القانون الدولي العام- تعريفه-نشأته وتطوره
إن الوقوف على تاريخ القانون الدولي العام ضرورة محلة وواجب علمي، لان
ارتقاء القانون في الحاضر إنما يبنى على كيفية تكونه ونموه وتطوره في
الماضي.
ولم يظهر تنظيم للعلاقات الدولية إلا بعد القرن السابع عشر أي بعد معاهدة
وستفاليا ولكن يجب ألا يؤخذ هذا القول على إطلاقه، فلم يكن المجتمع الدولي
خالياً من التنظيم قبل القرن السابع عشر، فقد ساهمت الجماعات المتحضرة على
امتداد التاريخ الإنساني في تكوين قواعد القانوني الدولي، لذلك يمكننا
القول بأن تطور القانون الدولي مستمر منذ ظهور التجمعات الإنسانية وصاحب
نموها وتطورها إلى جماعات سياسية.
ويمكن تقسيم المراحل المختلفة لتطور القانون الدولي إلى أربع مراحل تاريخية
وهي، العصور القديمة، والوسطى، والحديثة، وعصر التنظيم الدول.
أولاً- العلاقات الدولية في العصور القديمة:
1- العصور القديمة:
لم يظهر القانون الدولي إلا مع ظهور الدول، ولقد شهدت العصور القديمة صوراً
متعددة للعلاقات الدولية منها معاهدات الصلح والتحالف والصداقة وإنهاء
الحروب ولعل أهمية معاهدة الصداقة التي أبرمت بين الفراعنة والحيثيين سنة
1287 قبل الميلاد، كان هناك أيضاً قانون "مانو" الهندي الذي نظم قواعد شن
الحروب وإبرام المعاهدات والتمثيل الدبلوماسي.
ولكن رغم ذلك لم يعتبر إلا على حالات قليلة لتنظيم العلاقات الدولية ويدور
معظمها حول الحروب كما أنها من جهة أخرى معظم العلاقات كان يحكمها القانون
الإلهي بما لا يفيد وجود نظام قانوني دولي مستقر لحكم العلاقات بين
الجماعات الإنسانية بطريقة منتظمة.
2- عصر الإغريق:
الأول: علاقة المدن الإغريقية فيما بينها: وكانت مبنية على الاستقرار وفكرة
المصلحة المشتركة والتعاون وذلك نظراً لوحدة الجنس والدين واللغة، لذلك
كان يتم اللجوء للتحكيم كل الخلافات فيما بينها، بالإضافة إلى وجود قواعد
تنظيمية يتم احترامها في علاقاتها السلمية والعدائية، كقواعد التمثيل
الدبلوماسي وقواعد شن الحرب.
الثاني: علاقة الإغريق بغيرهم من الشعوب الأخرى: كان يسودها اعتقادهم
بتميزهم عن سائر البشر، وأنهم شعوب فوق كل الشعوب الأخرى منه حقه إخضاعها
والسيطرة عليها، ومن هنا كانت علاقاتهم بهذه الشعوب علاقات عدائية وحروبهم
معها تحكمية يشوبها الطابع العدائي ولا تخضع لأي ضوابط أو قواعد قانونية بل
يحوطها كثير من القسوة وعدم مراعاة الاعتبارات الإنسانية.
3- عصر الرومان:
لا يختلف الرومان كثيراً عن الإغريق، فقد كانوا يعتقدون بتفوقهم على الشعوب
الأخرى وبحقهم في السيطرة على ما عداهم من الشعوب، لذلك كانت صلتهم بغيرهم
مبنية على الحرب مما أدى إلى سيطرة الإمبراطورية الرومانية على معظم أرجاء
العالم آنذاك، وبالتالي كانت العلاقات بين هذه الدولة وروما علاقات بين
أجزاء الإمبراطورية الواحدة تخضع جميعها للقانون الروماني الذي كان يحكم
هذه الإمبراطورية.
ولقد امتاز الرومان بعبقريتهم القانونية: حيث ظهرت في روما مجموعة من
القواعد القانوني لحكم العلاقات بين الرومان ورعايا الشعوب التابعة لروما
أو تلك ترتبط معها بمعاهدات تحالف أو صداقة سميت بقانون الشعوب، فقد كانت
قواعد هذا القانون تنظم العلاقات بين أفراد الشعب الروماني وأفراد الشعوب
الأخرى وتنظم الحماية أفراد هذه الشعوب في حالة انتقالهم أو وجودهم في
روما، أما الشعوب الأخرى التي لا تربطها بروما معاهدة صداقة أو معاهدة
تحالف فإن مواطني هذه الدول وممتلكاتهم لا يتمتعون بأي حماية بل يجوز قتلهم
أو استرقاقهم، ويمكن القول بأن القانون التشريع قد شهد ازدهاراً كبيراً في
عهد الرومان.
ولكن مسائل القانون الدولي العام لم تكن واضحة في المجتمعات القديمة، وذلك
لانعدام فكرة المساواة بين الشعوب ولعدم وجود الدول المستقلة نظراً لتسلط
شعب معين على باقي الشعوب.
ثانياً- العلاقات الدولية في العصور الوسطى:
ظهر في هذا العصر الممالك الإقطاعية، حيث كان كل أمير إقطاعي يسعى للمحافظة
على إقطاعه، أو توسيعه مما أدى إلى قيام حروب متعاقبة بين الأمراء
الإقطاعيين من جهة أخرى شهد هذا العصر صراعاً بين الدولة في مواجهة أمراء
الإقطاع تحقيقاً لوحدتها الداخلية وتأكيداً لسيادتها انتهى بتغلب الدولة
وزوال النظام الإقطاعي.
من جهة أخرى ظهر في هذا العصر تسلط الكنيسة وذلك نتيجة لانتشار الدين
المسيحي بين الدول الأوربية من جهة وظهور الإسلام والخوف من انتشار نفوذه
مما يؤدي إلى انتزاع السيادة من المسيحية.
ولكن تسلط الكنيسة والباب يتنافى مع وجود الدولة المستقلة التي يمكنها
تنظيم علاقاتها فيما بينها حسبما تقتضي ظروفها. وذلك يشكل عقبة في وجه تطور
القانون الدولي العام، لأن إسناد العلاقات الدولية إلى الروابط الدينية
دون غيرها كان من شأنه أن تقتصر هذه العلاقات على الدول المسيحية وحدها دون
سواها من الدولة غير المسيحية، وقد ساعد على تخلص الدولة من سلطان البابا
ظهور الحرية الفكرية العلمية المعروفة بعصر النهضة، وما صاحب ذلك من حركة
الإصلاح الديني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد كان أهم أغراضها:
بيان ما يجب على الدول إتباعه بشأن العلاقات المتبادلة بينهم مستوحية ذلك
من مبادئ الدين المسيحي، ومن زعماء حركة الإصلاح "فيتوريا" وجنتيليس".
ولقد أدى اكتشاف القارة الأمريكية في هذا العصر إلى إثارة مسائل دولية
جديدة أهمها الاستعمار وحرية البحار مما أدى إلى تزايد الاهتمام بتوجيه
القانون الدولي بشأنها.
ثالثاً- ظهور القانون الدولي في العصور الحديثة:
أدى التطور الذي حدث في القوانين الخامس عشر والسادس عشر إلى انقسام أوربا
إلى فريقين، الأول ينادي بالولاء للكنيسة والثاني ينادي بالاستقلال عن
الكنيسة مما أدى إلى نشوب حرب الثلاثين عام والتي انتهت بإبرام معاهدات
وستفاليا سنة 1648، ونتج عن ذلك ظهور الدول التي تتمتع بالسيادة ولا تخضع
لسلطة أعلى منها.
ولكن يرجع الفضل في إرساء أسس القانون الدولي التقليدي إلى معاهدة وستفاليا والتي تتخلص أهم مبادئها بما يلي:
1- هيأت اجتماع الدول لأول مرة للتشاور حول حل المشاكل فيما بينها على أساس المصلحة المشتركة.
2- أكدت مبدأ المساواة بين الدول المسيحية جميعاً بغض النظر عن عقائدهم
الدينية وزوال السلطة البابوية، وثبتت بذلك فكرة سيادة الدولة وعدم وجود
رئيس أعلى يسيطر عليها وهي الفكرة التي على أساسها بني القانون الدولي
التقليدي.
3- تطبيق مبد التوازن الدولي للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، ومؤدى
هذا المبدأ أنه إذا ما خولت دولة أن تنمو وتتوسع على حساب غيرها من الدول
فإن هذه الدول تتكل لتحول دون هذا التوسع محافظة على التوازن الدولي الذي
هو أساس المحافظة على حالة السلم العام السائدة بين هذه الدول.
4- ظهور فكرة المؤتمر الأوربي الذي يتألف من مختلف الدول الأوربية والذي ينعقد لبحث مشاكلها وتنظيم شئونها.
5- نشوء نظام التمثيل الدبلوماسي الدائم محل نظام السفارات المؤقتة مما أدى إلى قيام علاقات دائمة ومنظمة بين الدول الأوربية.
6- الاتجاه نحو تدوين القواعد القانونية الدولية التي اتفقت الدول عليها في
تنظيم علاقاتها المتبادلة، فقد قامت الدول بتسجيل هذه القواعد في معاهدات
الصلح التالية مما أدى إلى تدعيم القانون الدولي وثبوتها بين الدول.
ويبقى القانون الدولي التقليدي مدين بنشأته وتطوره العلمي لدراسة الفقهاء
القدامى وأبرزهم جروسيوس أبو القانون الدولي العام حيث كان لكتاباته أثر
هام في تطور القانون الدولي ومن أهم مؤلفاته "كتاب البحر الحر".
أهم المؤتمرات التي عقدت بعد معاهدة وستفاليا:
1- مؤتمر فيينا:
أدار نابليون أن يطبق أفكار الثورة الفرنسية القائمة على المساواة
والاعتراف بحقوق الإنسان فشن حروبه على الأنظمة الديكتاتورية والملكية مما
أدى إلى زوال دول عديدة وظهور دول جديدة.
ولكن تبدل الوضع فيما بعد حيث أنهز نابليون مما أدى إلى انعقاد مؤتمر فيينا
عام 1815 لتنظيم شئون القارة الأوربية وإعادة التوازن الدولي ونتج عن هذا
المؤتمر عدة نتائج لعل أهمها إقرار بعض القواعد الدولية الجديدة والخاصة
بحرية الملاحة في الأنهار الدولية وقواعد ترتيب المبعوثين الدبلوماسيين
وتحريم الاتجار بالرقيق.
2- التحالف المقدس:
نشأ هذا التحالف بين الدول الكبرى المشتركة في مؤتمر فيينا، حيث كان الغرض
من التحالف تطبيق مبادئ الدين المسيحي في إدارة شئون الدول الداخلية
والخارجية، ولكن الهدف الحقيقي كان الحفاظ على عروش هذه الدولة الكبرى وقمع
كل ثورة ضدها، وأكد ذلك معاهدة "إكس لاشيل" سنة 1818 بين انجلترا وبروسيا
والنمسا ثم فرنسا، حيث نصت هذه الدول نفسها قيمة على شئون أوربا واتفقت على
التدخل المسلح لقمع أية حركة ثورية تهدد النظم الملكية في أوربا.
3- تصريح مونرو:
أصدر هذا التصريح الرئيس الأمريكي عام 1823 حيث تضمن أن الولايات المتحدة
الأمريكية لا تسمح لأية دولة أوربية بالتدخل في شئون القارة الأمريكية أو
احتلال أي جزء منها وذلك رداً على تدخل الدول الأوربية لمساعدة أسبانيا
لاسترداد مستعمراتها في القارة الأمريكية.
ولقد كان لهذا التصريح شأنه في إرساء مبدأ التدخل في شئون الدول الداخلية
وكان له أثره أيضاً في توجيه العلاقات الدولية بين القارتين الأمريكية
والأوربية.
4- مؤتمرات السلام بلاهاي عام 1899 و 1907:
تضمن هذه المؤتمرات قواعد فض المنازعات بالطرق السلمية، وإقرار قواعد خاصة
بقانون الحرب البرية والبحرية وقواعد الحياد، وإن كان طابع المؤتمر الأول
أوربي فإن المؤتمر الثاني 1907 غلب عليه الطابع العالمي لوجود غالبية من
دول القارة الأمريكية.
ولا شك أن لهذه المؤتمرات دور بارز في تطوير العلاقات الدولية وتطوير
القانون الدولي بما يتفق مع مصالح الجماعة الدولية، فقد اتجهت مؤتمرات
لاهاي إلى استحداث نظم ثابتة، وتم التوصل إلى أنشاء هيئات يمكن للدول
اللجوء إليها عند الحاجة لتسوية المنازعات التي قد تقع بين دولتين أو أكثر
كما امتدت جهود المؤتمر إلى إنشاء أول هيئة قضائية دولية هي محكمة التحكيم
الدولي الدائمة في لاهاي.
رابعاً- القانون الدولي في عصر التنظيم الدولي:
لم يحقق مؤتمر لاهاي السلام العالمي لتسابق الدول الكبرى لاستعمار الدول
الغنية بالثروات والمواد الأولية وذلك على إثر التقدم الصناعي مما أدى إلى
قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914 وبعد انتهاء الحرب اجتمعت الدول في
مؤتمر باريس عام 1919 الذي انتهى بقيام خمس معاهدات صلح فرضت على الدول
المنهزمة في الحرب وهي ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وتركيا.
1- عصبة الأمم:
أهم ما نتج عن مؤتمر باريس قيام عصبة الأمم كأول منظمة دولية عالمية أعطيت
حق النظر في المنازعات الدولية التي تهدد السلم، كما أنشئت هيئة قضائية
للفصل في المنازعات ذات الطابع القانوني وهي المحكوم الدائمة للعدل الدولي.
ولقد بذلت عصبة الأمم جهوداً مضنية لتدعين السلم الدولي ومن ذلك عقد
اتفاقيات دولية أهمها ميثاق جنيف عام 1928، ولكن هذه الجهود ذهبت إدراج
الريح بسبب تمسك الدول بسيادتها وعدم تقبلها لفكرة إشراف المنظمة الدولية
على شئونها وتدخلها في حل المنازعات التي تهدد السلم الدولي.
ووقفت العصبة موقف المتفرج من الحروب التي دارت بين الدول الاستعمارية
وأيضاً الحروب المحلية وقد كان ذلك من العوامل التي مهدت للحرب العالمية
الثانية التي نشبت سنة 1939 بين مجموعة الدول الفاشية والحلفاء
الديمقراطيين.
2- الأمم المتحدة:
بنهاية الحرب العالمية الثانية اجتمعت الدول من جديد في إبريل 1945 في
مدينة فرانسيسكو نتج عنه قيام منظمة الأمم المتحدة التي زودت بكافة السلطات
والوسائل التي تضمن لها أداء مهمتها على أتم وجه وبالتالي كانت أقوى من
عصبة الأمم. وقامت المنظمة بجهود مضنية في سبيل تحقيق أهدافها في السلام
والأمن الدوليين ولكن نظراً لبعض الاعتبارات السياسية لم يستطع واضعو
الميثاق الحد من مبدأ سيادة الدول الأعضاء مما نجم عنه منح الدول الخمس
الكبرى حق الفيتو ولهذا فقد تعرضت الأمم المتحدة منذ نشأتها لظروف صعبة فقد
كان عليها في ظل ميثاقها وما يحوطه من تناقض أن تعمل على الحد من
المنافسات القومية الحادة وصراع القوى الكبرى، وبالرغم من تأكيد الميثاق
على تحريم استعمال القوة في العلاقات الدولية فإن الدول الكبرى لا تزال
تستخدم القوة بل تتسابق لزيادة أسلحتها بما فيها الأسلحة النووية، ويضاف
إلى ذلك الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية ورغم مرور زمن طويل على
إنشاء المنظمة فإنها لم تحقق المرجو منها ولكن رغم ذلك وجودها ضرورياً وذلك
لتمسك الدول بالتنظيم الدولي وازدياد الإقبال عليها من دول العالم الثالث،
وقد مارست المنظمة ومازالت نشاطاً متزايداً في كافة المجالات الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والقانونية.
الباب الثالث : طبيعة قواعد القانون الدولي العام
الفصل الأول : تحديد عناصر القانون الدولي العام
إن عناصر القانون الدولي أو خصائصه ثلاثة وهي صفة القانون، والصفة الدولية والصفة العامة.
أولاً- صفة القانون:
يعتبر القانون الدولي العام قانوناً وهذا ما أكدته الوثائق الرسمية الدولية
والداخلية وينكر بعض الفقه هذه الصفة لعدم وجود السلطات الثلاثة ولافتقار
القانون الدولي لعنصر الجزاء.
هذا الكلام صحيح من الناحية الشكلية ولكنه غير دقيق من الناحية الموضوعية
حيث تعرف القاعدة القانونية بأنها "القاعدة التي تلزم مراعاتها لأنها تهدف
إلى كفالة النظام الاجتماعي" ومن خلال هذا التعريف تتميز القاعدة القانونية
بما يلي:
1- أنها تهدف إلى كفالة النظام الاجتماعي وطنياً كان أم دولياً.
2- أنها قاعدة محددة موجهة إلى أشخاص القانون بصفاتهم وليس بذواتهم، وهو ما
ينطبق على الأفراد في ظل النظام القانوني الوطني، والدول في ظل النظام
القانوني الدولي.
3- أنها قاعدة ملزمة لأنها تقررت لكفالة النظام الاجتماعي ولا يمكن أن تترك لهوى أفراده يستجيبون لها أو لا يستجيبون.
أما الجزاء فهو ليس عنصراً من عناصر القاعدة القانونية لأنه ليس شرط تكوين
بل شرط فعالية لأنه يأتي في مرحلة تالية لتكوين القاعدة القانونية ومن أجل
ضمان تطبيقها. وباستبعاد الجزاء كركن في القاعدة القانونية فإن عناصرها
تقتصر على الثلاثة السالفة الذكر وهذا يعني اتصاف القانون الدولي العام
بوصف القانون.
ثانياً- الصفة الدولية:
استمد القانون الدولي هذه الصفة من خلال تنظيمه للعلاقات بين الدول، ولكنها
لا تعكس الواقع لأن المجتمع الدولي أصبح يضم المنظمات الدولية والأفراد
أحياناً لذلك هذه الصفة قاصرة ولا تعبر عن كافة العلاقات التي اتسع ليشملها
هذا القانون.
ثالثاً- الصفة العامة:
لا تعني العمومية التي يتصف بها هذا القانون نطاق تطبيقه لأن العمومية ركن
من أركان القاعدة القانونية وليس من أوصافها، ولكنها تعني أن قواعده تحكم
العلاقات بين الدول بوصفها سلطة عامة مستقلة، وهذا ما يميز القانون الدولي
العام عن القانون الدولي الخاص الذي يحكم علاقات الأفراد المنتمين إلى دول
مختلفة باعتبار أن علاقاتهم فردية أو خاصة لا تدخل الدول طرفاً فيها.
الفصل الثاني : التمييز بين قواعد القانون الدولي وغيرها من القواعد الدولية
المقصود بقواعد القانون الدولي تلك الأحكام المستقرة في العلاقات الدولية،
والتي يترتب على مخالفتها قيام مسئولية قانونية دولية، ومن هذه القاعدة
تختلف قواعد القانون الدولي عن القواعد التي سندرسها حيث لا تثير مخالفة
الأخيرة المسئولية القانونية الدولية.
أولاً- قواعد المجاملات الدولية:
وهي القواعد غير الملزمة التي درجت الدول على إتباعها في علاقاتها الدولية
انطلاقاً من اعتبارات اللياقة والمجاملة دون أي التزام قانوني أو أخلاقي
ومخالفتها لا يرتب أي جزاء، ولكن قد تتحول قواعد المجاملات إلى قواعد
قانونية ملزمة عبر تنظيمها بمعاهدة أو من خلال تواتر العمل الدولي عيها مع
الشعور بنها ذات صفة ملزمة مثال ذلك ما حدث بالنسبة لقواعد امتيازات
وحصانات المبعوثين الدبلوماسيين، وبالعكس فقد تتحول القاعدة القانونية إلى
قاعدة من قواعد المجاملات إذا فقدت وصف الالتزام القانوني واتجهت الدول إلى
عدم التمسك بصفة الملزمة وهو ما حدث بالنسبة لمراسم استقبال السفن الحربية
في الموانئ الأجنبية التي كانت قديماً من القواعد القانونية الملزمة.
ثانياً- قواعد الأخلاق الدولية:
وهي مجموعة المبادئ والمثل العليا التي تتبعها الدول استناداً إلى معايير
الشهامة والمروءة والضمير، ويتعين على الدول مراعاتها حفاظاً على مصالحها
العامة والمشتركة رغم عدم وجود أي التزام قانوني بها، وتقع في مركز وسط بين
القاعدة القانونية الدولية وقواعد المجاملات الدولية، فهي مثل قواعد
المجاملات التي تتمتع بصفة الإلزام ولا ترتب مخالفتها أي جزاء إلا المعاملة
بالمثل وهو جزاء أخلاقي، كما أنها تقترب من قواعد القانون الدولي من أن
عدم مراعاتها يعرض الدولة لاستهجان الرأي العام العالمي كما يعرض مصالحها
للخطر. ومن أمثلة قواعد الأخلاق الدولية: استعمال الرأفة في الحرب وتقديم
المساعدات للدول التي تتعرض لكوارث، وقد تتحول هذه القواعد إلى قواعد ملزمة
إذا أحست الدول بضرورتها وتم الاتفاق عليها بموجب اتفاقية دولية أو
بتحولها القاعدة عرفية مثل تحول قواعد الأخلاق المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب
إلى قواعد قانونية بعد النص عليه في اتفاقيات جنيف عام 1949.
ثالثاً- قواعد القانون الدولي الطبيعي:
هي القواعد التي تعتبر مثالاً لما يجب أن يكون عليه المجتمع الدولي، وهي لا
تنشأ بفعل الإرادة وإنما يفرضها العقل والمنطق لتحقيق العدالة المطلقة
باعتبارها الوضع المنطقي الذي يتعين أن تكون عليه العلاقات بين أفراد
المجتمع. ووجه الخلاف بين القانون "الطبيعي" والقانون الدولي "الوضعي" أن
الأول يعتبر تعبيراً عن المثالية الدولية التي يجب أن تكون عليها علاقات
المجتمع الدولي، أما الثاني فهو تعبير عن واقع الحياة الدولية بصرف النظر
عن مدى تطابق هذه الواقعية مع اعتبارات العدالة، وقواعد القانون الدولي
الوضعي لها الأولوية لأنها تتمتع بصفة الإلزام ويترتب على مخالفتها جزاء،
في حين لا يجوز تطبيق قواعد القانون الدولي الطبيعي إلا عند الاتفاق بين
الأطراف على ذلك.
الباب الرابع : أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي
ذكرنا سابقاً أن جانب من الفقه اعترض على تمتع قواعد القانون الدولي بالصفة
القانونية لافتقارها لعصر الجزاء، وهذا الاعتراض يعبر عنه بكلمات "لا
شريعة مدونة ولا محكمة ولا قوة عمومية".
- فلا تشريع لأن العادات والاتفاقات لا تكفي لإيجاد القانون بالمعنى الحقيقي.
- ولا محكمة لأنه لي يكون للقاعدة القانونية قيمة مادية يجب أن يتم تنفيذها بحكم قضائي حيث وسيلة الإكراه الوحيدة هي الحرب.
وإذ كانت هذه الانتقادات صحيحة من الناحية النظرية فإننا قلنا سابقاً أنها
ليست دقيقة من الناحية الموضوعية والواقعية، فإذا كنا نعترف بالوصف
القانوني للقاعدة الدولية، أي توافر عنصر الإلزام فيها فما هو أساس هذا
الإلزام؟ لقد كان هناك مذهبين لتفسير ذلك سندرسهما تباعاً.
الفصل الأول : المذهب الإرادي
هو مذهب ألماني النشأة يطلق من أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة
أعلى منها وبالتالي فإن القانون الدولي ما هو إلا مجموعة القواعد التي تنسق
بين إرادات هذه الدول، فلذلك فإن الرضا المستمد من إرادة الدول الصريحة هو
أساس التزام الدول بأحكام القانون الدولي العام.
وقد انقسم أنصار المذهب الإرادي في تطبيق فكر الإرادة إلى اتجاهين:
أحدهما يستند إلى إرادة كل دولة على حدة والآخر يستند إلى إرادات الدول مجتمعة.
أولاً- نظرية الإرادة المنفردة:
ويطلق على هذه النظرية اسم "التقييد الذاتي للإرادة" أو "نظرية التحديد
الذاتي" لأن الدول لها سيادة ولا يوجد سلطة أعلى منها وبالتالي فإن الدولة
هي التي تلتزم بالقانون الدولي بإرادتها المنفردة دون أن يجبرها أحد على
ذلك، وعندما تتعارض إرادة الدولة مع القانون الدولي العام فيجب أن يزول
الأخير لأن الدولة في مركز أسمى من كل المبادئ القانونية.
نقد:
1- تنافي هذه النظرية المنطق لأن مهمة القانون وضع الحدود على الإرادات فكيف يستمد القانون صفته الملزمة من إرادة المخاطبين بأحكامه.
2- بما أن الدولة تلتزم بالقانون بإرادتها فهي تستطيع التحلل من ذلك
بإرادتها أيضاً وفي ذلك انهيار للصفة الإلزامية للقانون الدولي العام.
ثانياً- نظرية الإرادة المشتركة:
نشأ القانون الدولي العام وفقاً لهذه النظرية نتيجة توافق إرادة الدول على
ذلك وبالتالي يستمد صفته الإلزامية من إرادة جماعية مشتركة تفوق في السلطة
الإرادة الخاصة أو المنفردة للدولة.
نقد:
1- إرادة هذه النظرية التحايل بخلق سلطة أعلى من إرادة الدولة حيث يمكن أن
تجتمع إرادة الدول مرة أخرى للتحلل من إلزام القانون الدولي.
2- هذه النظرية لا تفسر لنا سبب التزام الدول التي تدخل حديثاً في الجماعة
الدولية بقواعد القانون الدولي مع أنها لم تشترك بإرادتها في خلق القانون
الدولي.
الفصل الثاني : المذهب الموضوعي
تبحث هذه المدرس عن أساس القانوني خارج دائرة الإرادة الإنسانية، فأساس
القانون وفقاً لهذا المذهب تعينه عوامل خارجة عن الإرادة ورغم اتفاق أنصار
هذه المدرسة على ذلك إلا أنهم اختلفوا حول تحديد العوامل الخارجية المنتجة
للقواعد القانونية إلى مذهبين.
أولاً- مذهب تدرج القواعد القانونية:
ويلقب بالمدرسة النمساوية، وبحسب هذا المذهب لكل نظام قانوني قاعدة أساسية
يستند إليها ويستمد منها قوته الإلزامية، فالقواعد القانونية لا يمكن
تفسيرها إلا بإسناده إلى قواعد قانونية أخرى تعلوها وهذه بدورها تستند إلى
قواعد أعلى منها وبالتالي يكون القانون على شكل هرم يقبع في قمته قاعدة
أساسية تستمد منها كافة القواعد قوتها الإلزامية وهي قاعدة قدسية الاتفاق
والوفاء بالعهد وهي أساس الالتزام بأحكام وقواعد القانون الدولي.
نقد:
1- يقوم على الخيال والافتراض لأن القاعدة الأساسية هي مفترضة لم تفصح
المدرسة النمساوية عن مصدر ولا عن قوتها الإلزامية أو سبب وجودها.
2- إذا سلمنا بوجود القاعدة الأساسية فلا بد أن تستند بدورها إلى قاعدة أعلى منها وهو ما لم يقدمه أنصار هذا المذهب.
ثانياً- مذهب الحدث الاجتماعي:
ويلقب بالمدرسة الفرنسية، وتتلخص أفكارها أن أساس كل قانون بصفة عامة
والقانون الدولي خاصة هو في الحدث الاجتماعي حيث يفرض قيود وأحكام تكتسب
وصف الإلزام نتيجة حاجة المجتمع الدولي إليها ونتيجة الشعور العام بحتميتها
من أجل المحافظة على حياة الجماعة وعلى بقائها، فالقانون تبعاً لذلك، أساس
الحياة الاجتماعي فهو ليس صادراً عن نظام وليس تعبيراً عن إرادة بل هو
نتاج اجتماعي وواقعة محددة ذاع الشعور بوجودها، ومن هنا لا يعتبر أنصار هذا
المذهب أن المشرع هو الذي يخلق القاعدة القانونية الداخلية أو الدولية، بل
يقتصر دوره على كشف القواعد القانونية التي تنشأ نتيجة التفاعلات
الاجتماعية التي تطلبها حاجات المجتمع وتطوراته والتي لم يتم تكوينها
تلقائياً دون تدخل إرادات الأفراد أو الدول.
نقـد:
1- أساسه فلسفي، حيث لا يمكن أن يكون الحدث الاجتماعي أساس القانون لأن الجماعة الإنسانية سبقت القانون في الوجود.
2- القواعد الاجتماعية تختلف عن القانونية من حيث أسبقية الأولى في الوجود
عن الثانية، ومن ثم لا يمكن أن تعد أساساً للواجبات التي تتحدد عن طريق
القواعد القانونية الوضعية.
3- لا يمكن أن يستمد إلزام القاعدة القانونية أساسه من الإحساس بلزومها
للمجتمع وإنما يرجع إلى حتمية توقيع الجزاء على من يخالف هذه القاعدة.
ومن خلال ما تقدم نرى الخلاف الكبير بين الفقهاء حول أساس القوة الإلزامية
للقانون الدولي العام، لكن الرأي الغالب كان يرجح المذهب الإرادي والذي
يقوم على رضاء الدول عامة صراحة أو ضمناً بالخضوع لأحكام القانون الدولي
العام وهذا ما أبدته المحكمة الدائمة للعدل الدولي. ولكن هذا الرأي يضعف من
الأساس الذي يقوم عليه القانون حالياً.
كما أن وجود بعض القواعد التي لم توافق عليها الدول أو تسهم في إنشائها
يجعل من الصعب الحديث عن إرادة مفترضة للدول مما يضعف الأساس الذي يستند
إليه القانون الدولي ويؤدي إلى التشكيك في وجوده ويعرضه للهدم.
وأياً كان الرأي فإن هذا الموضوع يخرج من إطار القانون الوضعي ليدخل في
دائرة البحث ضرورات الحياة وحاجاته والحاجة إلى وجود قواعد تنظم علاقات
الشعوب بين بعضها.
الباب الخامس : مصادر القانون الدولي
يطلق اصطلاح مصادر القانون بصفة عامة على مجموعة الوسائل أو الطرق التي
تتحول بها قواعد السلوك إلى قواعد قانونية ملزمة، سواء كانت تلك القواعد
عامة أم خاصة وهناك للقانون الدولي مصادر أصلية وأخرى احتياطية.
المصادر الأساسية هي:
1- المعاهدات 2- العرف 3- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحدة.
أما المصادر الاحتياطية فهي:
1- القضاء الدولي 2- الفقه
* وتعد المصادر الأصلية أقوى من المصادر الاحتياطية لأنه يرجع إليها أولاً
وحسب الترتيب السابق الذكر فإن لم نجد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق
يتم الرجوع إلى المصادر الاحتياطية.
الفصل الأول :المصادر الأصلية
أولاً- المعاهدات:
هي المصدر الأول المباشر لإنشاء القواعد القانونية الدولية، والمعاهدات هي
اتفاقات رسمية تبرمها الدول في شأن من الشئون الدولية، وينتج عنها بعض
الآثار القانونية يحددها القانون الدولي العام.
* وتنقسم المعاهدات من حيث موضوعها إلى:
معاهدات خاصة، ومعاهدات عامة، ومن حيث أطرافها إلى: معاهدات ثنائية،
وجماعية أو متعددة الأطراف، ومن حيث تكييف القانون إلى: معاهدات عقدية
ومعاهدات شارعة، ومن حيث الانضمام إليها إلى معاهدات مغلقة قاصرة على
الموقعين عليها أو معاهدات أو معاهدات مفتوحة يسمح فيها بالانضمام لغير
الموقعين عليها.
* المعاهدات الخاصة:
هي معاهدات تنظم أموراً خاصة تهم الدول المتعاهدة وأثرها لا يمتد إلى الدول
التي لم تشارك في إبرامها، وهذا النوع من المعاهدات يعد مصدراً لقواعد
القانون الدولي العام، وتعتبر مصدراً لالتزامات قانونية تسري فقط في مواجهة
أطراف التعاقد ولذلك يطلق عليها (المعاهدات العقدية) ومن أمثلتها
المعاهدات التجارية ومعاهدات الصلح.
* وإن كانت المعاهدات الخاصة: لا تعد مصدراً مباشراً لقواعد القانون الدولي
العام فهي قد تكون مصدراً مباشراً لقاعدة ما إذا ثبت التواتر على الالتزام
بقاعدة قانونية اعتادت الدول عليها في معاهداتها الخاصة بحيث تتحول إلى
عرفاً دولياً وهذا ما يندرج تحت المصدر الثاني من المصدر الأصلية.
* المعاهدات العامة:
هي اتفاقات متعددة الأطراف تبرم بين عدد من الدول لتنظم أمور تهم الدول
جميعاً وهي لهذا السبب قريبة الشبه بالتشريعات ولذلك يطلق عليها المعاهدات
الشارعة، ولكن لم ذلك يوجد فارق بين المعاهدات الشارعة والتشريع في أن
الأول ملزمة فقط لأطرافها حيث لا تصدر عن سلطة عليا تجعلها تسري في مواجهة
غيرهم من الدول، بينما التشريع يصدر عن سلطة الدولة العليا فيلزم جميع
رعايا الدولة التي أصدرته.
* المعاهدات الثنائية:
هي التي تبرم بين دولتين لتنظيم مسألة تتعلق بهما، وهذا النوع من المعاهدات
يدخل في نطاق المعاهدات الخاصة، وفي الغالب الأعم ما تكون هذه المعاهدات
مغلقة قاصرة على طرفيها ولا يسمح فيها بالانضمام لغير الموقعين عليها نظراً
لأنها تنظم مسألة خاصة لا تهم أحداً سواهما.
أما المعاهدات الجماعية فهي التي تبرم بين عدد غير محدود من الدول لتنظيم
أموراً تهم الدول جميعاً، وهذه تدخل في نطاق المعاهدات العامة أو الشارعة.
وهذا النوع من المعاهدات غالباً ما تكون مفتوحة يسمح فيها بالانضمام لغير
الموقعين عليها، وذلك لتيسير امتداد دائرة تطبيق أحكامها في الحالات التي
تدعو إلى ذلك.
كما وأنه غالباً ما ينص فيها على حق الدول الأطراف في الانسحاب من المعاهدات بإرادتها المنفردة وفق شروط وإجراءات معينة.
وهناك عدة شروط لصحة انعقاد المعاهدة من الناحيتين الشكلية والموضوعية كما
وأن دخول المعاهدة في دور التنفيذ وانقضاءها يخضعان خضوعاً تاماً لإرادة
أطرافها.
ولا تختص المعاهدات بمعالجة موضوع معين، فقد تتناول المعاهدات بالتنظيم
مسائل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تجارية، وقد تناول موضوعاً
قانونياً فتأخذ وصف المعاهدة الشارعة.
ثانياً- العرف:
وهو المصدر الثاني المباشر لقواعد القانون الدولي العام وهو الهم لأنه
غالباً ما تكون المعاهدات تعبيراً عما استقر عليه العرف قبل إبرام
المعاهدة.
ويمكن تعريف العرف الدولي بأنه مجموعة أحكام قانونية عامة غير مدونة تنشأ
نتيجة اتباع الدول لها في علاقة معينة، فيثبت الاعتقاد لدى غالبية الدول
المتحضرة بقوتها القانونية وأنها أصبحت مقبولة من المجتمع الدولي.
* ويتكون العرف الدولي بنفس الطريقة: التي يتكون بها العرف الداخلي، وذلك
بتكرار التصرفات المماثلة من دول مختلفة في أمر من الأمور ويقصد بالتكرار
هنا ذلك التكرار الغير مقترن بعدول حيث يؤكد تثبيت القاعدة العرفية
واستقرار أحكامها، ويرجع ذلك لقلة عدد أشخاص القانون الدولي بالمقارنة بعدد
أشخاص القانون الداخلي.
ومن ثم فإن العلاقات التي تقوم بينهم تتميز عن علاقات الأفراد بأن فرص التكرار تكون بالضرورة أقل منها في القانون الداخلي.
ويتضح مما سبق أن الأحكام العرفية تقوم على السوابق الدولية، التي يمكن أن
تكون تصرفات دولية وقد تكون غير دولية كتكرار النص على قاعدة معينة في
التشريعات الداخلية للدول المختلفة يستفاد منها انصراف نية الدولة إلى
تطبيق قاعدة دولية وقد تنشأ السوابق الدولية أيضاً نتيجة لقرارات وتصرفات
تصدر عن المنظمات الدولية، عالمية أو إقليمية.
* ويكفي أن تصبح القاعدة العرفية مستقرة بين الغالبية العظمى من الدول لكي
تكون ملزمة لكافة الدول القائمة فعلاً والدول الجديدة التي تنشأ مستقبلاً،
فوجود الدولة كعضو في المجتمع الدولي أو قبولها كعضو جديد به يعني موافقتها
على القواعد التي تواتر عليها استعمال غالبية الأعضاء المكونين لهذا
المجتمع الدولي.
* أركان العرف:
1- الركن المادي:
هو تكرار تصرف إيجابي أو سلبي معين لفترة زمنية طويلة وذلك على سبيل
التبادل بين الدول ويجب أن يتخذ تكرار التصرف صفة العمومية بحيث تمارسه
الدول في كافة الحالات المماثلة الحالية والمستقبلية، ولا يشترط إجماع كل
الدول مقدماً لثبوت القاعدة العرفية بل يكفي أغلبية الدول.
ويقسم الفقه العرف إلى قسمين: عرف عام وهو مجموعة الأحكام التي تتبعها
أغلبية الدول في تصرفاتها في مناسبات معينة وهو ما يطلق عليه العرف الدولي،
وعرف خاص حيث يتضمن مجموعة الحكام التي تنشأ نتيجة تكرار التصرف بين
دولتين أو مجموعة من الدول تقع في منطقة جغرافية واحدة أو تصل بينهما روابط
مشتركة أو التي تضمها هيئات إقليمية وهو ما يطلق عليه (العرف الإقليمي).
2- الركن المعنوي:
لا يكفي الركن المادي أي تكرار التصرف لقيام العرف بل لابد من وجود ركن
معنوي يقوم على الاعتقاد بأن السير وفقاً لما جرت العادة عليه ملزم قانوناً
بل هناك أولوية للعنصر المعنوي على المادي، وبالتالي لا يعتد بتكرار الدول
التصرفات معينة دون توافر هذا الاعتقاد.
* والعنصر المعنوي هو الذي يميز الحكم المستمد من العرف عن غيره من الأحكام
الأخرى غير الملزمة كالعادة الدولية والمجاملات الدولية أو الأخلاق
الدولية، لذلك هناك بعض الدول ولكي لا تصبح تصرفاته المتكررة عرفاً تعلن عن
عدم التزامها القانوني بهذه التصرفات.
وإن التحقق من الركن المعنوي أصعب من التحقق من الركن المادي لأن التحقق من
الركن المعنوي يتطلب ثبوت ورسوخ الاعتقاد به مما يجعل مهمة القضاء والفقه
الدوليين شاقة.
ويمكن أن تفقد القاعدة العرفية صفتها هذه عندما تتغاضى الدول عن السير
عليها لمدة طويلة أو تتواتر على استعمال قاعدة جديدة خالف القاعدة القديمة
وتحل محلها.
* مزايا العرف:
قواعده مرنة قابلة للتطور لتوائم حاجات المجتمع.
* عيوب العرف:
أ- قواعده غامضة غير واضحة مما يرتب مشاكل في التطبيق.
ب- يحتاج استقرار قواعد العرف إلى وقت طويل جداً، ويخفف من هذا العيب تدوين
العرف لأن التدوين يحدد القواعد المختلف عليها عن طريق اتفاقيات تكون
ملزمة للدول، ولكن نظراً لافتقاد سلطة عليا في المجال تضطلع بمهمة التدوين
فقد تركت هذه العملية بصفة عامة لنشاط فقهاء القانون الدولي والهيئات
العلمية والمنظمات الدولية.
ثالثاً- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحضرة:
هي مجموعة المبادئ الأساسية التي تعترف بها وتقرها النظم القانونية
الداخلية في مختلف المدن المتمدنة، حيث لا يقتصر تطبيقها على الأفراد في
إطار القانون الداخلي بل يمتد على العلاقات الدولية مما يجعل القاضي الدولي
ملزم بالرجوع عليها إذا لم تتوافر معاهدة أو عرف دولي وبما أن هذه المبادئ
تختلف من دولة لأخرى نظراً لاختلاف الدين أو التكلفة أو العادات فإن تشكيل
المحكمة الدولية يجب أن يضم قضاة يمثلون المدنيات الكبرى والنظم الرئيسية
في العالم.
* وتطبيق هذه المبادئ على المستوى الدولي تحتمه الضرورة حيث تفتقد وجود
قاعدة قانونية دولية منصوص عليها في المعاهدات أو يقضي بها العرف الدولي
وهي لذلك لا تلجأ إليها إلا في مناسبات خاصة وفي أضيق الحدود.
ومن أمثلة هذه المبادئ التزام كل من تسبب بفعله في إحداث ضرر للغير بإصلاح هذا الضرر (المسئولية التقصيرية).
الفصل الثاني : المصادر الاحتياطية
أولاً- القضاء الدولي:
وهو مصدراً احتياطياً يتم الرجوع إليها عند عدم وجود مصادر أصلية وهو
مجموعة المبادئ القانونية التي تستخلص من أحكام المحاكم الدولية والوطنية
وأثر حكم القاضي يقتصر على أطراف النزاع ولكن مع ذلك يمكن للقاضي الدولي
الرجوع إليه للاستدلال على ما هو قائم ويطبق لتقرير وجود قاعدة قانونية لم
ينص عليها في معاهدة أو عرف، فهذه الأحكام ليست لها حجة أمام المحاكم
الدولية وإنما هي وسيلة من الوسائل التي تساعد القاضي في إثبات قاعدة عرفية
ما.
* ولأحكام المحاكم دور كبير في نطاق العلاقات الدولية، فمجموعة الأحكام
التي يصدرها القضاء الدولي قد تسهم في تكوين قواعد قانونية دولية، فضلاً عن
دورها كعنصر من عناصر تكوين واستنباط العرف الدولي.
ثانياً- الفقـه:
هو مذاهب كبار المؤلفين في القانون الدولي العام في مختلف الأمم، وهو لا يخلق قواعد قانونية دولية بل يساعد على التعرف عليها.
ولقد كان لمذاهب الفقهاء دور كبير في الماضي إلا أن هذا الدور قد انكمش
كثيراً في الوقت الحالي وذلك بسبب تدوين كثير من أحكام القانون الدولي
واستقرارها ويجب النظر إلى مذاهب الفقهاء في الوقت الحالي بقدر من الحيطة
والحذر نظراً لاختلاف المذاهب واحتمال تغلب النزعات الفردية أو الوطنية أو
السياسية على هذه الآراء.
الباب السادس : العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي
الفصل الأول : مذهب ثنائية القانون
يعتبر هذا المذهب امتداد للنظريات الوضعية الإرادية، حيث يرى أنصاره أن
القانون الدولي العام والقانون الداخلي نظامان كل منهما مستقل عن الآخر
استناداً إلى الاعتبارات التالية:
أولاً- اختلاف مصادر كل من القانونين:
القانون الداخلي ينشأ بإرادة الدولة حيث توجد سلطة عليا تفرضه على الأفراد
وعلى المخاطبين به الالتزام به والإذعان لأحكامه، في حين أن القانون الدولي
ينشأ عن طريق الاتفاق بين الدول عبر المعاهدات أو عن طريق العرف الدولي
وبالتالي لا يكون صادر عن سلطة عليا.
ثانياً- اختلاف موضوعات كل من القانونين:
القانون الداخلي ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين
سلطات الدولة في حين ينظم القانون الدولي علاقات الدول المستقلة ذات
السيادة فيما بينها.
ثالثاً- اختلاف المخاطبين في كل من القانونين:
فالقانون الوطني يخاطب الأفراد أو السلطات المختلفة القائمة داخل الدولة،
في حين يخاطب القانون الدولي المستقلة ذات السيادة سواء كانت دولاً بسيطة
أو مركبة.
رابعاً- اختلاف البناء القانوني لكل من القانونين:
توجد في البناء القانوني الوطني سلطات غير موجودة في المجتمع الدولي وهي
السلطة التشريعية التي تسن القوانين والسلطة القضائية التي تطبق القانون
والسلطة التنفيذية التي تقوم بتنفيذ الحكام التي يصدرها القضاء.
النتائج المترتبة على مذهب ثنائية القانون:
أولاً- استقلال قواعد القانون الداخلي عن القواعد القانون الدولي:
تنشئ الدولة القانون الداخلي بإرادتها المستقلة، بينما تنشئ القانون الدولي
باتفاقها مع غيرها من الدول، ويجب على الدول أن تراعي عدم التعارض بين
القوانين التي تسنها مع ما التزمت به دولياً وإذ حدث ذلك فالقانون يكون
صحيح داخلياً ولكي تثور مسئولية الدولة على الصعيد الدولي.
ثانياً- عدم نفاذ قواعد كل من القوانين في دائرة اختصاص الآخر:
فالقواعد القانونية الدولية لا يمكن أن تكتسب وصف الإلزام في دائرة اختصاص
القانون الداخلي إلا إذا تحولت إلى قواعد قانونية داخلية بإتباع الإجراءات
الشكلية المتبعة في إصدار القوانين الداخلية، وكذلك لا يمكن أن تكتسب
القواعد الداخلية وصف الإلزام في المجال الدولي إلا إذا تجولت على قواعد
دولية وفقاً للإجراءات الشكلية المتبعة في إصدار القواعد القانونية
الدولية.
ثالثاً- عدم اختصاص المحاكم الوطنية بتطبيق القانون الدولي:
لا تمتلك المحاكم الوطنية تطبيق القانون الدولي أو تفسيره إلا إذا تحولت
إلى قوانين داخلية وبالمقابل لا يملك القضاء الدولي تطبيق القوانين الوطنية
أو تفسيرها إلا إذا تحولت إلى قواعد قانونية دولية.
رابعاً- استحالة نشء تنازع أو تعارض بين أحكام القانونين:
وهذه النتيجة مترتبة على أنه لكل منهما دائرة تطبيقية وليس لأي منهما سلطان أو اختصاص في دائرة الآخر.
ولكن يقرر أنصار هذا المذهب إمكانية وجود علاقة بين القانونين عن طريق الإحالة أو الاستقبال.
أولاً- الإحالة:
ومعناها أن يحيل القانون الدولي للحصول على القواعد التي تنظم مسألة معينة
ومثال ذلك أن يقرر القانون الداخلي الحصانة الدبلوماسية فيرجع إلى القانون
الدولي ليتعرف على من يصدق عليه وصف الدبلوماسي.
وبالمقابل قد يحيل القانون الدولي على القانون الداخلي للحصول على القواعد
التي تنظم مسألة معينة، كأن يقرر القانون الدولي واجبات الدول تجاه
الأجانب، ويترك للقانون الوطني تحديد من يصدق عليه وصف الأجنبي في نطاق
إقليم الدولة.
ثانياً:الاستقبال:
ومعناه أن يستقبل القانون الداخلي قواعد القانون الدولي ويدمجها فيه بموجب
نص في دستور الدولة يقرر اعتبار القانون الدولي جزءاً لا يتجزأ من القانون
الوطني، وفي هذه الحالة يمكن للقاضي الوطني أن يطبق قاعدة قانونية دولية في
نزاع ما يطرح أمامه.
وبالمقابل فقد يدمج القانون الدولي قواعد القانون الداخلي في مبادئه فتصبح قواعد دولية.
الفصل الثاني : مذهب وحدة القانون
هذا المذهب متفرع عن المدرسة النمساوية، حيث يقرر إمكانية التعارض بين
القانونين لأن النظام القانوني يشمل كلا القانونين حيث يشكل هذا النظام
القانوني بجميع فروعه كتلة قانونية واحدة لا تقبل التجزئة، وترتبط قواعد
هذه الفروع ببعضها برباط التبعية حيث لا يمكن تفسير قاعدة من قواعده إلا
بالرجوع إلى القواعد الأخرى حتى نصل في النهاية إلى القاعدة الأساسية في
هذا الفرع كله، وهذه بدورها لا يمكن تفسيرها إلا بالرجوع إل قاعدة أخرى في
فرع آخر من فروع القانون، وهكذا نصل إلى القاعدة الأساسية التي تعد أساس
القانون كله. ولكن الخلاف بين أنصار هذا المذهب كان حول القانون الذي له
السيادة حيث نشأ مذهبين:
أولاً- مذهب سيادة القانون الوطني:
يرى أنصار هذا المذهب أن الصدارة لقواعد القانون الداخلي فالقاعدة الأساسية
العامة التي تعد أساس القانون كله مثبتة في القانون الوطني وتحديداً في
دستور الدولة، فالدولة تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة أعلى منها، لذلك فإن
القانون الداخلي وحده أساس الالتزام بأي قاعدة قانونية دولية كانت أم
داخلية، وهو القانون المختص ببيان الشروط والواجبات التي يجب على الدولة
استيفاؤها عند عقد الاتفاقيات الدولية ويترتب على ذلك أن ترتبط به سائر
فروع القانون الدولي العام برباط التبعية، وتكون الأولوية للدستور على
المعاهدات الدولية.
ثانياً- مذهب سيادة القانون الدولي:
يرى أنصار هذا المذهب سيادة القانون الدولي لأن القاعدة الأساسية للنظام
العام كله يحويها القانون الدولي والذي يفوض الدولة بإصدار القوانين
الداخلية، ومن جهة أخرى القانون الدولي يبين الجماعات التي تتمتع بوصف
الدولة، ويرى أنصار هذا المذهب أن مذهب سيادة القانون الوطني يهدم القانون
الدولي ويجعله عديم القيمة، ويؤدي إلى نهرب الدولة من التزاماتها الدولية
بحجة معارضتها القانون الداخلي، وبالتالي يقرر أنصار هذا المذهب أولوية
المعاهدات الدولية والالتزامات الدولية على القانون الداخلي في حال
التعارض.
وأخيراً تنص كثيراً من الدساتير على سيادة القانون الدولي وهذا ما أكدته
أحكام المحاكم الدولية وآرائها مثل محكمة الدائمة للعدل الدولي ومحكمة
العدل الدولية ويتضح من ذلك أن سيادة القانون الدولي العام هو المذهب
الغالب الذي يؤيده الفقه الدولي الحديث والقضاء الدولي.
الباب السابع : تدوين القانون الدولي العام
التدوين هو تحويل القواعد العرفية غير المكتوبة إلى قواعد مدونة في شكل
مواثيق واتفاقات دون المساس بمضمونها، ويعني من جهة أخرى تبني القاعدة
القانونية الدولية عن طريق المعاهدات الجماعية بين الدول في إطار موضوعات
قانونية دولية معينة.
وسبب التدوين هو عدم وضوح القواعد القانونية الدولية وتعددها مع التطور البطيء الذي صاحب تكوين هذا القواعد.
وقد ظهرت حركة التدوين في القرن الثامن عشر على يد الفيلسوف الإنجليزي
بنتام الذي كان أول من اقترح تدوين القانون الدولي، ولكن النقلة النوعية
كانت عام 1899 حيث عقد مؤتمر لاهاي الذي نجم عنه وثيقتين دوليتين من أهم
الوثائق التي يمكن اعتبارها بمثابة تقنينات للقواعد القانونية الدولية
وكانت الوثيقة الأولى لحل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية وترجع
أهميتها إلى أنها أنشأت محكمة التحكيم الدائمة التي فصلت في كثير من
المنازعات آنذاك، أما الوثيقة الثانية فكانت تتعلق بقوانين وعادات الحرب
البرية ثم عقد مؤتمر لاهاي الثاني عام 1907 ونجم عنه اتفاقية تنظم فض
المنازعات الدولي بالطرق السلمية وقواعد الحرب البرية والبحرية وأحكام
الحياد.
ثم تلاها عدة اتفاقيات أهمها اتفاقيات جنييف لعام 1949 والتي استحدثت قواعد
خاصة بحماية الأسرى والمرضى والجرحى والسكان المدنيين أثناء الحرب.
لكن كل ذلك لا يغني عن تقنين عام وشامل لقواعد القانون الدولي، فهي قواعد
لا تلزم إلا الدول الموقعة على هذه الاتفاقيات دون غيرها، كما أنها لم
تتضمن كافة المسائل الحيوية الأخرى التي تهم الجماعة الدولية.
لذلك بنهاية الحرب العالمية الأولى وإنشاء عصبة الأمم بدأت حركة التدوين
تأخذ شكلاً أكثر تنظيماً تحت إشراف العصبة حيث شكلت لجنة الخبراء وبدأت
أعمالها عام 1925 واختارت ستة موضوعات تم تحضيرها باعتبار أنها أنسب
الموضوعات وأكثرها قابلية للتقنين. وهي: الجنسية، والبحر الإقليمي،
ومسئولية الدولة عن الأضرار التي تلحق بأشخاص وأموال الجانب في إقليمها،
واستثمار ثروات البحار والقرصنة، والحصانات والامتيازات الدبلوماسية، ويعرض
هذه الموضوعات على الجمعية العامة للعصبة وافقت على البدء في تقنين
الموضوعات الثلاثة الأولى.
وبعد إنشاء الأمم المتحدة اهتمت الأخيرة بتدوين القانون الدولي ومواصلة
الجهود في ميدان التقنين، حيث تم إنشاء هيئة خاصة دائمة في ظل هيئة الأمم
المتحدة عرفت باسم "لجنة القانون الدولي" وصل عدد أعضائها إلى خمسة وعشرين
عضواً، وقد بدأت لجنة القانون الدولي عملها سنة 1949 وتناولت بالبحث بناءً
على طلب الجمعية العامة المسائل التالية:
إجراءات التحكيم – الجنسية – نظام البحار – العلاقات والحصانات الدبلوماسية
والقنصلية – المعاهدات. ولقد حققت اللجنة كثيراً من الإنجازات في تلك
المجالات وغيره