تشديد الإدارة الأميركية مؤخرا على عدم استبعاد الخيار العسكري، وإمكانية اللجوء إليه كخيار أخير. يرى كل من "ستيفن سيمون" -عضو مجلس الأمن القومي سابقا في عهد إدارة بيل كلينتون- و"راي تاقية" -وهو مستشار سابق لإدارة الرئيس أوباما في الملف الإيراني، وكلاهما يشغل حاليا عضوية مجلس العلاقات الخارجية- أنّ لجوء أوباما إلى استخدام القوة من الناحية العملية سيرتبط بمعطيات سياسية وعسكرية ليس لها علاقة بالجدول الزمني الذي من الممكن لإيران أن تحصل في نهايته على القنبلة النووية، وسيكون هناك الكثير من المثبطات التي ستحد من قدرته على القيام باستخدام القوة، ومنها:
1- سياق مجلس الأمن والعمل الجماعي
إذ يُعد الالتزام بحكم القانون والشرعية الدولية والعمل الجماعي أمرا أساسيا في طروحات أوباما التي عمل بها حتى الآن، وأكد عليها أيضا من خلال إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2010 التي صدرت مؤخرا، وعليه فإن الإدارة الأميركية ستواجه مشاكل عديدة في حال استخدام القوة من دون أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار ومن دون دعم مجلس الأمن.
2- موقف الحلفاء
قد يكون من اليسير على أميركا إلقاء اللوم على الصين وروسيا لدورهما في منع فرض المزيد من الإجراءات القمعيّة التي تعتمد على القوة ضد إيران، لكن الأمر يتعدى ذلك؛ فحتى الحلفاء مثل بريطانيا وفرنسا -حيث الرأي العام هناك يعارض الآن الاستمرار في الحرب على أفغانستان- سيكون من الصعب عليهم تقبّل فكرة حرب جديدة. علما بأنّ إدارة أوباما استثمرت كثيرا بعد بوش الابن في تطوير علاقاتها مع القارة العجوز وأيضا في تطوير العلاقات مع روسيا، وسيكون عليها التفكير مرّتين بخصوص هذه المكاسب إذا ما تقرَّر ضرب إيران.
3- الموقف العربي
فعلى الرغم من أنّ واشنطن قادرة بالتأكيد على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية من دون مساعدة أو تعاون الأمم المتحدة أو أوروبا، إلا أنّه سيكون من الصعب عليها فعل ذلك من دون مساعدة "الدول الصغيرة الواقعة على الضفّة العربية من الخليج" –كما سمَّوْها-؛ فالقيام بحملة على إيران لن يتطلب فقط موافقة هذه الدول الصريحة، بل استعدادها لتحمّل وامتصاص الرد الإيراني الغاضب والعنيف لسنوات قادمة. ورغم أنّ المعاهدات القائمة لا تجبر واشنطن من الناحية القانونية على مساعدة هذه البلدان، لكن الالتزامات الإستراتيجية تُلزم واشنطن بالدفاع عنها، ويجب على الإدارة أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار عند دراستها لخيار استعمال القوة.
4- الوضع الأميركي الداخلي
على المستوى الداخلي، يعد النقاش العلني حول هذا الموضوع ضروريا ولكنه يعتبر في نفس الوقت حساسا. ورغم أنّ العديد من استطلاعات الرأي التي أُجريت مؤخرا تفيد بوجود دعم شعبي للخيار العسكري ضد إيران، إلا أنّ الرأي العام قابل للتغيّر، ويعتمد أيضا على طريقة تعامل إيران مع الأزمة حاليا. لكن وفي جميع الأحوال، سيتطلب خيار استعمال القوة تحذيرا علنيا لإيران كي لا تفهم خطأً أنّ هذا النقاش إنما هي حرب نفسية وهمية لا أساس لها، لكن من سلبيات هذه الخطوة أنّها قد تعرِّض العملية العسكرية المعقدة أصلا لمزيد من المشاكل، وتُفقدها عنصر المباغتة المطلوب لنجاحها.
ومن هذا النقاش أن وزير الدفاع "روبرت غيتس يرى أن الخيار العسكري لن يحقق شيئا سوى "شراء المزيد من الوقت"، في حين يؤكد رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الأدميرال "مايك مولن" أن الجيش الأميركي لديه خطة جاهزة لشن عمل عسكري على إيران لكنه قلق جدا "إزاء الانعكاسات المحتملة لهذه الضربة".
فما زال من غير المعروف ماذا سيكون عليه حجم الرد الإيراني؟ وما إذا كانت واشنطن ستنجح في إفهام النظام الإيراني أنّ الحملة العسكري هي لمعاقبته على برنامجه للتسلح النووي وليس للإطاحة به بما يسمح لواشنطن بالسيطرة على مخرجات العمل العسكري والرؤية الإستراتيجية؟ أم أنّها ستفشل بذلك بشكل يؤدي إلى تصعيد متبادل بحيث يفقد الملف النووي برمته سياقه وينتقل إلى مواضع وملفات أخرى، وإلى فوضى إقليمية خاصة بعدما أعلن ممثل المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي في الحرس الثوري "علي سعيدي"، أنّ "لبنان إضافة إلى فلسطين والعراق، تمثل خط المواجهة الأمامي لإيران ضد أعدائها"، وتبعه تهديد "الحرس الثوري" على لسان مسؤول الدائرة السياسية فيه العميد "يد الله جواني" بزعزعة أمن الخليج مشدداً على أن الرد على أي هجوم عسكري غير محدود بحدود إيران الجغرافية؟
خيار التعايش مع إيران نووية
في المقابل، تؤمن بعض الدوائر في واشنطن أنّ معضلة الخيار العسكري يمكن تجاوزها إذا ما تمّ الانتقال إلى اعتماد سياسة "احتواء وردع". وعلى الرغم من أنّ البيت الأبيض والإدارة الأميركية ينفيان أن يكون التسليم بإيران نووية "أمرا مقبولا"، أو أنّ اعتماد سياسة احتواء يعدّ خيارا مطروحاً على الطاولة، وهو ما عزّزه تصريح وزير الدفاع روبرت غيتس في 20 يونيو/ حزيران 2010 الذي قال: "لا أعتقد أننا جاهزون حتى لمجرد الكلام عن احتواء إيران نووية..لا يمكننا قبول فكرة إيران مسلّحة نوويا على الإطلاق".
إلا أنّ اتجاهات عديدة بدأت التنظير فعليا لإمكانية التعايش مع فكرة "إيران نووية"، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك ليشير إلى فوائد حصول إيران على السلاح النووي، والانعكاسات الايجابية لهذه الخطوة على تعزيز النفوذ الأميركي في المنطقة، وإنجاز العديد من الملفات ذات الطابع الإستراتيجي، ومن هؤلاء "آدم لوثر" وهو باحث في الشؤون الدفاعية بمعهد أبحاث سلاح الجو في قاعدة ماكسويل الجوية.
ويرى عدد من الخبراء من مدرسة "الواقعية السياسية" أنّ على الولايات المتحدة القبول بـ"إيران نووية" إذا ما فشلت العقوبات الحالية في تحقيق أهدافها. وفي هذه الحالة، سيكون على الإدارة الأميركية أن تنقل جهودها للتركيز على إستراتيجية "احتواء وردع" للتعايش مع إيران نووية، وهو خيار كان أوّل من طرح فكرته الجنرال "جون أبي زيد" قائد القيادة المركزية الأميركية الوسطى بين أعوام 2003 و2007.
أولا: مؤيدو خيار "الاحتواء والردع"
ويعتقد (أبي زيد) "أنّ بالإمكان التعامل مع إيران نووية عبر تطبيق سياسة مماثلة لتلك التي كانت واشنطن تتعامل بها مع الصين وروسيا والتي تفيد بشكل صريح وواضح أنّ استخدام الضربة الأولى للسلاح النووي من قِبل أي منهما سيؤدي إلى رد فعل من شأنه تدمير البلد تدميرا كليا. ومع الاعتقاد بانّ إيران ليست دولة انتحارية، فإن معادلة الردع المستخدمة ضدها ستنجح في هذه الحالة".
كما يُعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي السابق والخبير الإستراتيجي "زبيغنيو بريجنسكي" من أبرز مؤيدي هذا الخيار حاليا، وهو يرى "أنّ امتلاك إيران للسلاح النووي لن يغيّر شيئا من المعادلة، وأنّ سياسة الاحتواء التي نجحت في حقبة الحرب الباردة ستنجح أيضا مع الملالي؛ لأنّه ما من سابقة في تاريخ إيران تشير إلى أنّ النظام انتحاري".
ويعدّ "فريد زكريا" رئيس تحرير الطبعة الدولية لنيوزويك الشهيرة بدوره واحدا من أقوى المؤيدين لطرح "احتواء إيران نووية"، وله العديد من الكتابات التي نُشِرت مؤخرا في هذا الإطار، ومما يذكره: أنّ "الديكتاتورية الإيرانية اليوم هي من النوع الذي يأخذ الحسابات بعين الاعتبار؛ فالملالي يتصرفون بطرق يسعون من خلالها إلى الحفاظ على أنفسهم وعلى نظامهم وإلى البقاء في السلطة، وهذه العناصر هي ما سيضمن نجاح إستراتيجية الاحتواء".
ويجد طرح إمكانية "التعايش مع إيران نووية" أنصارا له على المستوى الأكاديمي أيضا، إذ يقول البروفيسور "كينيث والتز": "سيكون من المستغرَب إن لم تناضل إيران للحصول على الأسلحة النووية، وأعتقد أنّه ليس علينا أن نقلق إذا فعلت ذلك؛ لأنّ الردع النووي أثبت فعاليته بنسبة 100% حتى يومنا هذا، فقد ردعنا قوى نووية كبرى كالاتحاد السوفيتي والصين؛ لذلك اطمئِنوا وناموا بارتياح"!!
ثانيا: مؤشرات الذهاب باتجاه "الاحتواء والردع"
على الرغم من أنّ إدارة الرئيس الأميركي أوباما لم تتبنَّ هذا الموقف، إلاّ أنّ العديد من المراقبين يعتقدون أنّ الإدارة ذاهبة في هذا الاتجاه واقعيا، خاصّة بعدما تسرَّب العديد من المؤشرات التي توحي بذلك خلال الفترة السابقة.
وهناك من المحللين والخبراء من بدأ بطرح نقاش حول الكيفية التي يمكن فيها التعامل مع إيران نووية، ككلٍّ من "راي تاقية"، ونائب رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومدير الدراسات فيه "جايمس ليندساي" اللذين اعتبرا أنّ على الولايات المتّحدة أن تفرض على "إيران نووية" ضمن سياسة "الاحتواء والردع" ثلاث لاءات: "لا لإطلاق أية حملة عسكرية تقليدية ضد أي دولة"، "لا لنقل الأسلحة النووية أو المعدات أو التكنولوجيا النووية لأي طرف"، و"لا لدعم الإرهابيين"، على أن يتضمن العقاب تجاه أي خرق إيراني لهذه اللاءات، القيام برد عسكري بكل الوسائل المتاحة بما فيها استخدام السلاح النووي.
وقد فهم البعض هذا النقاش على أنّه توطئة لتقبّل فكرة التعايش مع إيران نووية، خاصّة إذا ما تمّ أخذه في سياق العديد من المؤشرات التي توحي بأنّ الإدارة الأميركية تذهب في هذا الاتجاه فعلا، منها:
1- الحديث عن مظلة دفاعية
ففي يوليو/تموز 2009، قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون: "إذا قامت الولايات المتّحدة بإنشاء مظلة دفاعية أمنية في المنطقة، فمن غير المحتمل أن تصبح إيران أقوى أو آمن مما هي عليه اليوم؛ لأنه لن يكون باستطاعتها السيطرة أو الهيمنة بالطريقة التي يعتقدون أنّهم سيكونون قادرين عليها عند حصولهم على السلاح النووي". وقد فُهِم من كلام وزيرة الخارجية هذا أنّه تحضير لمرحلة ما بعد امتلاك إيران للسلاح النووي.
2- المراجعة النووية الأميركية 2010
أدخلت إدارة أوباما على الإستراتيجية النووية للبلاد من خلال وثيقة "مراجعة الوضع النووي للعام 2010" تعديلا مفاده من أنها ستمتنع عن استخدام السلاح النووي ضد الدول التي لا تمتلكه إلا إيران، وهذا الاستثناء فهم على أنه يستبطن إقرارا ضمنيا بتحول إيران إلى دولة نووية في المستقبل، كما فهم من هذه الخطوة أنها قد تكون تحضيرا لإقامة مظلة نووية إقليمية لدول المنطقة في مواجهة إيران.
3- التعزيزات العسكرية في الخليج
فالمتابع لنوعيّة التعزيزات العسكرية التي تجري في الخليج قد يخرج باستنتاج يقوده إلى أنّ واشنطن تهيئ المسرح الإقليمي لعملية "احتواء وردع" ضد إيران نووية، كخطوة أولى لما يُعرَف باسم "الردع الممتد" (Extended Deterrence)؛ إذ عزَّزت واشنطن من تواجدها المباشر بقوة بحرية ضخمة في الخليج، وقامت مؤخرا بإنجاز صفقات تسلح تتضمن مبيعات أسلحة دفاعية متطورة وحديثة لصالح دول الخليج بمليارات الدولارات، مع التركيز على الأنظمة الدفاعية كنظام الدفاع الصاروخي المتطور (THAAD) المتوقع تسليمه العام 2012 للإمارات التي تمتلك أيضا منظومة الدفاع الصاروخي الجوي المتقدّمة (Patriot PAC-3)، فيما تمتلك دول الخليج الأخرى أنظمة دفاع صاروخية متعددة من فئة (Patriot) تعمل على تحديثها وتطويرها بشكل واسع بالتعاون مع واشنطن.
ثالثا: مؤشرات تستبعد اعتماد "الاحتواء والردع"
وبغض النظر عن هذا الجدل القائم حول ما إذا كانت الولايات المتّحدة تنوي أو لا تنوي اعتماد خيار "الاحتواء والردع" النووي تجاه إيران؛ فإن الوقائع تشير إلى أنّ الولايات المتّحدة تفتقر في وضعها الحالي إلى عدّة عناصر أساسية ورئيسية لازمة لنجاح أية إستراتيجية "احتواء وردع نووية" لإيران، ومنها:
1- الافتقار إلى المصداقية
يؤيد "كينيث بولاك" -وهو محلل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ومدير قسم الأبحاث والدراسات في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط التابع لبروكينغز- الطرح المعتمد على "اللاءات الثلاث" معتبِرًا أنّ هذه الخطوط الحمراء ستحدد سياسة الردع باتجاه إيران.
لكن من الملاحظ في هذا الإطار أنّ واشنطن تفتقر إلى المصداقية في تهديداتها باستعمال القوة، فإذا كانت تتهرب من استحقاقات استعمال القوة ضد إيران في الخيار العسكري رغم أنّها وضعت الكثير من الخطوط الحمراء التي تمّ تجاوزها من قبل النظام الإيراني لمعرفته المسبقة بأن واشنطن لن تستخدم القوة العسكرية في هذه الظروف، فكيف إذن سيتم التعامل مع "إيران نووية"؟! عِلما بأنّه ولنجاح إستراتيجية "الاحتواء والردع" لا يكفي أن تمتلك أميركا القوة، بل يجب أن تكون مستعدة فعلا لاستعمالها وإلاّ فإن الردع لن ينجح، ولن يكون لتهديداتها باستعمال القوّة حال خرق إيران أي من اللاءات الثلاث أي مفعول يذكر.
2- الافتقار إلى بنية أمنية إقليمية يمكن الاعتماد عليها
يجادل مؤيدو خيار الاحتواء بأن واشنطن قادرة على الحفاظ على توازن القوى في المنطقة في مرحلة "إيران نووية" من خلال بناء منظومة دفاعية، ونقل الأسلحة، والتعاون الأمني الإقليمي. لكنّ هؤلاء يتغاضون عن أهمية ودور منظومات الأمن الجماعية كحلف الناتو ، وأيضا التحالفات الدفاعية الثنائية كتلك القائمة بين اليابان وأميركا، وكوريا الجنوبية وأميركا، والتي كان لها الفضل الأساسي في نجاح سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة.
فردع إيران سيتطلب بالضرورة تحالفات إقليمية مشابهة يلزمها العديد من السنوات لتصبح فاعلة ومؤثرة ضمن سياسة احتواء وردع متكاملة، علمًا بأنّ التوصل إلى ذلك سيكون "صعبا جدا"، إن لم نقل "غير ممكن" لأن الشرق الأوسط ليس شرق آسيا أو أوروبا الغربية.
3- النظام الإيراني غير قابل للردع
من القواعد الأساسية المتفق عليها على نطاق واسع، أنه حتى تنجح "إستراتيجية الردع النووية"، فإن على قادة الدول التي تمتلك هذه الأسلحة النووية أن يكونوا عقلانيين ومنطقيين. والعقلانية هنا يمكن تلخيص مضمونها بالخوف على الذات، والحفاظ على النفس، وهي عناصر أساسية وشروط مسبقة لجعل قاعدة "التدمير المتبادل المؤكد" (MAD) فعّالة ومؤثرة في حسابات الردع. وعلى الرغم من أنّ مؤيدي سياسة "الاحتواء والردع" يجادلون بانّ النظام الإيراني قد لا يكون أيديولوجيًّا إلى درجة التضحية بالنفس أو الانتحار إلاّ أنّه لا شيء يضمن عكس ذلك، خاصّة أنّه لا يمكن المغامرة بحسابات خاطئة في هذا المجال.
أضف إلى كل ما تمّ ذكره، يرى عدد من الباحثين أنّه يجب دوما الأخذ بعين الاعتبار أنّ قبول إيران نووية، سيترتب عليه نتائج وآثار جانبية خطيرة. فحتى لو افترضنا أنّ إيران لن تلقي أبدا أيًّا من قنابلها النووية على أحد، فإنه وبمجرد امتلاكها للأسلحة النووية، سيكون لهذه الأسلحة تداعيات على أمن المنطقة وأمن دولها كما يجادل معارضو خيار "الاحتواء والردع"؛ إذ ستصبح إيران أكثر عدوانية وأكثر قدرة على دعم أذرعها في المنطقة، كما ستكون واثقة أكثر من أي وقت مضى من قدرتها على التلاعب في ساحات المنطقة من العراق إلى لبنان وفلسطين والخليج.
باختصار سيكون باستطاعتها وضع أهداف الثورة الإيرانية موضع التنفيذ وتحقيقها بكل كفاءة من دون الاضطرار إلى اللجوء لاستخدام الأسلحة النووية بالضرورة؛ وعندها فالسلاح النووي الإيراني في هذه الحالة سيتحوّل من عنصر ردع إلى عنصر مغيّر لشروط وقواعد اللعبة إن لم يكن للعبة بأكملها "Game Changer" كما قال الرئيس باراك أوباما، وهو ما عاد وأكّد عليه مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال جيمس جونز عندما قال: إن "امتلاك إيران سلاحاً نووياً سيغيّر صورة الشرق الأوسط بأكملها نحو الأسوأ".
خاتمة
ما يمكن الخروج به من استنتاج في نهاية الورقة يختلف عمّا كان بالإمكان الوصول إليه قبل استعراض التفاصيل المتعلقة بمشاكل سياسة "الاحتواء والردع". صحيح أنّ الخيار العسكري قد يكون صعبا جدا على إدارة أوباما، لكنّ القبول بإيران نووية له تداعيات أيضا لا تقل عن تداعيات القيام بضربة عسكرية بل تزيد عليها كما ترى العديد من الأوساط البحثية الأميركية.
والواقع أنّ إدارة أوباما لم تغلق الباب بعد على أيٍّ من الاحتمالات، رسميا على الأقل، وهي لا زالت تأمل بان تؤدي الضغوطات الأخيرة على طهران إلى التوصل إلى حل عبر الطرق الدبلوماسية. وفي جميع الأحوال، فإن الخيارات الأخرى ستخضع على الأرجح لميزان الربح والخسارة لمختلف الأطراف بغضِّ النظر عن طبيعة الخيار، فليس هناك خيار جيد وآخر سيء إنما هناك خياران سيئان.
وكما يقول "جاك دافيد" -مستشار في الأمن القومي وشؤون أسلحة الدمار الشامل-: فإنه و"عندما لا يتم اختيار أي من الخيارات السيئة المطروحة سواء على أمل أن يقوم الخصم بتغيير سلوكه السيئ، أو بسبب الحيرة والتردد في اتخاذ القرار، أو لأي سبب آخر؛ فإن الخيارات السيئة ستتحول حينها إلى خيارات أكثر سوءًا مما كانت عليه سابقا".