محاولة لفهم تأخر برنامجنا النووي
<hr style="color: rgb(255, 255, 255);" size="1">
ربما تكون هذه سباحة ضد التيار, ولكن لا بأس, فالحق أحق أن يتبع.
السائد لدي الرأي العام, بترويج من كثيرين أن الضغوط الخارجية, لاسيما
الأمريكية ـ إذا أردنا الصراحة ـ هي السبب وراء إحجام مصر أكثر من مرة عن
إطلاق برنامج نووي سلمي, وبقليل من الجهد يتبين أن هذا التفسير غير
مستساغ, أو غير كاف كتفسير وحيد, أو حتي كتفسير رئيسي. بما أن مصر
سبق ورفضت الضغوط الصريحة والعلنية من جانب الولايات المتحدة, وحلفائها
الأوروبيين المؤثرين في قضايا لا تقل عن قضية البرنامج النووي أهمية,
وحساسية.
من هذه القضايا رفض مصر حتي الآن, وإلي أجل غير مسمي الانضمام إلي
معاهدة حظر انتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيماوية, والمعلوم للجميع
بالضرورة أن هذا الرفض ليس معناه الأوتوماتيكي أن مصر تخطط لإنتاج وحيازة
واستخدام هذه الأسلحة, ولكن يهدف إلي استبقاء ورقة مهمة للتفاوض علي ضم
إسرائيل إلي معاهدة منع حظر الانتشار النووي, إن لم يكن في هذا الجيل,
فمن أجل الأجيال المقبلة, وكلنا نتذكر أنه علي رغم العلاقات الشخصية
والرسمية الوثيقة بين الرئيس حسني مبارك وبين الرئيس الأمريكي جورج بوش
الأب فإن الرئيس مبارك رفض كل محاولات الرئيس الأمريكي وقتها للانضمام
للاتفاقية, أو لحضور مؤتمر باريس الذي أطلق تلك الاتفاقية, بل إن
الرئيس مبارك كرر الرفض وبنفس الدرجة من الإصرار عندما اتفق الأمريكيون
والأوروبيون علي انتداب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لإقناع الرئيس
المصري اعتمادا علي الصداقة الشخصية بين الرئيسين, وباعتبار أن فرنسا
كانت هي الدولة المضيفة للمؤتمر.
القضية الثانية كانت هي تكالب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي علي
مصر لإسقاط تحفظاتها علي المد اللانهائي لمعاهدة حظر الانتشار النووي قبل
انضمام إسرائيل إليها, وقد دارت في تلك الآونة معركة علنية ومفتوحة بين
الدبلوماسية المصرية والدبلوماسية الأمريكية حول هذه القضية خارج وداخل
المؤتمر الدولي, ونجحت الدبلوماسية المصرية في الحصول علي قرار دولي
ملزم ملحق باتفاقية التصديق علي المد اللانهائي لمعاهدة حظر الانتشار
النووي, وهو القرار المعروف باسم قرار الشرق الأوسط, والذي ينص علي
التزام المجتمع الدولي بإخلاء منطقة الشرق الأوسط برمتها من أسلحة الدمار
الشامل, والذي ينص أيضا علي مراجعة التقدم نحو تحقيق هذا الهدف كل خمس
سنوات, أي في كل مرة ينعقد فيها مؤتمر مراجعة الالتزام بالاتفاقية
الأصلية.
وإذا كانت الولايات المتحدة تحاول منذ بعض الوقت التنصل من هذا
الالتزام, وإذا كان يخشي أن تلحق بها أوروبا بعدما حدث مؤخرا في مؤتمر
الوكالة الدولية للطاقة النووية, فهذا موضوع آخر, ولا ينفي الدلالة
التي استخلصناها في سياق هذا الحديث, وهو أن مصر كانت قادرة علي أن
تتصرف علنا عكس ما تريد الولايات المتحدة, حتي وإن تطلب الأمر الدخول في
مواجهة دبلوماسية معها ومع آخرين, ولن نتحدث هنا عن قضايا أخري اختلفت
فيها مصر مع السياسة الأمريكية بداية من الغزو الاسرائيلي للبنان,
وانتهاء بالغزو الأمريكي للعراق.
إذن كيف يمكن فهم أسباب التأخر في إطلاق البرنامج النووي المصري حتي المبادرة التاريخية للرئيس مبارك في الاسبوع الماضي؟
بكل تواضع, ودون ادعاء بمعرفة بواطن الأمور, علينا أن نتذكر أن عقد
الثمانينيات في القرن الماضي, انقضي في البحث عن أفضل الصيغ للاصلاح
الاقتصادي, وفي تحويل الانفتاح من منهج الاستهلاك إلي منهج الانتاج,
والأهم أنه انقضي في معالجة مشكلة المديونية المصرية الكبيرة للخارج,
والتي كانت توشك أن تقودنا إلي إشهار الافلاس في نادي باريس, وكما نعلم
فإن قدرا كبيرا من الجهد والطاقة والموارد السياسية استخدم بنجاح في اسقاط
أغلب الديون المصرية, وخاصة الديون العسكرية للولايات المتحدة
الأمريكية.
وهنا لعبت حادثة تشر نوبيل دورا كعامل تخوف من مخاطر التسرب النووي,
جنبا إلي جنب مع توجه عالمي آنذاك ضد الطاقة النووية لأسباب بيئية. صحيح
أن عقد التسعينيات, وخاصة عند منتصفه كان يبدو مناسبا من الناحية
الاقتصادية البحتة لاطلاق البرنامج النووي الذي كان قد طال انتظاره,
ولكن يبدو أن الحسابات اتجهت نحو مشروعات أخري علي أمل أن يكون عائدها
أسرع, بما يمهد لاطلاق البرنامج النووي في ظروف أفضل, ولكن جاءت أزمة
الركود الاقتصادي التي بدأت في شرق آسيا في الأعوام الثلاثة الأخيرة من
ذلك العقد, لتصيب الاقتصاد العالمي كله بالركود حتي خمس سنوات خلت,
ودخل الاقتصاد المصري في تلك السنوات كما نعلم دورة من الركود, وأزمة
سيولة, وأزمة سعر صرف, وكذلك أزمة عدم ثقة في المستقبل.
هل يعني ذلك أنه لا توجد أسباب خارجية بالمطلق لتأخر البرنامج النووي المصري؟
إذا كانت هناك أسباب خارجية, فالأدق أن تسمي عدم الاستعداد الكافي
للتعاون من جانب الأطراف الدولية التي يلزم تعاونها معنا في هذا
الميدان, ولا جدال في أن كل دولة تنتمي للعالم الثالث تحتاج إلي تعاون
دولة متقدمة واحدة علي الأقل معها في اقامة برنامج نووي سلمي أو عسكري,
حدث ذلك مع الهند التي بدأت برنامجها النووي بتحريض مبكر من الولايات
المتحدة لموازنة, الصين, وحدث ذلك مع باكستان التي استندت علي المعونة
الصينية, لمحاصرة الهند, كما استندت علي غض الطرف من جانب الولايات
المتحدة, أما إيران فقد اعتمدت في عهد الشاه علي الغرب, وفي عهد
الجمهورية الاسلامية علي الشرق الروسي والصيني.
ومن المؤكد أن هذا الخيار الشرقي كان متاحا طيلة الوقت لمصر, ولكن يبدو
أن تكلفته السياسية علي كل الأطراف ـ وليس علي مصر وحدها ـ كانت تفوق
التكلفة السياسية للانتظار حتي تنضج كل الظروف, وهنا تبدو المقارنة مع
إيران موضحة للمعني الذي نريده, ذلك أن القيادة الإيرانية لم يكن لديها
ما تخسره في علاقاتها الدولية مع الغرب, والولايات المتحدة علي وجه
الخصوص بالاتجاه شرقا, لأن الخسارة الإيرانية للعلاقة مع الأمريكيين
حدثت قبل ذلك بزمن طويل, ومنذ قيام الثورة الاسلامية, والتكلفة
السياسية التي نتحدث عنها هنا تتعلق بالدور الأمريكي الحيوي المراد توظيفه
لاستكمال عملية السلام, وإقرار مباديء الأمن الجماعي في المنطقة ككل,
بغض النظر عن مقاومة إسرائيل وأنصارها للجهود العربية لتوظيف ذلك الدور
الأمريكي, وبمنطق الأمور فإن دفع السياسة الأمريكية في هذا الاتجاه
البناء يتطلب دائما وأولا توظيف الدور الأوروبي في الضغوط علي واشنطن,
ومن ثم لم يكن الاتجاه شرقا هو الأفضل لمصر وأمنها القومي, وكذلك
لاستراتيجية السلام العربية ككل.. وفي نهاية المطاف فهذه الحسابات
شيء, حتي إذا كانت مرفوضة من جانب البعض, وادعاء الرضوخ للضغوط شيء
آخر.