رجال المخابرات المصرية في اسرائيل
في صباح يوم 13 يوليو من عام
1956 نشرت صحيفة الأهرام خبرا عابرا يقول : قتل العقيد مصطفى حافظ نتيجة
ارتطام سيارته بلغم في قطاع غزة، وقد نقل جثمانه إلى العريش ومن هناك نقل
جوا إلى القاهرة على الفور، ولم ينس الخبر أن يذكر أنه كان من أبطال حرب
فلسطين وقاتل من أجل تحريرها .. لكنه تجاهل تماما انه كان أول رجل يزرع
الرعب في قلب اسرائيل.
ومصطفى حافظ رجل مصري من مدينة الإسكندرية التي يحمل أحد ميادينها أسمه
الآن، كما أن له نصبا تذكاريا في غزة تبارى الإسرائيليون في تحطيمه عندما
احتلوها بعد هزيمة يونيو 1967.
كان (مصطفى حافظ) مسؤولاً عن تدريب الفدائيين وإرسالهم داخل إسرائيل كما
انه كان مسؤولاً عن تجنيد العملاء لمعرفة ما يجري بين صفوف العدو ووراء
خطوطه، فقد كان (مصطفى حافظ) باعتراف الإسرائيليين من أفضل العقول
المصرية، وهو ما جعله يحظى بثقة الرئيس جمال عبد الناصر فمنحه أكثر من
رتبة استثنائية حتى أصبح عميدا وعمره لا يزيد على 34 سنة، كما انه اصبح
الرجل القوي في غزة التي كانت تابعة للإدارة المصرية بعد تقسيم فلسطين في
عام 1947.
وبرغم السنوات الطويلة التي قضاها مصطفى حافظ في محاربة الإسرائيليين إلا
انه لم يستطع رجل واحد في كافة أجهزة المخابرات الإسرائيلية أن يلتقط له
صورة من قريب أو من بعيد، لكن برغم ذلك سجل الإسرائيليون في تحقيقاتهم مع
الفدائيين الذين قبضوا عليهم انه رجل لطيف يثير الاهتمام والاحترام ومخيف
في مظهره وشخصيته.
وكانت هناك روايات أسطورية عن هروبه الجريء من معتقل أسرى إسرائيلي أثناء
حرب 1948، وقد عين في منصبه في عام 1949 وكانت مهمته إدارة كافة عمليات
التجسس داخل إسرائيل والاستخبارات المضادة داخل قطاع غزة والإشراف على
السكان الفلسطينيين، وفي عام 1955 أصبح مسئولا عن كتيبة الفدائيين في
مواجهة الوحدة رقم 101 التي شكلها في تلك الأيام اريل شارون للإغارة على
القرى الفلسطينية والانتقام من عمليات الفدائيين ورفع معنويات السكان
والجنود الإسرائيليين، وقد فشل شارون فشلا ذريعا في النيل منه ومن رجاله
وهو ما جعل مسئولية التخلص منه تنتقل إلى المخابرات الإسرائيلية بكافة
فروعها وتخصصاتها السرية والعسكرية.
كان هناك خمسة رجال هم عتاة المخابرات الإسرائيلية في ذلك الوقت عليهم
التخلص من مصطفى حافظ على رأسهم (ر) الذي كون شبكة التجسس في مصر المعروفة
بشبكة "لافون" والتي قبض عليها في عام 1954 وكانت السبب المباشر وراء
الإسراع بتكوين جهاز المخابرات العامة في مصر.
والى جانب (ر) كان هناك ضابط مخابرات إسرائيلي ثان يسمى "أبو نيسان" وأضيف
لهما "أبو سليم" و"اساف" و"أهارون" وهم رغم هذه الأسماء الحركية من أكثر
ضباط الموساد خبرة بالعرب وبطباعهم وعاداتهم وردود أفعالهم السياسية
والنفسية.
ويعترف هؤلاء الضباط الخمسة بأنهم كانوا يعانون من توبيخ رئيس الوزراء في
ذلك الوقت ديفيد بن غوريون أول رئيس حكومة في إسرائيل والرجل القوي في
تاريخها، وكانت قيادة الأركان التي وضعت تحت سيطرة موشى ديان أشهر وزراء
الدفاع في إسرائيل فيما بعد في حالة من التوتر الشديد.
وكان من السهل على حد قول ضباط المخابرات الخمسة التحدث إلى يهوه (الله
باللغه العبريه) في السماء عن التحدث مع موشى ديان خاصة عندما يكون الحديث
عن براعة مصطفى حافظ في تنفيذ عملياته داخل إسرائيل ورجوع رجاله سالمين
إلى غزة وقد خلفوا وراءهم فزعا ورعبا ورغبة متزايدة في الهجرة منها.
وكان الحل الوحيد أمام الأجهزة الإسرائيلية هو التخلص من مصطفى حافظ مهما كان الثمن.
ووضعت الفكرة موضع التنفيذ ورصد للعملية مليون دولار، وهو مبلغ كبير
بمقاييس ذلك الزمن، فشبكة "لافون" مثلا لم تتكلف أكثر من 10 آلاف دولار،
وعملية اغتيال المبعوث الدولي إلى فلسطين اللورد برنادوت في شوارع القدس
لم تتكلف أكثر من 300 دولار.
كانت خطة الاغتيال هي تصفية مصطفى حافظ بعبوة ناسفة تصل إليه بصورة أو
بأخرى، لقد استبعدوا طريقة إطلاق الرصاص عليه، واستبعدوا عملية كوماندوز
تقليدية، فقد فشلت مثل هذه الطرق في حالات أخرى من قبل، وأصبح السؤال هو:
كيف يمكن إرسال ذلك "الشيء" الذي سيقتله إليه ؟.
في البداية فكروا في إرسال طرد بريدي من غزة لكن هذه الفكرة أسقطت إذ لم
يكن من المعقول أن يرسل طرد بريدي من غزة إلى غزة، كما استبعدت أيضا فكرة
إرسال سلة فواكه كهدية إذ ربما ذاقها شخص آخر قبل مصطفى حافظ.
وأخيرا وبعد استبعاد عدة أفكار أخرى بقيت فكرة واحدة واضحة هي: يجب أن
يكون "الشئ" المرسل مثيرا جدا للفضول ومهما جدا لمصطفى حافظ في نفس الوقت
كي يجعله يتعامل معه شخصيا، شئ يدخل ويصل إليه مخترقا طوق الحماية الصارمة
الذي ينسجه حول نفسه.
وبدأت الخطة تتبلور نحو التنفيذ، إرسال ذلك "الشيء" عن طريق عميل مزدوج
وهو عميل موجود بالفعل ويعمل مع الطرفين، انه رجل بدوي في الخامسة
والعشرين من عمره يصفه أبو نيسان بأنه نموذج للخداع والمكر، كان هذا الرجل
يدعى "طلالقة". لم يكن يعرف على حد قول ضابط الموساد أن مستخدميه من
الإسرائيليين.
وبعد أن استقر الأمر على إرسال (الشيء) الذي سيقتل مصطفى حافظ بواسطة
(طلالقة) بدأ التفكير في مضمون هذا الشيء، واستقر الرأي على أن يكون طردا
بريديا يبدو وكأنه يحتوي على (شئ مهم) وهو في الحقيقة يحتوي على عبوة
ناسفة.
ولم يرسل الطرد باسم مصطفى حافظ وإنما أرسل باسم شخصية سياسية معروفة في
غزة وهو بالقطع ما سيثير (طلالقة) فيأخذه على الفور إلى مصطفى حافظ الذي
لن يتردد فضوله في كشف ما فيه لمعرفة علاقة هذه الشخصية بالإسرائيليين،
وفي هذه اللحظة يحدث ما يخطط له الإسرائيليون وينفجر الطرد في الهدف
المحدد.
وتم اختيار قائد شرطة غزة (لطفي العكاوي) ليكون الشخصية المثيرة للفضول
التي سيرسل الطرد باسمها، وحتى تحبك الخطة أكثر كان على الإسرائيليين أن
يسربوا إلى (طلالقة) إن (لطفي العكاوي) يعمل معهم بواسطة جهاز اتصال يعمل
بالشيفرة، ولأسباب أمنية ستتغير الشيفرة، أما الشيفرة الجديدة فهي موجودة
في الكتاب الموجود في الطرد المرسل إليه والذي سيحمله (طلالقة) بنفسه.
وأشرف على تجهيز الطرد (ج) عضو (الكيبوتس) في المنطقة الوسطى، وقد اكتسب
شهرة كبيرة في أعداد الطرود المفخخه وكان ينتمي إلى منظمة إرهابية تسمى
(أيستيل) كانت هي ومنظمة إرهابية أخرى اسمها (ليحي) تتخصصان في إرسال
الطرود المفخخه إلى ضباط الجيش البريطاني أثناء احتلاله فلسطين لطردهم
بعيدا عنها.
مصطفى حافظ
وأصبح الطرد جاهزا وقرار العملية مصدق عليه ولم يبق سوى التنفيذ، وتم نقل
الطرد إلى القاعدة الجنوبية في بئر سبع وأصبح مسئولية رئيس القاعدة أبو
نيسان الذي يقول: "طيلة اليوم عندما كنا جالسين مع (طلالقة) حاولنا إقناعه
بأننا محتارون في أمره، قلنا أن لدنيا مهمة بالغة الأهمية لكننا غير
واثقين ومتأكدين من قدرته على القيام بها، وهكذا شعرنا بأن الرجل مستفز
تماما، عندئذ قلنا له: حسنا رغم كل شئ قررنا تكليفك بهذه المهمة، اسمع
يوجد رجل مهم جدا في قطاع غزة هو عميل لنا هاهو الكارت الشخصي الخاص به
وها هو نصف جنيه مصري علامة الاطمئنان إلينا والى كل من نرسله إليه والنصف
الآخر معه أما العبارة التي نتعامل بها معه فهي عبارة: (أخوك يسلم عليك)!.
ويتابع ضابط المخابرات الإسرائيلي : كنا نواجه مشكلة نفسية كيف نمنع
طلالقة من فتح الطرد قبل أن يصل إلى الهدف ؟ وللتغلب على هذه المشكلة
أرسلنا أحد الضباط إلى بئر سبع لشراء كتاب مشابه أعطاه لـ (طلالقة) قائلا:
(هذا هو كتاب الشيفرة يحق لك تفقده ومشاهدته وبعد أن شاهده أخذه منه وخرج
من الغرفة وعاد وبيده الكتاب الملغوم وسلمه له لكن (طلالقة) لعب اللعبة
بكل برود على الرغم من بريق عينيه عندما تساءل: ولكن كيف ستعرفون أن
الكتاب وصل؟ وكانت الإجابه: ستأتينا الرياح بالنبأ.
وفهم (طلالقة) من ذلك أنه عندما يبدأ (لطفي العكاوي) بالإرسال حسب الشيفرة
الجديدة سيعرف الإسرائيليون انه نفذ المهمة وعندما حل الظلام خرج أحد رجال
المخابرات الإسرائيلية المسئولين عن العملية ومعه (طلالقة) وركب سيارة جيب
ليوصله إلى أقرب نقطة على الحدود وهناك ودعه واختفى (طلالقة) في الظلام
لكن كان هناك من يتبعه ويعرف انه يأخذ طريقه إلى غزة.
وفي رحلة عودته إلى غزة كان الشك يملأ صدر (طلالقة).. وراح يسأل نفسه :
كيف يكون (العكاوي) أقرب المساعدين الى مصطفى حافظ عميلا إسرائيليا؟، وفكر
في أن يذهب أولا الى (العكاوي) لتسليمه ما يحمل وبالفعل ذهب الى منزله
فوجده قد تركه الى منزل جديد لا يعرف عنوانه واحتار ما الذي يفعل؟ ثم حزم
أمره وتوجه الى منطقة الرمال في غزة حيث مقر مصطفى حافظ.
وحسب ما جاء في تقرير لجنة التحقيق المصرية التى تقصت وفاة مصطفى حافظ
بأمر مباشر من الرئيس جمال عبد الناصر فإنه في 11 يوليو عام 1956 في ساعات
المساء الأخيرة جلس مصطفى حافظ على كرسي في حديقة قيادته في غزة وكان قد
عاد قبل يومين فقط من القاهرة، كان يتحدث مع أحد رجاله والى جانبه الرائد
فتحي محمود وعمر الهريدي وفي نفس الوقت وصل اليهم (طلالقة) الذي سبق أن
نفذ ست مهام مطلوبة منه في اسرائيل.
وقابله مصطفى حافظ وراح يروى له ما عرف عن (العكاوي)، وهو ما أزعج مصطفى
حافظ الذي كان يدافع كثيرا عن (العكاوي) الذي اتهم أكثر من مرة بالاتجار
في الحشيش، لكن هذه المرة يملك الدليل على إدانته بما هو أصعب من الحشيش؛
التخابر مع إسرائيل.
وقرر مصطفى حافظ أن يفتح الطرد ثم يغلقه من جديد ويرسله إلى (العكاوي)،
أزال الغلاف دفعة واحدة عندئذ سقطت على الأرض قصاصة ورق انحنى لالتقاطها
وفي هذه الثانية وقع الانفجار ودخل الرائد فتحي محمود مع جنود الحراسة
ليجدوا ثلاثة أشخاص مصابين بجروح بالغة ونقلوا فورا إلى مستشفى تل الزهرة
في غزة.
وفي تمام الساعة الخامسة صباح اليوم التالي أستشهد مصطفى حافظ متأثرا
بجراحه، وبقى الرائد عمر الهريدي معاقا بقية حياته بينما فقد (طلالقة)
بصره، وأعتقل (العكاوي) لكن لم يعثروا في بيته على ما يدينه.
وبرغم مرور هذه السنين مازال يصر الإسرائيليون على أنهم لم ينفذوا مثل هذه
العملية أبدا، وبقيت أسرارها مكتومة هنا وهناك إلى أن كشفها الكاتب
الإسرائيلي " يوسف أرجمان" مؤخرا في كتاب يحمل أسم "ثلاثون قضية استخبارية
وأمنية في إسرائيل"، والذي لا نعرف هل ما ذكره حقيقة أم خيال.
بقى أن نعرف إن الإسرائيليين عندما احتلوا غزة بعد حرب يونيو وجدوا صورة
مصطفى حافظ معلقة في البيوت والمقاهي والمحلات التجارية وأنهم كان
يخلعونها من أماكنها ويرمونها على الأرض ويدوسون عليها بالأقدام، وكان
الفلسطينيون يجمعونها ويلفونها في أكياس كأنها كفن ويدفنونها تحت الأرض
وهم يقرآون على روح صاحبها الفاتحة فهم لا يدفنون صورة وإنما يدفنون كائنا
حيا.