تعريف الجغرافيا العسكرية
تمثل
الجغرافيا عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية حيث
تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية و تحدد
الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها
القوات، لشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف
فيها,,, في العلم العسكري الحديث، يمكن اعتبار تعريف معجم مصطلحات الجيش
الأمريكي للجغرافيا العسكرية أفضل تعاريفها دقة وشمولاً، فهو يعرفها بأنها
: " حقل متخصص من الجغرافيا بالتعامل مع الظواهر الطبيعية والظواهر التي
صنعها الإنسان ، والتي قد تؤثر في مسار العمليات العسكرية أو في التخطيط
لها"، وهذا يعني دراسة الأرض (terrain ) بسهولها ، وجبالها ، وأوديتها
وتلالها ، وأي معالم طبيعية تبرز على سطحها، كما تشمل الدراسة المجاري
المائية، والطرق ، والمراكز العمرانية ، وغير ذلك من المعالم .
وتهتم
الجغرافيا العسكرية بدراسة الأرض التي تجري عليها العمليات العسكرية، ومنذ
فجر التاريخ الإنساني تشكّل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر
النزاع العسكري، وتتخذ العمليات العسكرية طابعاً جغرافياً لأنها تجري على
موقع ما، ولذلك الموقع بيئته الطبيعية المتميزة، ومناخه، ونظامه الثقافي.
والعمليات العسكرية منظومة معقدة ثلاثية الأبعاد تتألف من الفعل وردود
الأفعال، وتمتد من جبهة القتال حتى منشأ الإمداد والتموين عبر الأجواء
والمحيطات، وتتألف أساساً من منظور جغرافي من الوقت والمسافة، وطبيعة
الأوضاع السائدة ضمن إطار ذلك الوقت وتلك المسافة.
ورغم
أن الأسلحة والقيادة والتدريب وتخطيط المعركة، تؤثر إلى حدٍ كبير على
الحملات، فإن الجغرافيا لها تأثير حاسم على النتيجة النهائية التي تسفر
عنها الحرب أو المعركة، لذا ينبغي أن يضع المخططون العسكريون هذه العلاقة
الجوهرية نصب أعينهم عند التخطيط للعمليات العسكرية، ومن هذا المنطلق
ينبغي على القادة العسكريين على كافة المستويات دراسة الأوضاع الطبيعية
والثقافية التي حددت نتائج المعارك عبر التاريخ، فجميع العمليات بغض النظر
عن حجمها ونطاقها تتحكم فيها بيئة العمليات التي تشمل: الطقس، والمناخ،
والأرض، والأوضاع الثقافية، إذ يتحتم على المخطط العسكري الناجح دراستها،
وتقدير تأثيراتها، واختيار طرق العمل الملائمة، وتعديل خططه وفقاً
للتحليلات الدقيقة للعوامل الجغرافية التي يتميز بها موقع معين.
الحرب والجغرافيا
قال
المفكر الصيني الشهير سون تسي Sun Tze قبل نحو 2500 سنة في كتابه القيّم
فن الحرب The Art of war :" إن أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال
والغابات والأودية الخطرة والسبخات والمستنقعات لا يمكنهم قيادة جيش " .
هناك
دور متبادل في كل زمان ومكان بين البيئة environment أو الجغرافيا
الطبيعية physical geography وبين المعركة ، فقد أدى السعي الدؤوب عبر
قرون طويلة لقهر العدو إلى التقدم الكبير في صنع الأسلحة وتطوير التقنيات
وبدرجات متفاوتة من أجل ضمان السيطرة على المكان space وخطوط المواصلات
lines of communications . وكان للعداوة بين بني البشر ، ولاستمرار الصراع
شبه تأكيد في أن المستقبل سيكشف عن أدوات ووسائل أكثر دمارا ورعبا وقت أي
حرب قادمة ، وظهر جليا أن العناصر الجغرافية الأساسية كانت على الدوام
عناصر هامة في إدارة المعركة وفي حصيلة هذه المعركة.
إن
دراسة العلاقات والروابط بين عدد من العمليات العسكرية المختلفة ،
ومكوناتها وعناصرها الجغرافية ستُظهر شواهد على أن الطقس والمناخ والأرض
terrain والتربة والغطاء النباتي هي عوامل مؤثرة بل وأحيانا حاسمة في
الصراع ، كما سيتبين أن الحرب والبيئة تشتركان بشكل متنوع ومتداخل وغالبا
متغير . وإن إجراء المقارنة لمعارك تأثرت بشكل رئيس بأحد عناصر البيئة
ستظهر أمور متشابهة وأخرى مختلفة ، وفي حين أن بعض الصراعات قد اختلفت
أوضاعها ونتائجها كثيرا تبعا لتغير الظروف والتقنيات والآراء، لكن يبقى
أمر دون تغيير وهو أن ميزة بيئية معينة تكون لأحد طرفي النزاع كعنصر قوة ،
لكنها في الوقت نفسه هي سوء طالع للطرف الآخر ، ويمكن لوضع كهذا أن ينقلب
في ساحة المعركة القادمة.
كان
الطقس عاملا هاما على الدوام في الحرب. ومن أمثلة ذلك الأثر السيئ
للأعاصير على أسطول قبلاي خان (1216 – 1294) حفيد جنكيز خان ، حين أراد
عبور مضيق كوريا بهدف غزو اليابان ، فقد هبت عواصف أوقفت الغزو، وكانت من
القوة أن أطلق عليها المدافعون اليابان " كاميكازي " وتعني " الرياح
الإلهية " ومنها جاءت تسمية الطائرات الانتحارية اليابانية في الحرب
العالمية الثانية تذكارا لتلك الرياح التي أنقذت اليابان مرتين في العامين
1274 و1281 . وبعد نحو 6 قرون تجلى اهتمام بالغ برصد حالة الجو في منطقة
القنال الإنجليزي عام 1940 حيث كانت تبذل جهود للحيلولة دون إبادة نحو ثلث
مليون جندي بريطاني وفرنسي بإخلائهم من ميناء دنكرك- الميناء الوحيد
الباقي - على الساحل الشمالي الفرنسي بعد سقوط فرنسا بيد الألمان . وتكرر
الاهتمام الكبير بنفس المنطقة عندما تم إنزال الحلفاء في النورمندي في
6/6/1944 لتحرير فرنسا من الألمان ، فقد أوضح علماء الأرصاد الجوية
الألمان للقيادة الألمانية أن الحالة الجوية ( الطقس ) غير مناسبة للإنزال
الذي يتوقع أن يقوم به الحلفاء عبر القنال الإنجليزي ، ومن ثم لم تكن
القوات الألمانية مستعدة لذلك ، بينما كانت قوات الحلفاء تتابع باهتمام
كامل أي فرصة لتحسن الحالة الجوية لإنزال آلاف الجنود المنتظرين ، وقد تم
الإنزال والهجوم وهُزمت القوات الألمانية لأسباب منها سوء تقديرها لدور
الأحوال الجوية السائدة والمتوقعة آنذاك.
كثيرا
ما استفاد البادئ بالحرب من ظروف الطقس غير المناسب، ومنها أحوال الجو
الضبابي والمتواصل لأيام عدة، والمصحوب بغيوم منخفضة، وتساقط أمطار
ونحوها، حيث ساهمت هذه الظروف وبحدة على فعالية الهجوم الألماني في كانون
الأول (ديسمبر) 1944 في معركة Bulge في بلجيكا حيث كان آخر هجوم ألماني
كبير في الحرب العالمية الثانية ، وكذلك الحصار الطويل الذي قامت به قوات
الفيت كونغ Viet Cong واستمر عدة أشهر لقاعدة خي سانة Khe Sanh الأمريكية
إبان الحرب الفيتنامية . وعلى النقيض مما سبق فقد سببت بضع ساعات من تساقط
المطر غير المتوقع على التربة الغنية بالطين في ولاية فرجينيا في شرق
الولايات المتحدة ، سببت إيقاف هجوم كبير تماما كانت تقوم به قوات الجيش
الاتحادي قبل اشتباك مّدبر مع القوات الجنوبية إبان الحرب الأهلية
الأمريكية (1861 – 1865)، مما سبب سوء صيت ما سمي Mud March عام 1863.
يلعب
المناخ أدوارا عدة في المعركة، ومنها ما سببته الأحوال المناخية المعتدلة
نسبيا والرطبة باستمرار على سواحل شمال غرب أوروبا في الحرب العالمية
الأولى(1914– 1918) إذ جعلت ساحة المعركة في الفلاندرز Flanders( مناطق
ساحلية منخفضة من فرنسا وبلجيكا) مستنقعات طينية سببت الشقاء للجنود لمدة
4 سنوات ، وفي النهاية لم تكن سببا في حسم الأمر لأي طرف في الصراع.
كانت
فصول الشتاء الطويلة وشديدة البرد نموذجا للمناطق الداخلية من افصى شرق
قارة أوروبا حيث ساهمت بقدر كبير في معاناة وهزيمة الجيوش غير المجهزة
لمواجهة أحوال المناخ ، والتي قادها شارلز الثاني عشر (1682- 1718) ملك
السويد ، ونابليون بانوبارت (1769- 1821) إمبراطور فرنسا ، وأدولف هتلر
(1889- 1945) الزعيم النازي ، حيث هاجم كل منهم روسيا ، وفشل فشلاً ذريعا
. وعلى نحو مختلف كانت درجات الحرارة المرتفعة والمصحوبة بالجفاف والرياح
والغبار في شمال أفريقيا تشكل مشاكل تعبوية للقادة الذين تحاربوا هناك
خلال حرب الصحراء في الفترة 1941 – 1943 إبان الحرب العالمية الثانية
(1939 – 1945) .
كانت
النباتات الكثيفة في منطقة العروض الوسطى ذات دور عظيم بشكل عام لكل من
القوات الاتحادية (الشمال) والقوات الكونفدرالية (الجنوب) خلال الحرب
الأهلية الأمريكية . مثلان حيّان من المعارك التي جرت في المنطقة المسمّاة
قفر فرجينيا Wilderness of Virginia في عام 1863 ثم في العام التالي ،
وبعد عقدين من الزمن في منطقة مدارية مماثلة ومطابقة في معظم أحوالها إبان
الحرب العالمية الثانية ، وخلال الصراع للسيطرة على غينيا الجديدة ، وفي
عام 1954 وقعت مأساة القوات الفرنسية في ديان بيان فو Dien Bien Phu وهي
قرية في شمال غرب فيتنام قرب حدودها مع لاوس، وكانت مركزا للجيش الفرنسي ،
وقد هزمتهم القوات الفيتنامية بعد حصار طويل ، وما حصل عام 1965 من معركة
ضارية في وادي إيا درانغ Ia Drang valley في جنوب فيتنام مع القوات
الأمريكية.
ومرة
أخرى لعب الوقت والأرض دورا عظيما في الحرب عندما قام الجنرال الأمريكي
جاكسون والشهير باسم ستونول عام 1861 بمناورات أسطورية في وادي شناندوة ،
كما كانت طبيعة جبال بلو ردج وامتدادها نحو الشمال الشرقي سببا في توفير
التخفية وفرصة للمسير الطويل بموازاتها بقيادة الجنرال الأمريكي لي عامي
1862 و1963 لغزو ميريلاند وبنسلفانيا إبان الحرب الأهلية الأمريكية. وعلى
خلاف ما سبق جرى عام 1916 قتال بين القوات الألمانية والفرنسية قرب فردان
Verdan وهي قرية ذات موقع استراتيجي حصين على نهر موز Meuse في شمال شرق
فرنسا ، حيث جرى القتال بين الطرفين لمدة تزيد على 10 أشهر بهدف السيطرة
على منطقة تلالية غابية وعرة شكلت أحد معاقل الجبهة الغربية ، حيث وقع
تغير بسيط في خط المواجهة في أرض تعتبر أكثر ما تكون مناسبة للدفاع ، وقد
خسر الطرفان الكثير ، وتشهد على ذلك المقابر والنصب التذكارية الكثيرة جدا
هناك.
كانت
مناطق المعالم والإمتدادات الجليدية المسماة ثلاجات glaciers ساحات معارك
، حيث أثّرت بشكل فاعل على مجريات المعارك بحكم تكوينها ، وظهر ذلك في
معركة ماساتشوستس بانكر هل ، والجزء الغربي من لونغ آيلاند في ولاية
نيويورك الأمريكية عام 1775. وعل مستوى أكبر كان دور الأرض المرتفعة قليلا
والممتدة من وارسو العاصمة البولندية إلى منسك عاصمة روسيا البيضاء إلى
سمولنسك في غرب روسيا ، إلى ما بعد بوردينو غرب موسكو ونحوها ، إذ تشكل
هذه المنطقة إرسابات لمواد على حافة قلنسوة ice - cap جليدية واسعة وُجدت
من عدة آلاف من السنين. وخلال قرون ثلاثة متتالية سارت جيوش ثلاث ( سويدية
وفرنسية وألمانية ) دروبا وطرقا مشابهة ، وعلى الإرسابات نفسها ، وقطعت
مئات الكيلومترات نحو روسيا لتصل إلى نهايتها المحتومة وهي الهزيمة . وفي
مكان آخر يختلف تماما عن البيئة السابقة تحاربت قوات نمساوية وإيطالية في
الحرب العالمية الأولى في عين المنطقة من جبال الألب، وفي مواقع تغيرت بضع
عشرات من الكيلومترات خلال عدة أشهر ، شكلت اضطرابات الطقس على ارتفاعات
كبيرة ، ومناطق وعرة حفرتها كتل الجليد شكلت ساحة هائلة للمعارك.
أما
المياه فهي عنصر هام ودائم في الحرب . فقد تأثرت معارك الجُزُر الكبرى
بالأحوال الجوية البحرية ، ومثالها جزيرة تاراوا Tarawa وهي دولة كريباس
الحالية ، وجزيرة أوجيما Iwo Jima اليابانية ، وكانت العمليات الهجومية
البرمائية على منطقة ميناء إنشون Inchon الكوري الجنوبي أمثلة لعمليات
ناجحة جداً . أما أنزيو على الساحل الغربي لإيطاليا فقد وقعت فيها هزيمة ،
إذ كان تأثير الأحوال البحرية بما فيها من مد وجزر وعواصف إضافة لمواد
تكوين الشاطئ ، وطوبوغرافية الساحل واضحة. وتبدو صعوبة عبور الأنهار بوضوح
بما حلّ بنابليون عند برزينا Berezina لدى تقهقره عن روسيا عام 1812 ، وما
حدث عند ما يسمى bridge too far عند آرنهايم الهولندية خلال العملية
المسماة Market Garden عام 1944 من إنزال إنجليزي شهير . وعلى النقيض
التام كان حسن طالع الحلفاء في الاستيلاء على جسر منعزل متبق على نهر
الراين في مدينة رماجن Remagen الألمانية على الضفة اليسرى لنهر الراين
قرب مدينة بون Bonn في أوائل عام 1945 ، مما حطم الدفاعات الألمانية على
امتداد أطول أنهار غرب أوروبا.
تبين
الوقائع والأحداث السابقة أن لمعالم سطح الأرض والظاهرات الطبيعية الأخرى
آثارا منفردة أو مجتمعة في تشكيل ظروف الصراع والقتال ، وقد تصبح ذات دور
حاسم في نتائجهما . ولا يعرف أحد على وجه التأكيد كيف ستجري الحروب
القادمة ، وفق ظروف قائمة ومحتملة، وأسلحة ومعدات وتقنيات يستمر تحديثا .
كما سيبقى دور العناصر الطبيعية للمكان من أرض وأحوال جوية ونبات دورها
طالما بقيت قوات برية أو بحرية أو جوية تسعى لاحتلال مكان ، وطالما بقي
هناك رغبة في كسر إرادة شعب أو أمة ما.