قيام الثورة المصرية وإسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك العديد من الملفات العالقة والغامضة في إدارة السياسة الخارجية المصرية، خاصة ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وإيران.
وإذا كان الكلام عن العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة، الحليف الأقرب لمصر، لايزال سابقاً لأوانه، فإن ملف العلاقات مع إيران يبدو أنه فتح فعلاً، وبخطوات تبدو سريعة وتتجاوز مرحلة التقاط الأنفاس التي تحتاجها مصر في مرحلة "المخاض" السياسي التي تمر بها.
فعلى امتداد ما يزيد عن ثلاثين عاماً شكلت العلاقة مع إيران أحد الألغاز الغامضة في إدارة السياسة الخارجية المصرية، وشهدت موجات مد وجذب كثيرة، ما بين مؤشرات على تقارب ما واحتمال لعودة العلاقات وصلت ذروتها في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وعادت للتوتر مجدداً مع وصول محمود أحمدي نجاد للسلطة في طهران.
وقطعت تلك العلاقة خطوة أخرى نحو التدهور باتهامات متبادلة بالتجسس وزرع عملاء، وتورط إيران في عمليات تهريب سلاح لحركة حماس في غزة أو محاولة زعزعة الأمن القومي المصري.
ورغم ما تركته تصريحات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، أثناء الثورة، من اسيتاء مصري عارم لمحاولته التدخل في الشأن المصري، بقوله إن الثورة في مصر هي امتداد "للثورة الإسلامية" في إيران، وهو ما أثار حفيظة المصريين الذين خرجوا لمطالب تتعلق بالحريات وتحسين الأوضاع الاقتصادية، ولا صلة لها من قريب أو بعيد بالدين.
لكن إيران، التي أجادت خلال سنوات الصراع الطويلة مع الغرب، لعبة المراوغة السياسية، وتقديم أكثر من وجه في نفس القضية، استطاعت سريعاً تجاوز "سقطة" المرشد، بخطاب لمحمد خاتمي، أشاد فيه كثيراً بالمصريين وتاريخهم، وأرجع الأمور لنصابها بقوله، إن إيران استلهمت في تاريخها ونضالها ثورات الشعب المصري ونضاله لنيل حقوقه.
"قنبلة سياسية"
وشهدت العلاقات أول اختبار جدي بعد أيام فقط من تولي المجلس العسكري السلطة في مصر خلفاً للرئيس مبارك، عندما طلبت إيران السماح لسفينتين حربيتين بالمرور في قناة السويس، ورغم التحذيرات والتهديدات الإسرائيلية من تلك الخطوة، وافقت مصر على مرور السفينتين في طريقهما إلى سوريا، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ عام 1979.
وفي أول تصريحات مباشرة تتعلق بالعلاقة مع إيران، فجر وزير الخارجية المصري الجديد نبيل العربي، ما يعتبر بحق "قنبلة سياسية" في طريقة المعالجة والتعامل المصري مع إيران، بقوله إن إيران دولة من دول الجوار والحكومة المصرية لا تعتبرها دولة معادية أو عدو.
وقال العربي "إن إيران دولة من دول الجوار ولنا معها علاقات تاريخية طويلة وممتدة في مختلف العصور والحكومة المصرية لا تعتبرها دولة معادية أو عدو ونفتح صفحة جديدة مع كل الدول بما فيها إيران".
ولم يستبعد الوزير المصري رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لمستوى سفارة بدلاً من مكتب لرعاية مصالح، وقال إن "هذا الأمر يتوقف على الطرفين ومن جانبنا نعرض فتح صفحة جديدة وسنرى رد فعلهم''.
تصريحات العربي لم تذهب أدراج الرياح، إذ وجدت أذناً صاغية في طهران، وبادر وزير الخارجية على أكبر صالحي بإلإشادة بالعلاقات بين بلاده ومصر، وقال إن هذه العلاقات "تاريخية وكانت متواصلة على الدوام".
ونقلت وكالة أنباء مهر الإيرانية عن صالحى قوله: "إن العلاقات التاريخية بين البلدين كانت متواصلة على الدوام بالرغم من التقلبات، ونأمل في المناخ الجديد رؤية الارتقاء بمستوى العلاقات بين البلدين والشعبين الإيراني والمصري العظيمين".
وشدد صالحي على أن العلاقات الجيدة بين الدولتين ستساعد في إعادة الإستقرار والأمن والتنمية في المنطقة بأسرها، مضيفاً أن الشعب المصري كافح من أجل تحقيق العدالة، واصفاً مساعيه في هذا الصدد بأنها تمثل فصلاً جديداً من فصول التاريخ.
تصريحات صالحي أعقبتها أخرى مماثلة من علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن القومي والعلاقات الخارجية بالبرلمان الإيراني، حيث وصف إقامة علاقات مع مصر بأنها "فرصة مهمة" للدبلوماسية الإيرانية.
وأضاف أنه "يجب على وزارة الخارجية متابعة إقامة العلاقات الثنائية بين إيران ومصر بشكل جاد".
وأوضح بروجردي أن "الجهاز الأمني في النظام المصري السابق كان أهم عقبة تحول دون إقامة العلاقات بين إيران ومصر، وأنه مع انهيار هذا الجهاز والتطورات الداخلية في مصر، هيأ الأرضية لإقامة العلاقات بين البلدين".
تصريحات الغزل المتبادل هذه بالطبع لا تكفي للقفز على ملفات عديدة عالقة في العلاقات المصرية الإيرانية، على رأسها ملف التعامل مع قضية السلام في الشرق الأوسط، والانتشار النووي، وأمن الخليج، لكنها توحي بأن تلك العلاقات ربما تكون قد دخلت مرحلة المعالجة العقلانية، والمرور نحو حوار يسمح بتفاهمات مقبولة بين الطرفين، تحقق مصالح مشتركة، وتصب في إرساء الاستقرار في المنطقة اعتماداً على قواه الإقليمية التقليدية، وتقليص التدخل الخارجي في منطقة عانت طويلاً من تصرفات بعض حكامها، ومن التدخل الخارجي.