يكرر التاريخ درس "حلف بغداد"
<hr style="color: rgb(255, 255, 255);" size="1">
ربما
لا تبدو بغداد اسما يثير الاشتباه كبداية نحو أي تحالف بين الدول العربية
والغرب. فاسم العاصمة العراقية أطلق على حلف رعته بريطانيا ولم يعمر طويلا
في سنوات الخمسينيات هو "حلف بغداد". وقد كانت نهاية هذا الحزب كما هو
معروف هي بداية النهاية للنفوذ البريطاني في الشرق الأوسط. والسؤال الذي
يطرح نفسه الآن يتعلق بما إذا كان بوسع الحلف الذي تسعى إدارة بوش لتشكيله
من الدول العربية الديمقراطية الحديثة أن يلاقي مصيرا أكثر نجاحا من حلف
بغداد قبل حوالي نصف قرن. أنشأت بريطانيا حلف بغداد في عام 1955 وضم في
عضويته العراق وإيران وباكستان وتركيا بهدف تقوية دفاعات المنطقة ومنع
الاختراق السوفيتي للشرق الأوسط. وكانت بريطانيا تأمل في انضمام سورية
والأردن إلى الحلف في مرحلة لاحقة لإكمال الطوق حول المنطقة. غير أن
الطموحات البريطانية قوبلت بمعارضة شعبية عربية شجعتها قيادة الرئيس
المصري جمال عبد الناصر وخطبه البلاغية من إذاعة "صوت العرب". وقد رفضت
سورية الانضمام إلى الحلف، فيما أبدى العاهل الأردني الملك حسين ذو الميول
البريطانية ترددا في موقفه. ضد بريطانيا وفي نهاية المطاف انصاع الملك
حسين لإرادة شعبه الذي خرج في الشوارع بأعداد كبيرة للتنديد بالحلف. في
ذلك الوقت رأيت المتظاهرين يحطمون نوافذ البنك البريطاني حيث كان يعمل
والدي في العاصمة الأردنية عمان، وأصابني الانزعاج وأنا طفل من رؤية
المتظاهرين يخربون حديقة منزلنا. ولا يزال موضع نقاش مسألة ما إذا كان
بوسع الحلف الاستمرار في ظل ظروف أخرى. لكن الدور الكارثي الذي قامت به
بريطانيا في حرب السويس عام ستة وخمسين قوض سلطة حلف بغداد وهيبته. وقد
شهد عام ثمانية وخمسين الإطاحة بالنظام الملكي الذي نصبته بريطانيا في
العراق في انقلاب دموي. أصداء الماضي ولا شك أن العالم اليوم يختلف عن
عالم الماضي، فعدو الغرب لم يعد الشيوعية بل الأصولية الإسلامية والإرهاب
الدولي. وتعتقد الولايات المتحدة أن قيامها بإعادة رسم الشرق الأوسط
وإقامة نظم ديمقراطية حديثه في دوله سيؤدي للقضاء على الإرهاب. ورغم أن
قضية أمريكا تبدو مختلفة فإن هناك أصداء ملحوظة لحلف الخمسينيات، ليس فقط
فيما يتعلق بالشركاء فيه ولكن أيضا في قيام أمريكا بتسلم دور القيادة من
بريطانيا. فباكستان أصبحت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حليفا أمريكيا
يعتمد عليه، كما أن تركيا ستتعاون عن قرب مع واشنطن في أي حرب تشنها
الأخيرة على العراق. الدولة الوحيدة من حلف بغداد التي استبعدت من تحالف
اليوم الذي ترسمه الولايات المتحدة هي إيران. وقد ألمح الصقور في إدارة
بوش إلى أن تغيير النظام في إيران سيكون الخطوة التالية لهم بعد الانتهاء
من العراق ثم تأتي سورية متأخرة قليلا على القائمة نفسها. المعارضة
العربية لكن ليس بوسع المرء أن يجري مقارنة كاملة بين الأوضاع في الوقت
الحاضر وما كان يسود العالم في خمسينيات القرن الماضي. فالولايات المتحدة
هي القوة العظمى الوحيدة وإلى حد كبير يمكنها أن تفعل ما تشاء. غير أن
إدارة بوش ربما تحتاج إلى أن تأخذ في اعتبارها عامل وحيد لم يتغير على مدى
الخمسين عاما الماضية، ألا وهو المعارضة العربية الطاغية لما يراه العرب
تدخلا غير مرغوب ولا مطلوب في شؤون المنطقة. وسيكون على المسؤولين
الأمريكيين مواجهة هذا التوجه إن آجلا أم عاجلا. ويقول منشق عراقي بارز لا
يرتبط بأي من جماعات المعارضة المعروفة " إن التخلص من صدام مجرد أمر
واحد، لكنك لن تجد أي عراقي يحترم نفسه على استعداد للتعاون مع نظام دمية
ينصبه الأمريكيون". وحتى أحمد الجلبي وهو زعيم المعارضة الذي تربطه
بواشنطن علاقات وثيقة، أدان فكرة إقامة حكومة عسكرية أمريكية في بغداد
باعتبارها انتقاص للسيادة العراقية. ولذلك فإن إدارة بوش ستواجه مهمة شاقة
تتمثل في إقناع غالبية العرب بأن ما يبدو لهم وكأنه نسق استعماري جديد
لإعادة رسم المنطقة ليس سوى الطريقة الأمثل نحو المستقبل. وإذا لم ينجح
الأمريكيون في ذلك فإنه ستكون هناك إمكانية كبيرة لأن يواجه حلف بغداد
الجديد مصير نظيره القديم في نهاية المطاف.