المدرسة المسيحية التحررية "
تتفق مع الفكر الإسلامي في كون السيد المسيح رسولا وليس إلها . وترى هذه
المدرسة أن يسوع كان إنسانا متميزا بالمثل العليا وأن إلصاق صفة الألوهية
به جاء نتيجة لمؤثرات خارجية يرجع أصلها إلى الديانة الهيللينية . كما
أضافت المدرسة ( ريماروس ) أن يسوع لم يكن سوى شخص يهودي يميل إلى التحرر
ولم يكن يعرف شيئا من التعاليم التي قام تابعوه بترويجها عليه فيما بعد .ومن هذا المنظور ـ أي منظور بشرية عيسى ( عليه السلام ) ـ كان عيسى لا يتكلم عن نفسه في الأناجيل الأربعة إلا بصفة " ابن الإنسان " .. فقد وردت هذه الصفة في الأناجيل الأربعة ثمانون مرة كاملة .. منها النص التالي .. [ (34) جاء ابن الانسان ( The Son of man ) ( أي المسيح ) يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر . محب للعشارين والخطاة . ]( الكتاب المقدس : انجيل لوقا : {7} : 34 )
[ العشارين : جامعي الضرائب ]ويأتي نفس هذا
النص ـ أيضا ـ في إنجيل متى في الفقرة ( 11 / 19 ) .. ومع ذلك يصر علماء
المسيحية باعتبار عيسى ( هو الله ) وإنه كان يتكلم بهذه الصفة ليبين أن
تجسده في الصورة البشرية كان كامل .. أي كان في صورة إنسانية كاملة (
الناسوت الكامل ) ..!!! بل نجد المسيح يرفض فكر عبادته صراحة .. فيقول
لأتباعه وحوارييه في إنجيلي متى ومرقص ..[ (9) وباطلا يعبدونني وهم يُعَلِّمُون تعاليم هي وصايا الناس ]
( الكتاب المقدس : متى {15} : 9 // مرقص {7} : 7 )
وهكذا ؛ يرفض
المسيح ( عليه السلام ) بهذا النص عبادته صراحته .. ويقول أن عبادته باطلة
.. ولكنهم يصرون على هذه العبادة ..!!! وحول هذا النص يقول التفسير
التطبيقي للكتاب المقدس ( ص : 1922 ) .. [ انتقد إشعياء
النبي المنافقين في أيامه ( إشعياء 29 : 13 ) ، وقد طبق الرب يسوع أقواله
على أولئك القادة الدينيين ، فعندما نـدعي أننا نكرم الله ( أي المسيح ) ،
بينما قلوبـنا بعيده عنه فلا قيمة إطلاقا لعبادتنا ] ( انتهى )
وبهذا يحاول
التفسير التطبيقي القول بأن عبادة المسيح يجب أن تتم بقلوب مؤمنة بألوهيته
..!!! ومع ذلك يترك المفسرون الشرح مفتوحا فلم يقولوا : [ .. بينما قلوبـنا بعيده عنه فلا قيمة إطلاقا لعبادتنا له ] ، بل قالوا : [ .. بينما قلوبـنا بعيده عنه فلا قيمة إطلاقا لعبادتنا ] فقط وسكت أي بعبادتنا وليس من الضرورة له ..!!! وبديهي هذا جزء من احتيال وتزييف رجال الدين المسيحي لحقائق هذه الديانة ..!!!بل وعندما سعي اليهود إلى قتل المسيح ( عليه السلام ) .. قال لهم ..[ (40) ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان ( a man ) قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله . هذا لم يعمله إبراهيم ( أي وهذا لم يفعله إبراهيم ) . ]( الكتاب المقدس : انجيل يوحنا : {8} : 40 )
ويقفز التفسير التطبيقي للكتاب المقدس من فوق هذا النص ولا يشير إليه ولو بكلمة واحدة ..!!!
وهكذا ؛ يصر عيسى ( عليه السلام ) على بشريته من جانب .. بينما يصر
المسيحيون على ألوهيته وعبادته من جانب آخر ..!!! ولهذا يأتي القول الفصل
حول هذا المعنى في القرآن المجيد ( العهد الحديث ) .. حين سأل رب العزة
المسيح ( عليه السلام ) .. صراحة بقوله تعالى ..) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) (( القرآن المجيد : المائدة {5} : 116 - 118 )
وأرجو أن يتنبه
رجل الدين المسيحي إلى المنطق المتعالي في هذه الآيات الكريمة . ويكرر
المولى ( عز وجل ) خطابه للعالم المسيحي ، ويأمرهم بعدم المبالغة في
اعتقادهم في عيسى ( عليه السلام ) .. فهو ليس بإله بل هو أحد أولي العزم
من الرسل .. ولا يخرجه هذا المعنى عن بشريته وعبادته لله وحده لا شريك له
.. كما جاء في خطابه ـ سبحانه وتعالى ـ التالي ..) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ
خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى
بِاللّهِ وَكِيلاً (171)
لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ
الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا (172) (( القرآن المجيد : انساء {4} : 171 - 172 )
وعادة ما يستند علماء المسيحية ( وبالذات أساتذة لاهوت الدفاع عن الإيمان المسيحي ) إلى هذه الآية الكريمة ) .. وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ..( ـ بالباطل ـ لبيان أن القرآن المجيد يشهد على ألوهية المسيح ..!!! ولهذا أكرر ـ هنا ـ بأنه لا تخصيصية في قوله تعالى " وروح منه " لعيسى ( عليه السلام ) .. حيث أن الإنسان هو من روح الله ( سبحانه وتعالى ) كما جاء في قوله تعالى للملائكة عند خلقه للإنسان ..) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (2 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) (( القرآن المجيد : الحجر {15} : 28 - 29 )
[ التفسير / صلصال : صورة من الطين أي العناصر الأرضية ـ حَمَإٍ
: هو الطين الأسود اللزج الممتزج بالماء الحار .. والذي يوجد في البرك
والمستنقعات الموجودة بجوار العيون الأرضية الساخنة . مسنون : مصور في
صورة إنسان وخاضع لسنن ـ أي قوانين ـ معينة / والنفخة : بمعناها البسيط هو
كل ما ينتقل من خصائص الذات الإلهية إلى الإنسان عند تشكيله . أما التسوية
: فتعني التطور الذي يلحقه الله ـ عز وجل ـ على الإنسان حتى انتهينا إلى
ما نحن عليه اليوم .. وما ننتهي إليه في نهاية الزمان .. والله سبحانه
وتعالى أعلم . ]وبديهي ؛ أن أهم
خواص الإنسان هي " وعيه بذاته وبالوجود " ومثل هذا الوعي الإنساني هو ـ في
الواقع ـ جزئية من الوعي الإلهي بالذات ( سبحانه وتعالى ) . وهذه الخاصية
الإنسانية التي جاءت في قوله تعالى ) .. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي .. (عن طبيعة خلقه للإنسان . ومن هذا النص الكريم ؛ تتناهى الفطرة البشرية فى قوله تعالى ) ... وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ... ( إلى مقام المعرفة المباشرة بـ " الله " .. فيصبح
إدراك الإنسان لوجود الله ينبع من إدراك الجزء للكل ، أو تعريف النفس
بالنفس ، أو تعريف الـ " هو " بالـ " هو " .. بلا اتحاد .. أو حلول . وهي المعرفة التي تمثل أساس ومحور الفكر الصوفي بكل اتجاهاته كما سنرى لاحقا .وهكذا ؛ تتوالى رسالة الرسل نحو الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد .. ) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) (( القرآن المجيد : فصلت {41} : 14 )
وفي هذا الآية
الكريمة يخبرنا المولى ( عز وجل ) .. بوجود صنف من الناس ترفض البلاغ
الإلهي ( الوحي ) من خلال الرسل استنادا إلى بشريتهم .. وبالتالي ترفض
عبـادة الله ( عز وجل ) .. وهو ما يعني الإصرار على موقف عبادتهم الوثنية
.. متعللين في ذلك بأن الرسل بشرية وليست ملائكة .. كما جاء في قوله تعالى
..) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9) (( القرآن المجيد : الأنعام {6} : 8 - 9 )