الأثر الخفي للجامعة الأمريكية :
ولأنه
كان عميقَ الفهم، دقيقَ الملاحظة، فقد أدرك في أثناء دراسته بهذه الجامعة
الأثر السلبي الخفي الذي كانت تؤديه تلك الجامعة، واكتشف مدى خطورة الأثر
السياسي الذي تؤديه الجامعةُ الأمريكية، فانتهز فرصة حفل التخرج الذي
أقامته الجامعة في صيف سنة 1932م، ووقف خطيبًا في الحضور، بينهم الوزراءُ
ورجال السلطة، فكشف زيف الأثر العلمي الذي تزعمُ الجامعةُ الأمريكية
القيام به، واتهمها بأنها بؤرة إفساد ديني، إذ يطعنون في الدين الإسلامي،
ولم يتوانَ حين تسلم شهادة تخرجه عن تمزيقها، وخاطب رئيسَ الجامعة قائلاً:
"إني لست في حاجة إلى شهادة من معهدكم الاستعماري"، وانتهى إلى أن طالب
المصريين بمقاطعة الجامعة الأمريكية، وبعد عدة أيام وزع بيانًا تفصيليًا
على الصحف المصرية، ضمنه اتهاماتِه للجامعة الأمريكية، وإثر ذلك أصدرت
الحكومةُ المصرية أمرًا بطرد الحسيني من مصر، مع نهاية سنة 1932م، فعاد
إلى فلسطين ليعمل محررًا في صحيفة الجامعة الإسلامية، التي كان يترأس
تحريرها الشيخ (سليمان التاجي الفاروقي)، ثم انضم إلى الحزب العربي
الفلسطيني، الذي ترأسه (جمال الحسيني)، ثم عمل مأمورًا في دائرة تسوية
الأراضي في فلسطين، وفي هذه المرحلة تمكن من إحباط أكثر من محاولة
للاستيلاء على الأراضي العربية.
• الثورة على الاحتلال:
وبعد
أقل من سنتين استقال من عمله في تسوية الأراضي، حتى يجهز للثورة على
الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، وبدأ في تكوين بعض الخلايا السرية
لمقاومة الاحتلال.
وعندما دعا داعي الجهاد، واشتعلت ثورة
1936م، هاجمت قوات بريطانية مكتب الحزب العربي الفلسطيني بهدف اعتقال عبد
القادر ورفاقه، لكنهم لم يعثروا عليه، وظهر فجأة في إحدى المناطق الجبلية،
وأعلن قيام الثورة المسلحة، وبدأت بعضُ الفصائل بمهاجمة القوات البريطانية
وتجمعات العصابات اليهودية، وكلَّف البريطانيين الكثيرَ من الخسائر، وتولى
في بعض مراحل الثورة قيادةَ منطقة القدس الشريف.
• التدريب في ألمانيا:
ولما
وجد (عبد القادر الحسيني) أن المواجهات القادمة ستكون أكثر حدة وأهمية قرر
بالتشاور مع بعض رفاقه أن يتوجه إلى ألمانيا عدو بريطانيا للوقوف على أحدث
أساليب صنع المتفجرات، وبالفعل مكث هناك ستة أشهر أفاد خلالها كثيرًا من
المعلومات الحربية الحديثة.
وعاد إلى فلسطين سرًا، وأغار
مع رفاقه على بعض المعسكرات البريطانية الحربية، وتمكنوا من السيطرة على
أجزاء منها، بعد أن غنموا الكثير من السلاح، واستاء الإنجليز من الوضع،
فقرروا ملاحقة الثوار، وضربوا في خريف عام 1938م حصارًا واسع النطاق حول
منطقة بني نعيم الواقعة بين بيت لحم، والخليل، وقدر أحدُ المجاهدين عدد
القوات البريطانية المهاجمة بخمسة آلاف جندي، ونشِبت معركةٌ حامية بين
الطرفين غير المتكافئين، واستمرت المعارك أكثر من عشر ساعات، واستطاعت
الطائراتُ البريطانية حسم المعركة لصالحها، وأصيب عبد القادر بإصابات
متوسطة، فنقله رفاقه إلى المستشفى بالخليل، ثم نقلوه سرًا حتى الحدود
السورية، وحكمت عليه السلطات البريطانية بالإعدام.
• رحلته إلى العراق:
وإثر
اندلاع الحرب العالمية الثانية، هدأت الثورة في فلسطين، وانصرف كثير من
المجاهدين لممارسة حياتهم الاعتيادية، بينما توجه (عبد القادر الحسيني)
إلى بيروت،حيث حصل من القنصل العراقي فيها على جواز سفر عراقي تحت اسم
"يوسف الصايغ"، وأصبح عبد القادر عراقيًا خلال نصف ساعة،وبعد يومين كان
يطوفُ شوارع بغداد هازئًا بالإنجليز ساخرًا من الفرنسيين.
وأقام
عبد القادر وأسرته بحي الكرادة الشرقية ببغداد، وكان موضعَ حفاوة وتَرحاب
من الشعب العراقي، وعمل أستاذًا لمادة الرياضيات في المدرسة العسكرية
بمعسكر الرشيد، وكذلك في مدرسة التفيض المتوسطة، والتحق كذلك بدورة لضباط
الاحتياط بالكلية العسكرية أول شهر إبريل عام 1940م، وبعد ستة أشهر انتهت
الدورة،وتخرج عبد القادر بعدها برتبة ضابط.
وحدث في عام
1941 أن أقدم الإنجليزُ على تنفيذ عدة أعمال انتقامية استفزازية ضد
الحكومة الوطنية الشرعية في العراق بزعامة "رشيد علي الكيلاني" رئيس
الوزراء ، ووقع الصدام المتوقع بين الجانبين، ورأى الثوارُ الفلسطينيون في
العراق حتمية مساندتهم للشعب العراقي في محنته، فاشتركوا بصورة فعلية
ومؤثرة في القتال بقيادة عبد القادر الحسينى، فأبلوا في المعارك بلاء
حسنًا خاصة في منطقة صدر أبي غريب.
وبعد شهر من القتال
استطاع الجيشُ البريطاني الكثيف في عَدده وعُدته أن يتغلب على المقاومة
الوطنية، وأذاع راديو لندن في حينه أن المقاتلين الفلسطينيين هم آخر من
انسحب من ميدان المعركة، واتقاء لبطش الإنجليز فقد اضطروا لمغادرة العراق
لجوءاً إلى إيران برًا، لكن السلطات الإيرانية لم تسمح لهم بدخول أراضيها،
فعادوا ثانية إلى بغداد، وحاولوا التسلل إلى الحدود السورية، لكن
المخابرات البريطانية تعقبت بعضهم،وقبض على (عبد القادر الحسيني)، وسيق
للمحاكمة أمام محكمة عسكرية عراقية بتهمة أنه ومن معه من الفلسطينيين
أوقفوا الجيش البريطاني عشرة أيام، وأخروا زحفه على بغداد، وحكم عليه وعلى
عدد من إخوانه بالسجن، كما ذكر المؤرخ عارف العارف في كتاب "النكبة".
وفور
صدور الحكم هب الكثيرون من أحرار العراق لنصرته بسبب تدني صحته، وفي
مقدمتهم (سعيد ثابت) و(إبراهيم عطار باشي)، فوافقت السلطاتُ المسئولة على
تغيير الحكم إلى النفي والإقامة الجبرية له ببلدة زاخو بأقصى شمال العراق
قرب الحدود مع تركيا ، كما مثلت أمام المحاكمة زوجته المجاهدة "وجيهة
الحسيني"، بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار، فحكم عليها بالإقامة الجبرية في
بيتها ببغداد، وقد أمضت عشرين شهرًا تحت الحراسة في المرحلة الأولى، وهى
المدة نفسها التي قضاها زوجها في زاخو.
• تدخل الملك عبد العزيز:
وتطاير
خبر اعتلال صحة الحسيني في أرجاء الوطن العربي، وطالب أحراره بإطلاق
سراحه، وأبرق مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني إلى الملوك والرؤساء العرب،
راجيًا تدخلهم لإنقاذ حياة القائد الفلسطيني، وسرعان ما استجاب الملك "عبد
العزيز آل سعود" للنداء، فاتصل بالسلطات المسئولة، وطلب السماح لعبد
القادر بالحضور إلى المملكة العربية السعودية، وبالفعل نجح المسعى وحضر
عبد القادر الحسيني وعائلته إلى السعودية أواخر عام 1944م، فأكرم
السعوديون وفادتهم، وأمضوا فيها مدة تزيد على السنتين.
وارتأى
المجاهدون الفلسطينيون أن المصلحة الوطنية تستوجب حضور عبد القادر إلى مصر
لاعتبارات كثيرة، فوصل القاهرة في مطلع عام 1946م، وباشر اتصالاته
بالمجاهدين، وحرَص منذ البداية على توفير السلاح ونقله إلى فلسطين، فكلَّف
بعضَ إخوانه بهذه المهمة، كما دعا لعقد لقاءات سريعة ومكثفة ببعض
المجاهدين، فحضروا إلى القاهرة ، وتشاوروا فيما بينهم في الخطة القادمة،
كما استنار بآراء ضباط من مصر وسوريا والعراق، ولقد كان النقص في السلاح
من أعقد المشاكل التي اعتورت حركة الجهاد الفلسطيني ، وواجهت لجان شرائه
وتخزينه وتوصيله كثيرًا من المشاق والمخاطر.
وفي تلك
الأثناء تطورت الأوضاعُ في فلسطين تطورا سريعا ومتلاحقا على المستويين
المحلي والدولي، ومن أبرز التطورات: السماح بإدخال مئة ألف مهاجر يهودي
إلى فلسطين من ضحايا الاضطهاد النازي والفاشي، ورفع القيود لتسهيل تمليك
الأراضي الفلسطينية إلى اليهود، ووصلت لجان دولية لتقصي الحقائق في
فلسطين، وهي في مجملها لا تعدو أن تكون تحذيراً للعرب، وفرصة لتثبيت
اليهود في فلسطين.
• جيش الجهاد المقدس:
وإزاء
هذه الأوضاع اجتمع مجلسُ الجامعة العربية في مصيف "بلودان" بسوريا في
يونيو 1946م، وقرر إنشاء الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسة مفتي
فلسطين الحاج أمين الحسيني، وبعد أربعة أشهر من إنشائها اجتمعت الهيئة
العربية العليا في الإسكندرية، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية
بالقوة المسلحة.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارَها
القاضي بتقسيم فلسطين قررت الهيئة تكوين "منظمة الجهاد المقدس المسلحة"،
وعين محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا قائدًا أعلى للجهاد
المقدس، في حين اتخذ عبدُ القادر الحسيني موقعَ القائد العام لهذه
المنظمة، وانتقل إلى فلسطين في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1947م.
واستطاع
عبد القادر الحسيني أن يكلِّفَ العدو الصهيوني الكثيرَ من الخسائر،
واستطاع المجاهدون تحت إمرته أن يسيطروا على القدس بعد حصار طويل، كما
نصبت قواتُ الجهاد المقدس عدةَ كُمَناء ناجحة للقوات الصهيونية، ونسفت
بعضَ المؤسسات الصهيونية الهامة مثل مقر الوكالة اليهودية في القدس، ودار
الصحافة اليهودية في القدس، فضلا عن نسف حي منتفيوري وشارع بن يهودا في
القدس. وتمكنت قواتُ الجهاد المقدس من السيطرة على منطقة القدس ، ومن
التحكم في خطوط المواصلات التي تربط بين أغلب المستعمرات الصهيونية في
فلسطين.
وفي أواخر مارس عام 1948م، توجه عبد القادر
الحسيني إلى دمشق طلبا للسلاح من جامعة الدول العربية، لكن رجاءه خاب، وفي
أثناء غيابه عن القدس سقطت قريةُ القسطل في أيدي اليهود، ووصل عبد القادر
إلى القدس صباح السابع من إبريل عام 1948 فنظم هجومًا مسلحًا على القسطل،
واستطاعت قواتُه أن تسترد الموقع في اليوم التالي، ولكن هذا القائد البطل
كان قد فارق الحياة، وهو ممسك بسلاحه مقبلا غير مدبر، ودفن في القدس بجوار
قبر أبيه موسى كاظم الحسيني.