البرنامج النووي المصري
أثيرت في نهاية العام الماضي (2004م) ضجة حول وجود برنامج نووي مصري سري
لإنتاج الأسلحة النووية، فقد زعمت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن علماء
مصريين أجروا تجارب نووية داخل مصر وخارجها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة،
وقالت الصحيفة إن مفتشي الوكالة نقلوا مؤخراً عينات من مواقع مصرية
لتحليلها معملياً، لتحديد توقيت إجراء هذه التجارب وطبيعة المواد المستخدمة
فيها،و زعمت الصحيفة أن جانباً من التجارب المصرية تم في إطار اتفاقات
للتبادل العلمي، وأن تجارب منها تمت في فرنسا وأخرى في تركيا. كما ذكرت
وكالة أنباء "أسوشيتدبرس" أن مصر حاولت إنتاج عدة مركبات من اليورانيوم دون
إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بذلك، واشتملت مواداً تسبق إنتاج
مادة مكسافلورايد اليورانيوم (سادس فلوريد اليورانيوم) القابلة للتخصيب
وإنتاج يورانيوم للأغراض العسكرية
وفي معرض ردود الفعل على هذه الضجة، أكّد وزير الخارجية المصرية تعاون مصر
مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واحترامها لالتزاماتها بشكل مستمر ، و
قال إن وضع مصر بشأن برنامجها النووي سليم تماماً، وإن الوكالة ستصل قريباً
إلى اللحظة التي ستقول فيها ذلك، حيث تم إبلاغ الوكالة بأن أحد الأنشطة
النووية متوقف منذ 25 عاماً
فما هي حقيقة البرنامج النووي المصري؟ هذا ما تسعى المقالة للإجابة عليه من
خلال استعراض التوجه المصري والعربي لامتلاك التقنية النووية ورصد التطور
التاريخي للبرنامج النووي المصري وقدراته، وتقويمه، ثم التعرّف على أسباب
تراجع هذا البرنامج، وصولاً للوقوف على أسباب الزعم بعسكرته.
أولاً: المحاولات العربية النووية وإجهاضها
1 المحاولات العربية لامتلاك التقنية النووية:
قبل سبعينيات القرن العشرين اقتصر الوعي العربي لأهمية الدور الذي يمكن أن
تلعبه الطاقة النووية على بضعة أقطار عربية، وقد تبلور هذا الوعي في أن
الطاقة النووية كمصدر لا ينضب ومضمون سيكون له دور مهم في برامج التنمية
الاقتصادية لهذه الأقطار، وبعدئذٍ تكشّف تنفيذ هذه الفكرة في الجزائر ومصر
والعراق عن انشغال بجوانب معينة من صناعة الطاقة النووية الثقيلة، في حين
أحرزت بقية الأقطار العربية تقدماً متباين الدرجات ببعض جوانب صناعة الطاقة
النووية الخفيفة، وعلى ذلك يصنّف الباحثون التوجُّه العربي لحيازة التقنية
النووية إلى صنفين:
الصنف الأول: ينبع من الحاجة إلى استيعاب التقنية النووية وتمثّلها
وتطويعها واستخداماتها في شتى المجالات السلمية. وبغض النظر عن الصعاب التي
تواجه تنفيذ هذا العمل، فإن الجزائر ومصر والعراق قد عزمت على تحقيقه كما
تشير خططها التنموية وأصابت نجاحاً نسبياً جديراً بالاعتبار.
الصنف الثاني: يتركّز في استخدام التقنية النووية الخفيفة فقط، حيث يبذل
جهوداً واسعة لاستخدام النظائر المشعة في الري والزراعة والطب والصناعة
والبيئة، ولقد أصاب هذا التوجّه نجاحاً بارزاً في الري والطب، وسيبدي
مزيداً من النجاح خلال العقد القادم.
وهناك ثلاث دول عربية تميّزت في وقت ما بقوة التوجه في برامجها النووية،
وهي: مصر، والعراق، والجزائر، وقد حاولت الجزائر اقتحام هذا المجال منذ
فترة طويلة، إلاّ أن الوضع الاقتصادي وكثرة القلاقل الداخلية، وعدم توفّر
كوادر علمية متخصصة للنهوض ببرنامج نووي ذي فاعلية لم يمكنها من ذلك. وقد
اقتصر النشاط الجزائري في هذا المجال على صور للتعاون مع بعض الدول مثل
ألمانيا، والأرجنتين، وكوريا الشمالية، وباكستان لإنشاء مفاعلات أبحاث،
وتمتلك الجزائر مفاعلين نووين بقدرة ضعيفة يستخدمان للأغراض السلمية
أما العراق فقد حصل على أول مفاعل نووي عام 1968م من الاتحاد السوفيتي،
وشهدت الفترة منذ عام 1975م حتى عام 1979م تعاوناً نووياً بين العراق
وفرنسا تم خلالها تزويد العراق بمفاعلين يعملان باليورانيوم المخصب الذي
تعهدت فرنسا بتقديمه وبتدريب (600) عالم ومهندس وفني عراقي في المجالات
النووية. كما تم توقيع بروتوكول للتعاون النووي في مجال الأبحاث العلمية
والتطبيقية بين العراق وإيطاليا عام 1977م بشأن التدريب وأعمال الصيانة
للمفاعلات النووية الأربعة التي تم توقيع اتفاق لشرائها. ومنذ عام 1974م ظل
العراق يبذل جهوداً كبيرة لتوفير مصادر الوقود النووي اللازم لتشغيل
مفاعلاته محلياً ومن مصادر خارجية، وشهد عاما 79، 1980م قيام إسرائيل
بتعطيل البرنامج النووي العراقي
وبالنسبة لمصر، فإن الحديث عن سعيها لتطوير قدرات نووية حقيقية بما يسمح
لها بإنتاج سلاح نووي قد تزايد منذ عام 1998م عندما صرّح الرئيس مبارك بأن
"مصر ستتزود بالسلاح النووي إذا دعت الحاجة لذلك"، وهو ما أثار المخاوف
الصهيونية، وزاد القلق أكثر عندما أعلنت مصر في أبريل 2002م أنها قررت
إنشاء محطة للطاقة النووية السلمية في غضون ثمانية أعوام، بما يعني توافر
محطة حقيقية وليست تجريبية مثل المحطات الحالية، وهو ما تم وصفه بأنه نقلة
نوعية هامة في طريق البرنامج النووي المصري
وكان المشروع النووي المصري قد بدأ عام 1955م طموحاً، وبدا أنه بإمكانه
التوسّع والنمو، ولكن سرعان ما أخذ يتراجع بشكل ملحوظ بعد هزيمة يونيو
1967م، حيث توجّه الدعم المادي وموارد البلاد نحو تسليح الجيش المصري
وإعادة بنائه، ورغم ذلك لم يأخذ المشروع الاهتمام الكافي به، حيث أعلنت
القيادة السياسية تركيز جهودها ومواردها للإصلاح الاقتصادي، وإعادة بناء
البلاد بعد الانتهاء من الحرب، فشهدت فترة السبعينيات تراجعاً مستمراً في
الاهتمام بالمشروع، خصوصاً مع توقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وهجرة
معظم علماء الذرة المصريين خارج البلاد. ووصل التراجع عن المشروع بتصديق
مجلس الشعب المصري على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1981م، رغم
عدم قبول إسرائيل بالانضمام إليها، ثم بتوقيع مصر على اتفاقية الحظر الشامل
للتجارب النووية في ديسمبر 1996م، وهو ما اعتبر إعلاناً رسمياً بتخلي مصر
عن الخيار النووي. ومن ثم مثَّلت سياسة التخلي المصرية عن الخيار النووي
العسكري أهم معالم صورة مصر بالنسبة للدول في هذا الميدان.
2 الموقف الإسرائيلي من الخيار النووي العربي:
قامت إسرائيل بعدة خطوات استهدفت إجهاض وتدمير أي محاولة عربية لتحقيق أي
تقدم في المجال النووي أو في مجال الصواريخ، وتضمنت هذه الخطوات أساليب
سياسية ودبلوماسية، وعمليات مخابراتية، وعسكرية منها(7):
أ بدأت مصر في أوائل الستينيات بمشروع لتطوير صواريخ أرض أرض (القاهر
الظافر) عمل فيه عدد من العلماء الألمان، فشنّت إسرائيل حملة سياسية على
المستشار الألماني (أديناور) واتهامه بمعاداة السامية، ونفّذت المخابرات
الإسرائيلية خطة لإرهاب العلماء الألمان في مصر، وكذلك أسرهم، وذلك بإرسال
خطابات ناسفة أصابت عدداً منهم، كما اختفى في ظروف غامضة عالم ألماني هو
الدكتور (كروج) أحد كبار العاملين في المشروع.
ب عندما وافق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1974م على بيع مفاعل نووي
أمريكي لمصر لتوليد الطاقة الكهربية طلبت إسرائيل مفاعلاً مماثلاً، وتم
التوقيع على الصفقتين في أغسطس 1976م، إلا أن إسرائيل بدأت في إثارة
المشاكل إلى أن تم تجميد الصفقتين.
ج في نهاية 1976م وقّع العراق اتفاقاً مع فرنسا لتزويده بمفاعلين نووين،
فبدأت إسرائيل مساعيها لنسف الاتفاق واستمرت فرنسا في تصنيع المفاعلين،
وعندما لم تحقق الإجراءات السياسية الهدف الإسرائيلي قامت الموساد بعملية
نسف لقلبي المفاعلين في مخازن ميناء طولون الفرنسي، ثم التدخّل بعمل مباشر
عنيف بتدمير المفاعل النووي العراقي في 7 يونيو 1981م.
د ابتزاز الشركات الأجنبية وتهديدها، والضغط عليها لوقف تعاملاتها مع الدول
العربية في المجالات الاستراتيجية، مثلما حدث مع شركة "جلف أند جنرال أوتو
ميكز" الأمريكية التي تراجعت عن مساعدة ليبيا في بناء مفاعل نووي في
(سبها) تحت ضغوط الحكومة الأمريكية والأوساط الصهيونية.
ه إرهاب واغتيال الكوادر العلمية والتقنية من العلماء العرب المرموقين في
المجالات النووية، مثل اغتيال عالمة الذرة المصرية (سميرة موسى) في
الولايات المتحدة عام 1952م، واغتيال عالم الذرة المصري (يحيى المشد) في
باريس يونيو 1980م، والدكتور (سعيد بدير) عالم الميكرووف المصري بمنزله
بالإسكندرية في 14 يوليو 1989م، واغتيال عالم الذرة المصري (سمير نجيب) في
ديترويت أغسطس 1967م.
و الضغط على الدول الغربية المتقدمة لتحديد فرص طلاب دول العالم الثالث في
الدراسات ذات الصفة الاستراتيجية، ورفض انضمام طلاب العالم الثالث لأقسام
علمية بأكملها، وهذا ما تتبعه بريطانيا، حيث ترفض التحاق أبناء دول العالم
الثالث بالمستويات الدراسية الخاصة بتخريج علماء الذرة والصواريخ.
ز التخريب من الداخل عن طريق تجنيد وزرع العلماء والجواسيس داخل المشروع،
كما حدث في مشروع الصواريخ المصري في الستينيات بواسطة النازي السابق
(سكورتنسي) مقابل إغلاق ملفه النازي القديم، وكذلك تدمير مصنع الرابطة
الليبي.
ح شن الحملات التشهيرية واسعة النطاق للتهويل من أي خطوة عربية مهما كانت
متواضعة باتجاه الجهد النووي، والتخويف من القنبلة العربية، والقنبلة
الإسلامية، والقنبلة الإرهابية، والفوضى النووية ...إلخ من أجل تهيئة الرأي
العام العالمي لقبول أي خطوات عنيفة موجهة لتحطيم الجهد العربي في هذا
المجال.
وإذا كانت هذه الأساليب قد اتبعت أو اتبع معظمها في الماضي، فلربما حالت
اتفاقيات السلام دون اتباعها حالياً، فلا أقل من شن حملة إعلامية ضد مصر
لأسباب مختلفة ليس من بينها حقيقة البرنامج النووي المصري، ولكن لاتخاذه
ذريعة لإثناء مصر عن مواقف معينة لا تتفق مع رؤية كل من الولايات المتحدة
وإسرائيل.
ثانياً: البرنامج النووي المصري
1 التطوّر التاريخي:
حين أطلق الرئيس الأمريكي أيزنهاور مبادرة (الذرة من أجل السلام) عام 1953م
لاستغلال الإمكانات الهائلة الكامنة في الذرة من أجل توفير الطاقة والمياه
اللازمتين لحل مشكلات التنمية في العالم، كانت مصر من أوائل دول العالم
التي استجابت لهذه المبادرة لضمان التنمية المستديمة فيها، ففي عام 1955م
تم تشكيل لجنة الطاقة الذرية برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر، لوضع الملامح
الأساسية للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية في مصر، وفي يوليو من العام
التالي تم توقيع عقد الاتفاق الثنائي بين مصر والاتحاد السوفيتي بشأن
التعاون في شؤون الطاقة الذرية وتطبيقاتها في النواحي السلمية، وفي سبتمبر
من عام 1956م وقّعت مصر عقد المفاعل النووي البحثي الأول بقدرة (2 ميجاوات)
مع الاتحاد السوفيتي، وتقرر في العام التالي إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية،
تلا ذلك اشتراك مصر عام 1957م عضواً مؤسساً في الوكالة الدولية للطاقة
الذرية، وبفضل ثقة العالم في النوايا السلمية للبرنامج النووي المصري حصلت
مصر على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك في العام نفسه، وبدأ تشغيل
المفاعل النووي البحثي الأول عام 1961م، و تم توقيع اتفاق تعاون نووي مع
المعهد النرويجي للطاقة الذرية، وفي عام 1964م طرحت مصر مناقصة لتوريد محطة
نووية لتوليد الكهرباء قدرتها (150 ميجاوات) (150 ألف كيلووات) وتحلية
المياه بمعدل (20) ألف متر مكعب في اليوم، وبلغت التكلفة المقدرة (30)
مليون دولار، إلا أن حرب يونيو 1967م أوقفت هذه الجهود
وبعد حرب 1973م طرحت مصر عام 1974م مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد
الكهرباء قدرتها (600 ميجاوات)، وتم توقيع عقد لإخصاب اليورانيوم مع
الولايات المتحدة، وشهد عام 1976م إصدار خطاب نوايا لشركة وستنجهاوس، وكذلك
توقيع اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة، إلا أن تلك الجهود توقفت
في نهاية السبعينيات، بسبب رغبة الولايات المتحدة لإضافة شروط جديدة على
اتفاقية التعاون النووي مع مصر نتيجة لتعديل قوانين تصدير التقنية النووية
من الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بحيث تشمل
هذه الشروط التفتيش الأمريكي على المنشآت النووية المصرية كشرط لتنفيذ
المشروع، وهو ما اعتبرته الحكومة المصرية ماساً بالسيادة ورفضته، وأدى ذلك
إلى توقّف المشروع، وانضمت مصر عام 1981م لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة
النووية ووقعت عدة اتفاقيات للتعاون النووي مع كل من: فرنسا، والولايات
المتحدة، وألمانيا (الغربية)، وانجلترا، والسويد، وقررت الحكومة تخصيص جزء
من عائدات النفط لتغطية إنشاء أول محطة نووية (محطة الضبعة بالساحل
الشمالي)، كما وقعت في العام التالي 1982م اتفاقية للتعاون النووي مع كندا،
وأخرى لنقل التقنية النووية مع استراليا
وفي عام 1983م، طرحت مصر مواصفات مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء
قدرتها (900 ميجاوات)، إلا أنها توقفت عام 1986م، وكان التفسير الرسمي
لذلك هو المراجعة للتأكد من أمان المفاعلات بعد حادث محطة (تشيرنوبل)، رغم
أن المحطة التي كانت ستنشأ في مصر من نوع يختلف تماماً عن النوع المستخدم
تشيرنوبل، مما يوحي بأن التبرير الرسمي لإيقاف البرنامج كان مجرد تبرير
لحفظ ماء الوجه
فقد ذكر الدكتور (علي الصعيدي) رئيس هيئة المحطات النووية المصرية أن بنك
التصدير والاستيراد الأمريكي أوصى بعدم تمويل المحطة النووية المصرية، كما
امتنع صندوق النقد والبنك الدولي عن مساندة المشروع، ثم جاءت حادثة
تشيرنوبل والحملات الدعائية الغربية لتخويف دول العالم الثالث، ومن ثم
لتجمّد المشروع النووي المصري
وتميزت الفترة - منذ نهاية الثمانينيات حتى الوقت الراهن - بمحاولة كسب
التأييد السياسي لدفع البرنامج النووي واستمرار استكمال الكوادر المطلوبة
للبرنامج، علاوة على استكمال الدراسات الفنية، فتم إنشاء محاكي المحطة
النووية بالموقع المقترح لهيئة الطاقة النووية بالضبعة، وحدث تعاون بين
الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهيئة المحطات النووية المصرية، لدراسة جدوى
إقامة المحطات النووية ذات المفاعلات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتم
الانتهاء من الدراسة عام 1994م. وفي عام 1992 تم توقيع عقد إنشاء مفاعل مصر
البحثي الثاني مع الأرجنتين، ثم توالت في السنوات 95، 96، 1998م بعض
المشروعات المتعلقة باليورانيوم ومعادن الرمال السوداء وصولاً إلى افتتاح
مصنع وقود المفاعل البحثي الثاني
وفي خطوة مثيرة بعد تردد أكثر من 16 عاماً أعلنت مصر في مايو 2002م عن
إنشاء محطة للطاقة النووية السلمية في غضون 8 أعوام بالتعاون مع كوريا
الجنوبية، والصين، وهو ما وصفه خبراء مصريون في الطاقة بنقلة نوعية هامة
على طريق البرنامج المصري، خصوصاً وأن مصر كما يقولون لديها "انفجار" في
الكوادر العلمية النووية بدون عمل تقريباً، كما أن المفاعلين الموجودين
حالياً يكفيان لتدريب العلماء تجريبياً وليس تطبيقياً، وأرجع بعضهم إنشاء
المحطة الجديدة إلى استيعاب الكوادر الفنية المصرية المتزايدة في مجال
الطاقة النووية، وربما أيضاً لعدم الاعتماد فقط على الغاز الطبيعي في مجال
الطاقة. وترجع أهمية الإعلان عن إنشاء هذه المحطة إلى رفض مصر على مدى 16
عاماً فكرة بناء مفاعلات نووية لأسباب مختلفة، وكان الرئيس المصري (حسني
مبارك) قد كرّر أكثر من مرة في تصريحات رسمية رفضه بناء مفاعلات نووية
لإنتاج الطاقة بسبب مخاطرها، إذ قال في طريق عودته في 29 أبريل 2001م من
جولة شملت ألمانيا ورومانيا وروسيا: إنه "لا تفكير في الوقت الحالي في
إقامة محطات نووية لتوليد الكهرباء في مصر، لأنه تتوافر لدينا كميات كبيرة
من الطاقة، واحتياطات الغاز الطبيعي المبلشرة في تزايد من عام إلى آخر، وفي
ضوء عدم ترحيب الرأي العام المصري بإقامة مثل هذه المحطات
2 القدرات المصرية النووية:
من خلال التطور التاريخي للبرنامج النووي المصري، فإن قدرات هذا البرنامج
تتركز في إنشاء المراكز البحثية، والمفاعلات البحثية، وتأهيل الكوادر
البشرية، والتعاون الإقليمي والدولي:
المراكز البحثية النووية:
أقامت مصر عديداً من المراكز، من أقدمها مركز البحوث النووية، وتتنوع
نشاطاته لتشمل البحوث النووية الأساسية، وبحوث الطرف الأمامي لدورة الوقود
النووي والمفاعلات، وكذلك تطبيقات النظائر المشعة في الطب والصناعة
والزراعة.
l المركز القومي لبحوث وتقنية الإشعاع: ويهدف إلى تنمية البحوث والتطوير
باستخدام الإشعاعات المؤينة في مجالات الطب والزراعة والبيئة وغيرها، ويضم
المركز العديد من تسهيلات البحث والتطوير التي من أهمها وحدة التشعيع
الجامي والمعجّل الإلكتروني.
l مركز المعامل الحارة وإدارة المخلفات: ويهدف إلى تطوير الخبرة في مجالات
الطرف الخلفي لدورة الوقود النووي، ومعالجة المخلفات المشعة، وكذلك إنتاج
النظائر المشعة المستخدمة في مختلف التطبيقات الطبية والصناعية.
ب المفاعلات النووية البحثية:
l المفاعل النووي البحثي الأول (ET-RR-1): بدأ العمل به عام 1961م، بمساعدة
الاتحاد السوفيتي السابق، وهو مصمم لإنتاج النظائر المشعة وتدريب العاملين
والفنيين، وهو مفاعل تجارب فقط، تبلغ قوته (2 ميجاوات)، ويعمل باليورانيوم
المغني، ويوجد به (9) قنوات كل قناة تسمح بخروج نيوترونات بقدر معين
واتجاه معين لإجراء تجارب التشعيع وإنتاج النظائر المشعة، ويفصل بين
المشتغلين في كل قناة حائط ضخم من الرصاص يمنع تأثير الإشعاعات لكل قناة
على تجارب القناة المجاورة لها، ولا يصلح الوقود النووي الناتج من تشغيل
المفاعل للأغراض العسكرية.
l المفاعل النووي البحثي الثاني متعدد الأغراض (MRR): أقيم بالتعاون مع
الأرجنتين وتم افتتاحه في فبراير 1998م، بقدرة (22 ميجاوات) ويعد إضافة
تقنية جديدة في الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، ولا يستخدم في الأغراض
العسكرية، ويحقق مردوداً اقتصادياً بإنتاج عديد من النظائر المشعة، ومصادر
إشعاع جاما اللازمة لتشغيل معدات علاج الأورام، بالإضافة إلى تعقيم المعدات
الطبية والأغذية، وينتج المفاعل رقائق السيلكون المستخدمة في الصناعات
الإلكترونية الأساسية، ويقوم باختبار سلوك الوقود والمواد الإنشائية
للمفاعلات، ويساهم في توفير النظائر المشعة المطلوبة للتطبيقات الطبية
والزراعية والصناعية، ويؤهل مصر للاعتماد على الذات في مجالات الاستخدامات
السلمية للطاقة النووية.
ج تأهيل الكوادر البشرية:
تضطلع هيئة الطاقة الذرية المصرية ببرامج للتأهيل والتطوير المستمر للكوادر
البشرية العاملة بها، والملتحقين الجدد، وذلك للإلمام بمبادئ الفيزياء
الصحية والوقاية الإشعاعية والتعامل مع المصادر الإشعاعية، وهناك برامج
متخصصة لكل مركز من مراكز الهيئة لتأهيل الكوادر الخاصة قبل الالتحاق
بالعمل. وتجري الهيئة سلسلة متواصلة من برامج التدريب تغطي عديداً من
المجالات، من أهمها: تطبيقات مفاعلات البحوث، والمعجلات، الوقاية
الإشعاعية، تطبيقات النظائر المشعة، الإلكترونيات، تحلية مياه البحر، تآكل
الفلزات وحمايتها، تحليل الانهيارات، اللحام، الأمان البيئي، توكيد الجودة،
إدارة المخلفات، وتجري بعض هذه الدورات التدريبية ضمن برنامج التعاون
الإقليمي والدولي.
د التعاون الإقليمي والدولي:
شاركت هيئة الطاقة الذرية المصرية كعضو مؤسس في الوكالة الدولية للطاقة
الذرية عام 1957م، ومنذ هذا التاريخ أبرمت الهيئة اتفاقيات للتعاون الثنائي
مع العديد من الدول في مجالات تبادل المعلومات، والتدريب، ونقل التقنية،
وتبادل الخبرات، وتوريد المعدات الفنية. وتأتي مصر على رأس قائمة الدول
التي تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتمويل مشروعاتها البحثية
والتقنية، وتشارك الهيئة المصرية في برامج للتعاون مع دول ومنظمات دولية
كثيرة على المستويين الإقليمي والدولي، تشمل: الدول الإفريقية، والهيئة
العربية للطاقة الذرية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمركز الدولي
للفيزياء النظرية بإيطاليا، وجمهورية روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة،
والأرجنتين، وكندا، والهند.
3 تقويم التجربة المصرية في المجال النووي:
من خلال استعراض التطور التاريخي للبرنامج النووي المصري، وإمكانات وقدرات هذا البرنامج يمكن رصد الملاحظات التالية:
أ استطاعت مصر في فترة متقدمة استكمال كثير من المتطلبات التنظيمية من حيث
القوانين المنظمة لعمل الهيئة المختصة وما يتبعها من مراكز، علاوة على
الفصل بين هيئات الأبحاث والهيئات المختصة بإنشاء المفاعلات النووية أو
المسؤولة عن دورة الوقود النووي
ب تميزت الجهود المصرية بكثير من الشفافية، وبخاصة في مرحلة السبعينيات
والثمانينيات، وبالتالي لم تواجهها عقبات تذكر من الرقابة الدولية، ومن ثم
لم تقف التشريعات الدولية حائلاً أمام امتلاك برامج نووية سلمية أو على
الأقل اتخاذ خطوات فعّالة في هذا الاتجاه
ج وصلت التجربة المصرية إلى حد أن كانت المسافة بين المشروع النووي
الإسرائيلي والمشروع النووي المصري عام 1965م، 18 شهراً وفقاً لتقديرات
دولية وأمريكية، كما وصلت إلى حد مرحلة إرساء العطاء لتوريد محطة نووية على
شركة محددة (محطة الضبعة 1986م)، وبالتالي تكون هذه التجربة قد بلغت مرحلة
متقدمة جداً من مراحل تطبيق واقعي لبرنامج نووي
د إن التجربة المصرية تجسّد إشكالية تبني برنامج نووي طموح في معظم الدول
النامية وبخاصة الدول العربية حيث ضعف الإمكانات الاقتصادية، وضرورة
الاعتماد على الخبرات والمساعدات الأجنبية، مما سيعرّض المشروع كله إلى
مخاطر كثيرة، وفي طليعتها سحب الخبراء وإيقاف المساعدات وغير ذلك من مخاطر
وضغوط.
ه رغم حالة التعثّر التي مر بها المشروع النووي المصري فإنه من الممكن
التغلّب على كافة المعوقات بامتلاك الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية
الواضحة، والعمل الحقيقي للتعاون لتوفير التمويل اللازم، وتبادل الخبرات
المتوافرة، وهو ما يؤكده إقامة المفاعل البحثي الثاني، حيث تم التوجه
لتدريب كوادر شابة لتوطين التقنية النووية، واختيار الجهة التي قدمت عرض
مصنع الوقود، علاوة على تخفيض قيمة العرض، رغم عروض أخرى مقدمة من دول كبرى
في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلاوة على ذلك اضطلاع القطاع
الخاص المصري بالإنشاءات المدنية والأعمال الكهربائية والميكانيكية، وتصنيع
وعاء المفاعل ووعاء الماء الإضافي، وهو ما يوضح إمكانية مشاركة الصناعة
المصرية في إنتاج أجزاء عديدة خاصة بالمحطة النووية وإنتاج الوقود والماء
الثقيل في حالة الحاجة إليها
و بدأ المشروع النووي المصري طموحاً سنة 1955م، وبدا وكأن بإمكانه التوسّع
والنمو، وسرعان ما بدأ يتراجع بشكل ملحوظ بعد هزيمة يونيو 1967م، حيث توجه
الدعم المادي وموارد البلاد نحو إعادة تسليح وبناء الجيش المصري، وتركز
جهود القيادة السياسية على الإصلاح الاقتصادي، وإعادة بناء البلاد بعد
الحرب، وشهدت فترة السبعينيات تراجعاً مستمراً في الاهتمام بهذا المشروع،
خصوصاً مع توقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وهجرة معظم علماء الذرة
المصريين، ثم بالتوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي 1981م، ومعاهدة
الحظر الشامل للتجارب النووية 1986م، الأمر الذي اعتبره المراقبون تخلياً
عن الخيار النووي
4 أسباب تراجع البرنامج النووي المصري:
أ العوامل السياسية والاستراتيجية:
تعد مصر واحدة من بين بلدان العالم الثالث المحدودة التي أُتيح لها منذ
البداية المشاركة في عملية صنع الاتفاقيات الخاصة بنزع السلاح، من خلال
عضويتها بلجنة الدول الثماني عشرة لنزع السلاح التي أُنشئت عام 1961م
والمسماة حالياً بمؤتمر نزع السلاح ومقره جنيف، هذا بالإضافة إلى أن الرئيس
المصري محمد حسني مبارك أولى عناية خاصة لقضايا نزع السلاح في إطار رؤيته
الشاملة لإعادة البناء الاقتصادي لمصر، وما يتطلبه ذلك من نزع فتيل سباق
التسلّح في منطقة الشرق الأوسط ودعم الأمن والاستقرار فيها. وقد بلورت مصر
موقفها النهائي تجاه هذه المنطقة في عدة نقاط، من بينها أن التزام مصر
بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط أمر لا يرقى إليه
شك، وقد ظلت مصر على امتداد السنين تؤدي دوراً قيادياً في تعزيز الهدف
المتمثل في تخليص المنطقة من تهديدات هذه الأسلحة ومن ناحية أخرى فقد أصبح
مفهوماً أن تعبير سياسة مصرالنووية لم يعد يرتبط بأية مساع لامتلاك سلاح
نووي، فقد اتخذت مصر قراراً استراتيجياً في وقت ما قبل عدة عقود بالتوقّف
عن التفكير في الخيار النووي العسكري، وترسخ تصور محدد عبر العالم استناداً
إلى مؤشرات جادة بأن مصر تمثل واحدة من أبرز أعضاء نادٍ صغير من الدول
قامت أطرافه طوعاً بتبني سياسة اللانووية العسكرية، ورغم امتلاكها قدرات
ملموسة في هذالميدان على غرار البرازيل، والأرجنتين، وكوريا الجنوبية،
وتايوان، إضافة إلى القوتين الكبريين في النادي النووي المدني وهما اليابان
وألمانيا
ب القيود التقنية الدولية:
كانت الرغبة في الحصول على الطاقة النووية من بين أسباب تصديق مصر على
معاهدة عدم الانتشار النووي، فقد لمست منذ عامي 1974، 1980م تشدد الدول
المالكة للتقنيات النووية بشأن تصدير هذه التقنيات للدول غير الأعضاء بصفة
كاملة في معاهدة عدم الانتشار، وذلك من خلال رفض الولايات المتحدة،
وألمانيا الغربية، وكندا، وفرنسا الدخول في مفاوضات جدية معها للتعاون
النووي دون أن تنضم للمعاهدة أو تخضع لشروطها، ورغم ما يقال عن أن مصر
استفادت بالتوقيع على المعاهدة في تدعيم مصداقية توجهاتها الخاصة بنزع
الأسلحة النووية القائمة في المنطقة لدى إسرائيل تحديداً، وعدم دعم أي
محاولة لتوسيع دائرة انتشار تلك الأسلحة في المنطقة لدى دول أخرى، وأنها
تمكنت من تطوير قدراتها النووية السلمية (البحثية)، فإن اتصالاتها التي