عملاء روسيا يخترقون الاستخبارات الأميركية و«الأطلسي»
جندي
روسي أمام نصب تذكاري في ستافروبول الشهر الماضي خلال الاحتفال بذكرى
تحرير المدينة من النازية (إدوارد كورنييونكو ــ رويترز)«الروس قادمون».
هذا ما يقوله اليوم، في السرّ وفي العلن، معظم المراقبين الأميركيين لشؤون
الاستخبارات. والمقصود هنا، «الجواسيس الروس» الذين لم يتقاعدوا، على ما
يبدو، منذ أيام الحرب الباردة. لا بل من المرجّح أن تكون مهماتهم قد فعّلت
ومراكزهم عزّزت. خلايا سرية، أسماء مستعارة، رسائل مشفّرة واختراق لأهمّ
المراكز الاستخبارية الأميركية ولـ«حلف شمال الأطلسي». ماذا يفعل رجال
الـ«كي جي بي» السابقون اليوم في مراكز المعلومات السياسية والأمنية
والاقتصادية والتكنولوجية على «الأراضي المعادية»؟ هل نعيش حرب جواسيس
جديدة؟ وهل انتهت تلك الحرب أصلاً؟ آخر مفاجآت الأسابيع الماضية جاسوس
لروسيا استمرّ في عمله من داخل زنزانته
صباح أيوب
«الحرب الباردة انتهت»، على الرغم من اقتناع المؤرخين بهذه المقولة، ورغم
إعلان رؤساء الولايات المتحدة وروسيا، منذ بداية التسعينيات، أنهم «ليسوا
في صدد إعادة إحيائها»، إلا أنّ بعض موروثات تلك الحرب و«خلايها» لا تزال
ناشطة لغاية اليوم. ولعل أبرز تلك الموروثات هي المهمات الجاسوسية؛
فالجواسيس الذين شكّلوا البنية التحتية للحرب السوفياتية ـــــ الأميركية
«الباردة» لم يتقاعدوا بعد، على ما يبدو. وقد رسّخ ذلك ربما، مجيء ضابط
«كي جي بي» سابق إلى سدّة الرئاسة الروسيّة في عام 2000. فلاديمير بوتين،
الذي بدا تأثير تاريخه الاستخباري الطويل واضحاً على السياسة الداخلية
والخارجية الروسية، «أنعش» المهمات الاستخبارية الروسية حول العالم.
لا تكاد تمرّ سنة، منذ مطلع التسعينيات، من دون إعلان الولايات المتحدة
توقيف جاسوس أميركي أو أكثر يعمل لحساب ما بات يعرف بـ«إف إس بي» (التي
حلّت محل الـ«كي جي بي») أو «إس في آر» (وكالة الاستخبارات الروسية
الخارجية). ومن اللافت أنّ معظم الجواسيس، الذين استكملوا عملهم في فترة
ما بعد الحرب الباردة والذين كشفت هويات بعضهم أخيراً واقتيدوا إلى
المحاكمة، هم أعضاء في مكتب التحقيقات الاتحادي «إف بي آي»، وبعضهم
تبوّأوا مناصب رفيعة المستوى في الإدارات الأميركية المتعاقبة.
الاختراق السوفياتي «البارد» لسياسة أميركا الخارجية لا يزال قائماً إذاً،
بعملائه وناشطيه السابقين الذين يمدّون الجمهورية الروسية اليوم بأكثر
المعلومات سرّية عن أمن «الدولة المعادية» وسياستها واقتصادها وعلومها.
آخر «المفاجآت»، التي أعلنتها المحاكم الأميركية قبل أسابيع (في 29 كانون
الثاني 2009)، والتي «لم يسبق لها مثيل في تاريخ الاستخبارات الأميركية»
كما وصفها الخبراء، كانت الكشف عن عملية تجسس لمصلحة الاستخبارات الروسية
من عميل سابق يمضي عقوبته داخل السجن.
هارولد نيكولسن، ضابط سابق في «وكالة الاستخبارات الأميركية» («سي آي
إي»)، وهو الضابط الأعلى رتبة في الـ«سي آي إيه» الذي يحاكم بتهمة التجسس،
هو مسجون في ولاية أوريغون منذ عام 1997، بعدما اعترف بالكشف عن أسماء
وهويات عملاء «سي آي إيه» أميركيين للروس. لكن نيكولسن، حسبما كشفت
التحقيقات أخيراً، «لم يتوقف عن العمل لحساب الاستخبارات الروسية حتى من
داخل زنزانته». إذ أفادت التقارير بأنّه استعان، منذ عام 2006، بابنه
ناتان لاستكمال مهماته الجاسوسية، مستغلاً الزيارات «العائلية» المسموح
بها داخل السجن لتجنيد ابنه ونقل معلومات سرية إضافية للروس. كذلك أظهرت
التحقيقات أن نيكولسن الأب كتب رسائل مشفّرة لابنه ورتّب له لقاءات مع
عملاء روس خارج الولايات المتحدة.
هذه السابقة في تاريخ محاكمات القضايا الاستخبارية في أميركا، أعادت إلى
الواجهة الحديث عن «حرب الجواسيس» بين روسيا وأميركا، التي من الواضح أنها
لم تنته بعد.
معظم الضباط السابقين في وكالات الاستخبارات الأميركية وفي وزارة
الخارجية، يفيدون بأن الجاسوسية الروسية في أميركا تشهد أوج مراحلها.
البعض تحدّثوا عن وجود أكثر من 100 جاسوس روسي «رسمي»، أي معروف من
السلطات الأميركية. الا أنّ الخطر الأكبر الذي يحذّر منه المسؤولون
الأميركيون يتمثل في الجواسيس «غير الشرعيين»، أي الذين يعملون بسرية
مطلقة. وتضع الاستخبارات الأميركية كل استاذ(ة) جامعي روسي، أو صحافي(ة)
أو رجل أعمال في خانة «جاسوس محتمل». ويمتد «الهوس» الأميركي بالجواسيس
الروس ليشمل كل شركة تجارية خاصة روسية (شركات النفط والغاز ومكاتب
السفريات...).
ورغم تطور التقنيات في مجال الحصول على المعلومات تكنولوجياً، إلا أنّ
الجواسيس لا يزالون يتمتعون بفاعلية وأهمية من حيث «اختراق الداخل» وتكوين
شبكة علاقات لا أحد غيرهم قادر على صنعها، ما يبرر اعتماد صيغة «جاسوس v/s
جاسوس» من معظم الدول لغاية اليوم.
ومنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، ملأت الأخبار المتعلقة بالاستخبارات
الروسية والقبض على عملائها الصحف الأميركية؛ ففي عام 1994 كُشف عن أن أحد
أبرز ضباط الـ«سي آي إيه» كان يعمل لمصلحة الاستخبارات الروسية منذ عام
1985، وهو يدعى ألدريتش هازن أميس. ونقل أميس معلومات بغاية السرية
والأهمية عن الـ«سي آي إيه» وعملائها حول العالم للروس، حتى وصفت آثار
أعماله تلك بـ«الكارثية». وفي عام 2001، برز خبر محاكمة ضابط الـ«إف بي
آي»، روبرت فيليب هانسن، بتهمة التجسس للاستخبارات الروسية لمدة 25 سنة.
والأهمّ أنّ هانسن أبقى على هويته سرية حتى تجاه الروس، إذ تعامل معهم
طوال تلك الفترة بأسماء مستعارة. هانسن أعطى الـ«كي جي بي» والـ«إف إس بي»
معلومات مصنّفة «سرية» و«سرية جداً» عن «برنامج التدابير الاستخبارية
الوطنية»، و«برنامج العمالة المزدوجة»، وعن «الأساليب المستقبلية
للاستخبارات الأميركية»، و«التهديدات الخارجية للولايات المتحدة».
كذلك سجّل عام 2008 الكشف عن اختراق الاستخبارات الروسية لـ«حلف شمال
الأطلسي»، وذلك عبر الشخص المسؤول عن «حماية أنظمة الحلف من أي اختراق
خارجي»، هو هيرمن سيم، أحد الموظفين الرسميين في وزارة الدفاع الأستونية،
ومن أبرز دبلوماسيي «الاتحاد الأوروبي» وحلف الأطلسي. جنّدته الاستخبارات
الروسية منذ أواخر الثمانينيات، وكان لا يزال يعمل لدى الروس عندما أوكلت
إليه أخيراً في «الأطلسي» إحدى أدق المهمات الاستراتيجية وهي: حماية نظام
المعلومات من أي اختراق إلكتروني خارجي.
روسيا في العراق
في
بداية الحرب الأميركية على العراق، ضجّت الصحف بأخبار أميركية مسرّبة عن
كشف الولايات المتحدة وثائق سرّية روسية في بغداد، تتعلق بالتعامل
الاستخباري بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين وروسيا. ونشرت صحيفة
«ديلي تلغراف» في نيسان 2003 معلومات عن تقارير تفيد بأنّ روسيا مدّت
مسؤولي الاستخبارات العراقيين بمعلومات عن الأسلحة النووية، ولوائح بأسماء
قتلة مأجورين «من الدرجة الأولى» يمكن استخدامهم في مهمات اغتيال في الدول
الغربية مع تسهيل حصولهم على تأشيرات دخول إلى تلك البلدان.
كذلك ذكرت التقارير أنّ روسيا كانت تجنّد عملاء استخباريين عراقيين
وتدربهم على أراضيها. وتضمنت أيضاً معلومات عن صفقات السلاح الروسية
للعراق وتبادل المعلومات بين الدولتين عن أسامة بن لادن ونصوص تنصّت على
مكالمات بين رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير ونظيره الإيطالي
سيلفيو برلسكوني.