جاسوس في الميناء وجدته المخابرات المصرية... فمات منتحراً من "بئر الخيانة"
السبت سبتمبر 27 2008
القاهرة -
- يروي الكاتب المصري صلاح الامام اليوم في صحيفة "الجريدة" الكويتية قصة
جاسوس جندته الاسخبارات الاسرائيلية لرصد ميناء الاسكندرية وما كان يدور
فيه من نشاط. ويقول الامام: "كلنا يتذكر تفاصيل الفيلم السينمائي المثير
"بئر الخيانة"، الذي قام ببطولته النجم نور الشريف، ويحكي قصة شاب مصري
سلّم نفسه للمخابرات الإسرائيلية، ثم عاد إلى مصر وافتتح مكتباً للخدمات
الملاحية اتخذه ساتراً للدخول إلى ميناء الإسكندرية في أي وقت، والتجوّل
فيه بحريّة، بما في ذلك الرصيف العسكري غير المسموح للمدنيين بدخوله،
وتمكنت المخابرات المصرية من رصده وتطويقه ثم القبض عليه، لكنه ابتلع
سمًّا وانتحر، فقال ضابط المخابرات المصري الذي قام بدوره الفنان عزت
العلايلي: عاش خائنًا... ومات كافراً.
الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية من ملفات المخابرات العامة المصرية، وبطلها
الحقيقي شاب إسكندراني يدعى رجب عبد المعطي، ولد في حي القباري في
الإسكندرية في 1 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1937، لكن كالعادة تستلزم
الأعمال الدرامية تغييرا في أصل الموضوع، بالإضافة الى أن ذلك النوع من
القصص تُحجب بعض تفاصيلها لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي، وقصة رجب
الحقيقية هي التي نقدمها لقرائنا اليوم.
نشأ رجب في رغد من العيش، وحالة من الترف أصابته بشيء من الغرور، ففشل
في الحصول على شهادة الثانوية العامة. كان والده يمتلك مكتباًا للخدمات
البحرية، وعن طريق علاقاته تمكّن من إلحاق ابنه في وظيفة كاتب حسابات في
ميناء الإسكندرية. استمر في تلك الوظيفة لأكثر من ثلاث سنوات، بعدها
راودته حالة من التمرد، وبات يحلم بالسفر إلى الشاطىء الآخر لبحر
الإسكندرية حيث بلاد اليونان التي سمع عنها كثيرا، وكم تمنى لو يعبر البحر
إليها سباحة، ولما عارضه والده أصرّ على السفر مهما كانت النتائج، فلم يجد
الأب بداً من الرضوخ أمام رغبة ابنه، على رغم يقينه أنه سيفشل وسيعود
بالخسارة المبينة، وكان رجب يدرك ما يدور في رأس والده، لذا كان مصممًا
على أن يثبت له عكس ظنّه.
في فندق متواضع في مدينة بيريه اليونانية، حطّ رجب رحاله، وقبل أن
تنتهي نقوده التقى صدفة بأحد اليونانيين الذين لهم أعمال في الإسكندرية
وربطته به علاقة عن بعد، وتمكن من النصب عليه والاستيلاء على مبلغ مالي
منه، أخذه وهرب إلى أثينا، وفيها نزل في فندق متواضع للغاية ومرّ عليه
قرابة الشهر من دون أن يجد عملا مناسبا، كان هناك المئات من الشباب المصري
ينتشرون في المدينة ويعملون في أي شيء إلا هو كان يريد وظيفة تليق به، فقد
كان يرى نفسه حالة نادرة تجمع بين العبقرية والخبرة، وبقي يحلم بالفرصة
الذهبية التي ستصل إليه بين لحظة وأخرى.
ذات يوم كان رجب يتجول في أحد شوارع أثينا، فجمعته الصدفة بشاب مصري،
من صعيد مصر يعمل في مصنع للعصائر، فعرض عليه أن يعمل معه، لكن رجب رأى أن
تلك الوظيفة لا تليق بمقامه، فما كان من الشاب الصعيدي إلا أن نصحه
بالعودة إلى مصر، كي لا تصطاده المخابرات الإسرائيلية ويقع في شباكها،
لأنها نشطة جدا في اليونان وتتصيّد الشباب المصري، وتغريهم بالمال والنساء
كي يعملوا معها ضد وطنهم.
عاد رجب إلى مكان إقامته في الفندق المتواضع يطارده شبح العودة الى مصر
مكللا بالفشل، وتخيل شماتة والده وأهله وأصدقائه، وقطع عليه هواجسه
وأفكاره صوت دقات على باب غرفته، كان موظف الحسابات جاء يطالبه بسداد
فاتورة مصاريفه. كانت جيوبه خالية، فشعر وكأن الدنيا حلقة خاتم تضيق حول
رقبته، فهداه تفكيره الى تصرّف جنوني، فطلب من موظف الفندق الانتظار حتى
الصباح، ولما انصرف أمسك بورقة وقلم وكتب الآتي:
السيد المبجّل / سفير دولة إسرائيل في أثينا... أنا موظف مصري أقيم في
فندق زفيروس، ضاقت بي الدنيا وظلمتني في الإسكندرية وفي أثينا، وقال لي
البعض أنكم تمدون يد المساعدة لكل من يلجأ إليكم، وأنتم الملجأ الأخير
إلي، فأرجو أن أنال عطفكم واهتمامكم... رجب عبدالمعطي... أثينا في
27/12/1967
ذهب رجب بنفسه الى السفارة الإسرائيلية وسلم رسالته لموظف الأمن، وقبل
مرور ثلاثة أيام جاءه مندوب من السفارة الإسرائيلية إلى الفندق، واصطحبه
الى مقر السفارة، وهناك أخذوا جوازه وأعطوه استمارة ليملأها بكل بياناته،
وأسماء كل عائلته وأصدقائه ووظائفهم، وكل شيء عن حياته بالتفصيل، ولما
وجدوا أنه عمل لفترة طويلة في ميناء الإسكندرية، طلبوا منه أن يكتب تقريرا
مفصلا عن كل شيء في الميناء، فاستعرض إمكاناته في التقرير، فبدى لرجال
"موساد" أنهم وقعوا على كنز، فقاموا بعدها في تسديد ديونه للفندق، ونُقل
الى فندق فخم، وبدأ يتذوق حياة اللهو والمجون في أثينا، ورجال "موساد"
يمدونه بالدولارات، من دون اتفاق على عمل فقد كان تحت الاختبار.
بعد أيام عدة زاره في الفندق أبو إبراهيم، وهو الاسم الحركي لضابط
"موساد" الذي تكفل به، وأخبره أنه سيسافر إلى تل أبيب خلال أيام، وطلب منه
أن يمر عليه في السفارة باكرا، لتجهيز رحلته، ثم دسّ في جيبه 400 دولار
وانصرف.
رائد في جيش إسرائيل
تحت سلم الطائرة في مطار اللد الإسرائيلى كان في انتظاره ثلاثة رجال،
في سيارة سوداء، سلكت منفذا خاصا للخروج، وأوصلوه إلى شقة من الشقق
المخصصة لتدريب الجواسيس، حيث كانت في انتظاره فتاة تتكلم العربية، وقالوا
له: إنها "زهرة" وسوف تظل في خدمتك طوال فترة إقامتك في تل أبيب، ثم تركوه
ليستريح، وعادوا إليه بعد بضع ساعات، واصطحبوه إلى مبنى "موساد"، وهناك
تعرض لجهاز كشف الكذب، وأعيد استجوابه ثانية عن كل المعلومات التي أدلى
بها عن ميناء الإسكندرية، وبعدها أعلن نجاحه، وأقيمت حفلة استقبال صغيرة
في إحدى قاعات مبنى "موساد"، مُنح خلالها رتبة رائد في جيش الدفاع
الإسرائيلي، وبدأت الدورات التدريبية المكثفة له لإعداده للمرحلة المقبلة.
اجتاز رجب الدورات التدريبية الاسرائيلية بنجاح، وتقرر سفره الى
الإسكندرية ليعاود نشاطه في شركة والده التي أفلست، على أن تمده اسرائيل
بالمال اللازم لذلك، لكن عليه قبل تلك الخطوة أن يمكث أشهراً عدة في أثينا
كي يتأكد أهله ومعارفه من نجاحه في اليونان، فعاد رجب بصحبة زهرة إلى
أثينا، ليس في رأسه شيء سوى أمن إسرائيل وحمايتها من العرب المجرمين،
واستأجرت له المخابرات الإسرائيلية شقة صغيرة في حي هاديء، وهيأت له أسباب
العيش الهانئ، وعلموه كيف يتعامل مع المصريين الوافدين إلى اليونان، وكيف
يتعاون في خدمتهم، وأيضا كيف يستخلص منهم المعلومات الخطيرة، فوطد علاقاته
بهم، وكثرت خدماته لهم، وطارت سمعته إلى مسقط رأسه في الإسكندرية، فعرف
أهله وجيرانه بقصة نجاحه، وكيف أصبح مقصدا لكل المصريين الذين يزورون
اليونان. مر أكثر من عام على هذا الوضع، حتى سمح له أبو إبراهيم بالعودة
الى الإسكندرية لإحياء شركة والده التي كانت تعمل في مجال الخدمات البحرية.
عاد رجب إلى الإسكندرية، وهو يعيش في دور الرجل الناجح، الذي قدم
لأبناء بلده خدمات جليلة، وسوف يواصل خدماته لهم من على ترابها، وكان أول
شيء فعله إعادة تجديد شركة رجب للخدمات الملاحية وتأثيثها، وجعلها تحفة
فنية. مع بدايات عام 1971 كان رجب انتهى من تشطيب مقر الشركة وتجهيزه،
فافتتحها من خلال حفلة كبيرة، حضرها إلى جانب الأهل والأصدقاء بعض
المسؤولين، وصاحب ذلك حملة دعائية في الصحف. ساعدته المخابرات الإسرائيلية
في أن يصبح وكيلا لعدد من الشركات العالمية. اتسعت الشركة وكثر عدد
موظفيها، والتوكيلات تتدفق عليه عن طريق أصدقائه، وأصبح دخوله إلى ميناء
الإسكندرية له صفة رسمية، ليس هذا فحسب، بل قويت علاقاته بعدد من
المسؤولين به، ولأن مهمته الأساسية التي أرسل لها الى الإسكندرية هي ميناء
الإسكندرية وكل ما يدور فيه، خصوصا كل ما يستجد على الرصيف العسكري، ولأن
عمله في التوكيلات البحرية والشحن من الأعمال التي تتطلب أسئلة واستفسارات
عن كل شيء في الميناء، فقد كان لا يثير أي شكوك. مرت أشهر وهو يواصل
اتساعاته ونجاحاته المزعومة، وتعددت رسائله المشفرة عبر جهاز اللاسلكي
المتطور المزود به، إلى أن وقعت حرب أكتوبر العظيمة عام 1973.
كانت الأمة العربية والإسلامية من أقصاها إلى أقصاها تطير فرحا وتموج
رقصا وطربا، إلا شخص واحد ينتمي بالإسم إليها، هو رجب عبدالمعطي، الذي
انكفأ على نفسه يبكي حزنا على أصدقائه اليهود، وكانت التعليمات القادمة
إليه بعد الحرب أن يتابع دقيقة بدقيقة دخول السفن السوفياتية وخروجها في
الميناء، وأصبحت زيارته الى الميناء يومية الى درجة بدأت تلفت الأنظار.
السقوط
على جانب آخر كانت رسائل رجب إلى روما كثيرة، للدرجة التي لفتت انتباه
ضابط المخابرات المكلف مراقبة البريد الصادر إلى أوروبا، وعلى الفور اكتشف
أمر الرسائل المشفرة، وبعدها قام جهاز المخابرات المصرية بوضع كل تحركات
رجب وعلاقاته وأعماله واتصالاته تحت أعين رجال المخابرات.
كانت أدلة إدانة رجب فوق الحصر، ولم تضيّع المخابرات وقتاً، فقُبض عليه
صباح 13 كانون الثاني (يناير) 1975 في مكتبه، والطريف أن رجال المخابرات
وهم في مكتبه يفتشونه وصل ساعي البريد برسالة إليه، ولما فتحوها وطلبوا
منه فك شفرتها، وجدوا أنها من المخابرات الإسرائيلية، حيث كانوا يطلبون
منه أن يسافر إلى أثينا في 1 مارس (آذار).
في مبنى المخابرات العامة المصرية في القاهرة، خضع رجب لاستجواب عنيف،
وأدلى باعترافات خطيرة، وأُحيل لمحاكمة عسكرية، وجاء في قرار الإحالة: أن
المذكور باع نفسه ووطنه للعدو مقابل المنفعة المادية، وأمد العدو بمعلومات
عسكرية واقتصادية تضر بأمن الدولة ومصلحة البلد، وارتضى لنفسه أن يحمل
اسما يهوديا، وجواز سفر يهودياً، ورتبة عسكرية يهودية، وتخابر مع دولة
معادية بقصد الإضرار بالعمليات الحربية لمصر، وتخابر مع دولة أجنبية
لتسليمها سرا من أسرار الدفاع عن البلاد، وحكمت المحكمة عليه بالإعدام
شنقًا.
أثناء انتظار حكم الإعدام، لقي رجب في السجن أسوأ معاملة من زملائه
المسجونين من المجرمين على اختلاف جرائمهم، فقد كانت جريمته منفرة ومخزية،
وكم من مرة حاولوا الفتك به لولا تدخل الحرس. عُزل، فانكفأ على نفسه يجتر
ذكرياته، ومضت أسابيع عدة عليه وهو لا يتكلم، حتى دخل عليه السجان ذات يوم
فوجده غارقا في بركة من الدماء وجسده هامداً. لقد استخدم الخائن إحدى
عدسات نظارته الطبية وقطع بها شرايين يده، فقال مأمور السجن ساعتها: عاش
خائناً.. ومات كافراً".