· الوحدانية .. في الفكر الإسلامي .. وبعد هذا التقديم .. نعود مرة أخرى إلى الفكر الصوفي الذي يقول بأن الدين هو الدين المؤسس على الاعتقاد الواحد الجامع لمختلف المعتقدات ..!!! فمن خلال الدراسات السابقة نجد أن هذا الفكر يعتمد أساسا على :فطرية وجود الخالق المطلق ( الله ـ سبحانه وتعالى ) في النفس البشرية ( فحسب )
( أنظر الجزء
الأول من هذا البحث / نظرية الإحلال ) . وفي الحقيقة ؛ أن هذا الفكر يجعل
من : " قضية الشرك بالله " ( سبحانه وتعالى ) قضية مقبولة ولا خلاف عليها
.. حيث يتمحور الدين ـ من هذا المنظور ـ حول الاعتقاد في وجود إله خالق
فحسب له ظهورات متباية .. وصور شتى تتوقف على طبيعة الديانة .. وكيفية
نشأتها وتشكيلها ..!!! فعلى سبيل المثال ؛ نجد أن ظهور الإله في الديانة
المسيحية يأتي على الصورة الوثنية التالية ..[ (5) ... خروف قائم كأنه مذبوح له سبعة قرون وسبعُ أعين هى سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض ] ( الكتاب المقدس : رؤيا يوحنا اللاهوتي {5} : 6 )
وهكذا بالنسبة لباقي صور الإله في الديانات الأخرى ..!!!أنظر دراسة الكاتب السابقة والتي تأتي تحت عنوان : " الخروف .. أو الإله في الديانة المسيحية ".. لرؤية برهان الكنيسة الذي يقطع على صحة وحقيقة هذه الصورة ..أي صورة الخروف ذو القرون السبعة ..!!! ومن الأمور
البديهية أيضا ؛ أن الاعتقاد في الدين بأنه : الدين المؤسس على الاعتقاد
الواحد الجامع لمختلف المعتقدات ، يجعل من القضية الدينية " قضية نسبية "
وليست " قضية مطلقة " على النحو السابق ذكره .. وبهذا يقر هذا الفكر بصحة
جميع الأديان ..!!! ويمثل هذا الفكر الخلط الواضح بين المعاني الفطرية التالية :
- الفطرة الخاصة بإدراك وجود الإله الخالق ( الله ـسبحانه وتعالى ). وتعتبر هذه الفطرة أساس الفكر الصوفي الذي ينادي بدين ـ واحد ـ جامع لمختلف الديانات ..!!!
- الفطرة الخاصة بالتدين .. وتشمل الاعتقاد في دين ما .. كما تشمل ـ هذه الفطرة أيضا ـ دوافع ممارسة العبادة بطقوس ما .
- إغفال وجود غايات للخالق المطلق ( الله ـ سبحانه وتعالى ) من خلق الإنسان .. وحتمية تحقيق الإنسان لهذه الغايات .
- عدم وجود المقياس الدقيق ـ المطلق ـ الذي يمكن أن يستخدمه الإنسان للحكم على صحة الديانة ، وتحديد الصواب من الخطأ .
- إغفال العقل في الحكم على صحة المضامين أو النصوص الدينية التي تقود إلى الإيمان غير العاقل .
ومثل هذا الخلط ـ الواضح ـ يؤدي إلى استمرار تدين الأفراد بالديانات الوثنية والخرافية .. والتي تعتمد ـ أساسا ـ على : الآلية
الفطرية الخاصة بإدراك وجود الحضرة الإلهية في النفس البشرية ، وفطرة
التديّن التي تمثل الرغبة في الاعتقاد في دين ما .. وممارسة العبادة بأي
صورة من الصور ، على الرغم من وجود المضامين الدينية التي تجعل من الدين ـ
المعني بالدراسة ـ أسطورة وخرافة كبرى .. لا تتفق مع أدنى معطيات العقل
والمنطق الحديث . كما تقيم هذه الآلية
الفطرية حاجزا ضخما يحول دون تقييم المضامين الدينية أو النص الديني الذي
يقود إلى الاعتقاد العاقل في مثل هذه الأديان ..!!! وسوف نرى ـ في هذا البحث ـ أن مثل هذا الفكر يقود مباشرة إلى قضية الشرك بالله
من أوسع الأبواب .. وهو ما يؤدي إلى كفر الفرد وعدم تحقيقه للغايات من
خلقه ( الإيمان المبني على العقل ) .. وبالتالي خسران الفرد لوجوده ومصيره
على نحو نهائي وأبدي . وكما سبق وأن بينت أن هذه الأمور ليست مجرد قضايا اعتقادية لا برهان لها .. بل هي قضايا علمية محسومة الفكر والبرهان .· القرآن المجيد : الحوار الخالد بين الخالق والمخلوق .. قبل الاسترسال في مناقشة وعرض حجج هذا البحث .. جاءتني رسالة تقول : " بأنه لا يجوز الاستشهاد بآيات القرآن المجيد عند مواجة الفكر الآخر .. الذي لا يدين بالإسلام لأنه لا يؤمن بهذا الكتاب " . وفي الحقيقة ؛ مثل هذا الفكر هو فكر قاصر للغاية لأنه ـ ببساطة شديدة ـ يسقط دور الرسل .. كما يسقط حجج الموْلى ( عز وجل ) في هداية البشرية ..!!! فالخطاب القرآني هو خطاب علمي معاصر بكل ما في الكلمة من معنى ( أنظر دراسة الكاتب : " المنهاج العلمي في القرآن المجيد .. القانون الفيزيائي والمُسَلَّمَة العلمية بين الصياغة البشرية والصياغة الإلهية " ) . فهو خطاب يقدم
القضايا الإيمانية ـ والاعتقاد في الدين الحق ـ بنفس أسلوب النظريات
العلمية المعاصرة .. وبأسلوبها الرياضي المستخدم في النظريات الكبرى ..
كما يستخدم أقصى درجات المنطق .. والحجة البالغة في عرض جميع قضاياه ..
كما جاء في قوله تعالى ..) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) (
( القرآن المجيد : الأنعام {3} : 149 )
ولكنها غايات من الخلق .. وهي الغايات التي تتمحور حول قدرة العقل للوصول إلى المعرفة الحقة وإدراك وجود الله .. سبحانه وتعالى .. فالقرآن المجيد
.. هو خطاب موجه ـ أساسا ـ لكل من لا يدين بالإسلام .. إلى جانب أنه خطاب
موجه لكل من يدين بالإسلام أيضا .. أي هو خطاب موجه لكل البشرية بجميع
ألوانها وأطيافها .. لعرض أهداف الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ من خلقه للإنسان
.. ومن خلقه لهذا الوجود .. حيث تتمحور هذه الأهداف حول الآتي بعد :
- تعريف الإنسان بالخالق المطلق وبكمالاته ـ أي صفاته ـ المطلقة وبفعله المحيط .
- تعريف الإنسان بدور الأنبياء والرسل في حياة البشرية .
- تعريف الإنسان بمعنى الدين ، ومعنى دور الدين في حياة الإنسان .
- تعريف
الإنسان بكينونته وطبيعة خلقه .. أي : لماذا خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ
الإنسان على هذا النحو ؟ ويشمل هذا الجانب النفسي .. كما يشمل الوعي
بالوجود .
- تعريف الإنسان بالغايات من خلقه .. ولماذا خلق الموت والحياة ؟
- تعريف الإنسان بحدود وسقف المعرفة البشرية . ولماذا وجد الإنسان على سطح الأرض ؟
- تعريف الإنسان بالكون المادي ( الكون المفتوح على المستوى الميكرو والماكرو ) .. وكذا تعريفه بالأكوان المتطابقة ؟
- تعريف الإنسان بالحياة الآخرة ( الأبدية ) والبعث والحساب .. والجزاء من نفس العمل .. إن خيرا فخير .. وإن شرا فشر .
- تعريف
الإنسان بحتمية تحقيقه للغايات من خلقه ( أي تحقيق الإنسان للغايات التي
خلق من أجلها ) حتى ينال الخلاص المأمول والسعادة الأبدية المنشودة .
أسئلة يسعى
الإنسان جاهدا ـ بالفطرة ـ بالبحث عن إجابات لها .. بل ويمكن القول ـ بدون
أدنى مبالغة ـ أن بحوث البشرية بأسرها في علوم الكونيات .. وفي الطبيعة ..
وفي الفيزياء .. وفي الأحياء .. تتمحور حول الحصول على إجابات لهذه
التساؤلات ..!!! ولذا فالخطاب القرآني ؛ ليس خطاب ضروري فحسب .. بل هو
خطاب حتمي ومكمل لمعنى الغايات من خلق الإنسان .. أو هو ـ إن جاز القول ـ
المذكرة التفسيرية لاستكمال معنى خلق الإنسان والغايات من وجوده .فـ " الله " ( سبحانه وتعالى ) .. هو خالق الإنسان وأعلم به من نفسه .. كما جاء في قوله تعالى ..) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) (
( القرآن المجيد : ق {50} : 16 )
بل ويصل العلم الإلهي بالإنسان إلى خبايا النفس البشرية .. كما جاء في قوله تعالى ..) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) (
( القرآن المجيد : غافر {40} : 19 )
وكما جاء في قوله تعالى ..) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) (( القرآن المجيد : الملك {67} : 13 - 14 )
فـ " الله " ( سبحانه وتعالى ) .. هو خالق الإنسان وصانعه .. كما جاء في قوله تعالى ..) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) (( القرآن المجيد : الانفطار {82} : 6 - 8 )
وتحوي هذه الآيات الكريمة طيف عريض من المعاني العلمية .. منها النشأة والتطور كما جاء في قوله تعالى ) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ( . ويموج القرآن المجيد بالحوار ـ الخالد ـ بين الخالق المطلق ( I
) .. وبين الإنسان المخلوق .. وبديهي لا مكان لعرض كل هذه المعاني
بالتفصيل .. لذا سأكتفي بما يتم عرضه في سياق هذا البحث فقط ـ إلى جانب ما
سبق كتابته ـ وأتمنى أن يكون فيه الكفاية . ولهذا لا مكان للقول : بأنه لا
يجوز الاستشهاد بآيات القرآن المجيد عند مواجة الآخر ـ الذي لا يدين
بالإسلام ـ لأنه لا يؤمن بهذا الكتاب ..!!! وبديهي ؛ انتشار
الدين الإسلامي ـ في الوقت الحاضر ـ بين طبقة العلماء والمثقفين في الغرب
المسيحي .. هو خير دليل على هذا المعنى . وأذكر ـ على سبيل المثال ـ رؤية الدكتور جيفري لانج أستاذ الرياضيات الأمريكي[1] ـ بعد إسلامه ـ والذي يصف فيه الخطاب القرآني .. بقوله :[ .. القرآن هذا الكتاب الكريم قد أسرني بقوة ، وتملّك قلبي ، وجعلني أستسلم لله ، والقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى ، حيث يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه ، وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة ، فهو يحمل عليك ، وكأن له حقوقاً عليك ! وهو يجادلك ، وينتقدك ويُخجلك ويتحداك .. لقد كنت على الطرف الآخر ، وبدا واضحاً أن الذي أنزل القرآن كان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي .. لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري ، وكان يخاطب تساؤلاتي .. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي ، ولكنني كنت أكتـشف الإجابــة في اليوم التالي .... .. ..لقد شعرت أنني أمام أستاذ علم نفس يسلط الأشعة على كل مشاعري المخبأة . كنت أحاول مناقشة بعض المشاكل فأجـده أمامي بالمرصاد ، يغوص في أعماقي فيجعلني عاريـاً أمام الحقيقة .. لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن .. ]