أزمة السياسة المصرية العربية
تثير السياسة المصرية العربية دائما جدلاً واسعاً، ليس فقط للرغبة العربية الواسعة والتقليدية في أن تحتل القاهرة موقعها في قيادة الدفاع عن المصالح العربية، ولكن أيضاً لأن السياسة المصرية بدت مؤخراً وكأنها تصطدم مع هذه المصالح، على الأقل من وجهة نظر الشارع العربي.
"
اتخذت القاهرة خلال أقل من أربعة أشهر ثلاثة مواقف متتالية، تركت خلفها أسئلة أكثر مما قدمت من إجابات وأولها الموقف من الحرب الأخيرة على غزة
"
فقد اتخذت القاهرة خلال أقل من أربعة أشهر ثلاثة مواقف متتالية، تركت خلفها أسئلة أكثر مما قدمت من إجابات وأولها الموقف من الحرب الأخيرة على غزة حيث بدا أن القاهرة تعقد الآمال على أن تنتهي الحرب بالتخلص من حكومة حماس في غزة، حتى إن كان الثمن مئات الضحايا من فلسطينيي القطاع.
وثانيها مقاطعة الرئيس المصري لقمة الدوحة العربية والتي لفتت انتباه كل أطياف المراقبين والجمهور العربي نظرا للدور التاريخي الذي لعبته مصر في قيام مؤسسة القمة العربية، وكونها المقر الدائم للجامعة العربية.
وأخيرا حادثة اعتقال ما سميت بخلية حزب الله في القاهرة، والتصعيد الإعلامي الهائل المرافق لها، لتثير أسئلة أخرى حول الهدف الحقيقي من الإعلان الصاخب عن الحادثة في مطلع إبريل/ نيسان.
إضافة إلى ذلك كله، وبينما يستمر الجهد المصري في رعاية الحوار الفلسطيني الداخلي، لم يعد واضحاً تماماً ما لذي تسعى القاهرة إلى تحقيقه من هذا الحوار.
هذا وتحاول هذه الورقة قراءة السياسة المصرية تجاه ملفاتها العربية الآنية الساخنة، وتعيد طرح الأسئلة الضرورية حول ما إن كانت هذه السياسة تساعد على، أو تقف عثرة أمام: توكيد القاهرة على دورها الرئيس في الساحة العربية.
حماس والسلطة الفلسطينية
مصر وإسرائيل
مصر والقمة العربية
مصر وخلية حزب الله
دلالات السياسة المصرية
حماس والسلطة الفلسطينية
بالرغم من العلاقات الوثيقة التي ربطت بين مسؤولي الملف الفلسطيني المصريين وأغلب قيادات حركة حماس، فليس ثمة شك أن القاهرة لم تكِنَّ وداً للحركة، ورأت في صعودها الحثيث تحدياً سياسياً وأمنياً لها.
وأحد أسباب هذا الموقف يعود إلى جذور وارتباطات حماس بحركة الإخوان المسلمين ، وإلى الخصومة العميقة بين الحكم المصري والحركة الإخوانية. وأما السبب الثاني فيعود إلى مواقف حماس المعارضة لنهج التسوية الذي تدعمه القاهرة، وترى فيه السبيل الوحيد لحل المشكلة الفلسطينية والتخلص من العبء التاريخي الثقيل الذي تمثله للسياسة المصرية.
"
بالرغم من العلاقات الوثيقة التي ربطت بين مسؤولي الملف الفلسطيني المصريين وأغلب قيادات حركة حماس، فليس ثمة شك أن القاهرة لم تكِنَّ وداً للحركة، ورأت في صعودها الحثيث تحدياً سياسياً وأمنياً لها
"
ويمكن القول في شكل عام إن مقاربة الحكم المصري للوضعين العربي والفلسطيني تميل إلى الحفاظ على الوضع الراهن وتتخوف من كل حركة نحو التغيير، وفي هذا السياق مثل فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية التشريعية انقلاباً كبيراً في الوضع الفلسطيني السياسي، حتى أفقد القاهرة القدرة على التحكم التقليدي في مجريات الشأن الفلسطيني.
ومع تفاقم الصدام الفلسطيني الداخلي، وحسم حماس العسكري للوضع في قطاع غزة، تصاعدت وتيرة القلق المصري من حركة حماس، ليصل حد الخصومة الواضحة، والعمل الحثيث على إسقاط حكومتها في غزة بأي وسيلة ممكنة.
ومن جهة أخرى، لا تنظر القاهرة باحترام كبير إلى قدرات الرئيس عباس القيادية؛ وفي الفترة السابقة على مؤتمر أنابوليس لم تطمئن إلى إخلاص موقفه من مصر، حتى أن علاقات عباس بالأردن بدأت بالتراجع نتيجة للشكوك الأردنية في التوجه التفاوضي الفلسطيني، إلى أن عادت ثقة القاهرة بالرئيس الفلسطيني إلى مستوياتها التقليدية.
ولكن، وبالرغم من الارتباط الشائع في المواقف العربية بين ما هو شخصي وما هو سياسي، فإن القاهرة تنظر إلى السلطة الفلسطينية باعتبارها حاجة وضرورة، لأنها من وجهة النظر المصرية: تتمتع باعتراف دولي، وتحمل الجزء الأكبر من العبء الفلسطيني السياسي، وهي "الممثل الفعلي"ً للفلسطينيين في الضفة والقطاع.
ومن جهة ثانية لأن هناك تداخلا بين السلطة ومنظمة التحرير، لابد من المحافظة على السلطة حتى التوصل إلى تسوية نهائية للمشكلة الفلسطينية. وكذلك لأن السلطة جزءٌ من النظام العربي الرسمي، وتدرك حدود التدافع العربي مع الدولة العبرية، لابد من مساعدتها أي السلطة على مواجهة أية تحديات فلسطينية داخلية.
ولكن الموقف المصري من القطاع هو موقف معقد، ولا يمكن فهمه بمقاربة بسيطة، وكان ثمة أمل في القاهرة بأن تؤدي صدمة الحرب على غزة إلى تقويض حكم حماس في القطاع.
أما وقد آلت النتيجة إلى ما آلت إليه، فالقاهرة ترفض فتح الحدود مع القطاع رسمياً لأن هذه الخطوة ستعتبر انتصاراً سياسياً لحركة حماس، وستفقد مصر ورقة الضغط الوحيدة المتبقية على الحركة، ولكنها بنفس الوقت تسمح باستمرار نشاطات التهريب عبر الحدود للبضائع والأغذية والوقود، وحتى السلاح، تجنباً لانفجار القطاع وتحوله إلى مشكلة مصرية.
ومن جهة أخرى، تستمر الجهود المصرية في رعاية الحوار الوطني الفلسطيني منذ ما بعد الحرب على غزة لتحقيق الأهداف التالية:
1. استيعاب نتائج الحرب التي عززت من وضع حماس السياسي وأضعفت من وضع السلطة.
2. محاولة وضع حد لتفرد حماس في قطاع غزة.
3. التوصل إلى حد من المصالحة، يعزز من شرعية الرئيس عباس، ويوفر له تفويضاً وطنياً لاستمرار سلطته.
مصر وإسرائيل
ما يجعل السياسة المصرية تجاه فلسطين أكثر تعقيداً أن العلاقات المصرية – الإسرائيلية تعرضت خلال العقد الأخير إلى تغيير تدريجي، وصل في النهاية إلى ما يشبه الانقلاب الثاني.
فقد كانت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية الانعطافة الكبرى الأولى في الموقف المصري من المسألة الفلسطينية، سواء لإخراجها مصر من ميزان الدفاع العربي، أو لأنها جعلت مسؤولية مصر تجاه فلسطين مسؤولية ثانوية.
ولكن المعاهدة إياها، سواء في سنوات السادات الأخيرة أو خلال العقد الأول من عهد مبارك، لم تمنع مصر من لعب دور سياسي متفاوت الفعالية في الساحة الفلسطينية وفي مواجهة إسرائيل.
"
ما يجعل السياسة المصرية تجاه فلسطين أكثر تعقيداً أن العلاقات المصرية – الإسرائيلية تعرضت خلال العقد الأخير إلى تغيير تدريجي، وصل في النهاية إلى ما يشبه الانقلاب الثاني
"
فقد شجبت القاهرة بوضوح الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ووقفت إلى جانب ياسر عرفات بعد خروج منظمة التحرير من قاعدتها اللبنانية، كما أظهرت مساندة واضحة للانتفاضة -مع العلم أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت قد فاجأت الأطراف كافة- ودفعت باتجاه مبادلة التحالف مع الولايات المتحدة في أزمة الكويت مع تحرك أميركي شامل لحل المسألة الفلسطينية.
وكذلك تدخلت مصر سريعاً في مباحثات ما بعد اتفاق أوسلو خلال التسعينات، ووقفت إلى جانب السعودية وسورية لإيقاف عجلة التطبيع العربي مع إسرائيل وانتشار النفوذ الإسرائيلي في المنطقة العربية، وإلى جانب لبنان وحزب الله في حرب تحرير الجنوب الطويلة.
فهذا الحد "الأدنى" من التماسك في الموقف المصري، والمحافظة على دور مصر في التدافع العربي – الإسرائيلي، أخذ في التراجع منذ مطلع القرن الجديد، بحيث بدا وكأن القاهرة سلمت نهائياً لإسرائيل باعتبارها قوة إقليمية وبأن دورها يفوق حتى الدور المصري.
ففي اتفاقية الكويز، أخضعت مصر جزءاً ملموساً من تجارتها مع الولايات المتحدة للقناة الإسرائيلية؛ وفي اتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل قدمت القاهرة حسومات غير مبررة تجارياً للجانب الإسرائيلي، كما تراجع التأييد المصري للانتفاضة الفلسطينية الثانية سريعاً بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، لتمارس القاهرة ضغوطاً كبيرة على الرئيس عرفات واستهدفت تقليص صلاحياته؛ ثم سرعان ما تعاونت وانخرطت في جهود عزله، وذلك في إشارة -لم تخف على الإسرائيليين- إلى رفع الغطاء المصري عن الرئيس الفلسطيني.
وعلى الصعيد العربي، لم تتعاون مصر مع واشنطن في غزو العراق وحسب، بل وساهمت في الضغوط الإسرائيلية والأورو – أميركية المتصاعدة على سورية، واتخذت بانفجار الوضع اللبناني بعد اغتيال الرئيس الحريري موقفاً عدائياً صريحاً من سورية، ومن ثم من إيران.
وحتى في ما خص السودان، وبالرغم من وضوح الدفع الإسرائيلي باتجاه تقسيم السودان وما يمثله ذلك من خطر إستراتيجي على مصر، كان الموقف المصري أقرب إلى التحالف مع المنشقين الجنوبيين منه إلى ضرورات الحفاظ على وحدة السودان. ويبدو الموقف المصري من مسألة دارفور أقرب إلى ردود الفعل منه إلى الإستراتيجية المتماسكة.
فهكذا، لا انهيار الوضع العراقي، ولا الاجتياح الإسرائيلي المتكرر للضفة وقطاع غزة (الذي يوصف أمنه بأنه جزء من الأمن المصري)، ولا الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، ولا تضعضع الوضع السوداني الداخلي، حركت السياسة المصرية باتجاه إيجابي عربيا. بل في مناسبات ما، مثل الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 وعلى غزة عام 2008 - 2009، بدا أن الموقف المصري بات أسيراً للموقف الإسرائيلي.