لقد أثيرت في الآونة الأخيرة قضية الذميين الذين يعيشون في بلاد المسلمين منذ أعماق التاريخ في ظل ما تشهده المنطقة من ثورات وتغييرات، على نحو تستخدم فيه قضيتهم كسلاح ضد المسلمين المطالبين بتطبيق شرع ربهم، وضد حركاتهم وثوراتهم، تحت ذريعة ما قد يحصل للذميين من الإسلام فيما لو وصل إلى سدة الحكم، فبدأت الدعاوى والإشاعات والافتراءات والتوجسات تنطلق حيث يوجد ذميون في بلاد المسلمين التي شهدت وما زالت مخاضا للتخلص من الحكام المجرمين وأنظمة حكمهم، وحولوا القضية إلى قضية تشبه ما عند الغرب من قضايا الأقليات المظلومة المسحوقة، وبواسطة ماكناتهم الإعلامية وعملائهم سوقوا لهذا الطرح، وبأساليب رخيصة قاموا بتفجير كنيسة هنا، وقتل جمع منهم هناك وإلصاق ذلك بالمسلمين زورا وبهتانا، فخرج في مصر وتونس من يخوّف من المسلمين في حال وصلوا إلى سدة الحكم، مدعين أنّ أقباط مصر ويهود تونس سوف يعانون الأمرّين في ظل حكم الإسلام فيما لو حدث، وهو ما دفع للأسف الشديد بقادة بعض الحركات الإسلامية إلى طمأنة الذميين إلى درجة وصلت إلى مخالفتهم أحكام الإسلام من أجل استرضاء تلك الأصوات ومن وراءها، فأبدت بعض القيادات في الإخوان المسلمين في مصر قبولها لأن يكون رئيس مصر نصرانيا، كما عينت الدكتور رفيق حبيب، المفكر القبطي في منصب نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، حزب الإخوان المسلمين الجديد في مصر.
وفي نوفمبر 2011 طالب الناشط القبطي منير داود، رئيس الاتحاد المسيحي والرابطة القبطية الأمريكية والمقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون (بما سماها) "سرعة التدخل لإنقاذ الأقباط في مصر من الإسلاميين المتشددين، الإخوان والسلفية".
بينما قال أتون خليفة رئيس الرابطة اليهودية في تونس في أكتوبر 2011، "إنّ الجالية غير قلقة من فوز "النهضة" في هذه الانتخابات، رغم كونه حزبا إسلاميا، ولكن السلفيين هم مبعث الخوف الوحيد لدى اليهود التونسيين الذين ظهروا على الساحة منذ الثورة بعد أن كان نظام بن علي يسكتهم بل وأصبح لهم حزب سياسي هو حزب التحرير."
وكذلك في لبنان، بدأ بعض الذميين يثيرون مخاوفهم من مستقبل التغيير والثورات إذا أخذت الوجهة الإسلامية، فقد حذر البطريرك مار الراعي في سبتمبر 2011 في اجتماعه مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ومع موفد من الفاتيكان في باريس، من مستقبل المسيحيين في المنطقة في ظل الثورات، وادعى أنّ هناك خوفا على الوجود المسيحي في هذه المنطقة وحذر من حكم الإخوان المسلمين في سوريا.
وهكذا تمضي التخوفات والذرائع التي وصلت إلى درجة مهاجمة الإسلام والدعوة إلى الحيلولة دون وصوله إلى الحكم.!
وللوقوف على هذه القضية أتناول الموضوع من زاويتين، الأولى، معنى أهل الذمة وحقوقهم ومكانهم في ظل حكم الإسلام ومن ثم أتناول التطبيق العملي لذلك الحكم خلال تاريخهم في بلاد المسلمين.
فالذميون هم الذين كانوا من رعايا الدولة الإسلامية ممن يدينون بغير الإسلام، وقد أخذوا هذا الاسم من الذمة بمعنى العهد، فهم أهل ذمتنا أي عهدنا الذي أعطيناهم إياه حين دخلوا في الدولة أول مرة وحصلوا على تابعيتها.
وقد جاء الإسلام بأحكام عدة لأهل الذمة، منها أنهم لا يفتنون عن دينهم ولا يكرهون على الدخول في الإسلام، بل يُتركون وما يعتقدون وما يعبدون وما يطعمون، ولا يكلفون بشيء من التكاليف التي يكلف بها المسلمون كالجهاد والزكاة "والضرائب عند الحاجة الضرورية"، فلا يُكرهون على القتال، ولكن يجوز لمن شاء منهم أن يقاتل في جيش المسلمين باختيار منه، ويؤدي هؤلاء الذميون الجزية فقط، قال عليه الصلاة والسلام (أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية)، والجزية مبلغ من المال يؤخذ من البالغين الذكور القادرين عليها لقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد)، فاليد كناية عن القدرة، ولا تؤخذ من النساء والأطفال، وإذا أسلم الذمي، أو صار فقيرا سقطت عنه الجزية، وفي الحالة الأخيرة تتولى الدولة الإنفاق عليه من بيت المال.
ويُعامل أهل الذمة معاملة حسنة، ويُنظر لهم أمام الحاكم وأمام القاضي وعند رعاية الشؤون وحين تطبيق المعاملات والعقوبات كما يُنظر للمسلمين دون أي تمييز، ويخضعون لأحكام الإسلام كما يخضع لها المسلمون.
وقد أوصى الإسلام بمعاملة الذمي معاملة حسنة، فيُرفَق به ويُعان على أمره ويجب أن يقوم المسلمون على حمايته وحماية ماله وعرضه، وأن يُضمن له قوته ومسكنه وكسوته. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني).
وهكذا يكون الذميون رعايا للدولة الإسلامية كسائر الرعية لهم حق الرعوية وحق الحماية وحق ضمان العيش وحق المعاملة بالحسنى وحق الرفق واللين، ولهم أن يشتركوا في جيش المسلمين ويقاتِلوا معهم، ولكن ليس عليهم واجب القتال ولا واجب المال سوى الجزية، فلا تُفرض عليهم الأموال التي تُفرض على المسلمين، ولهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف، فواجب العدل معهم كما هو واجب مع المسلمين. ولكل من يحمل التابعية، وتتوفر فيه الكفاية رجلاً كان أو امرأة، مسلماً كان أو غير مسلم أن يعين مديراً لأية مصلحة من المصالح، أو أية إدارة، وأن يكون موظفاً فيها.
والدولة إنما تتعامل معهم بوصف التابعية كالمسلمين، ولا يوجد في الدولة وصف الأقلية والأكثرية الدارج استخدامهما هذه الأيام، فالإسلام يعتبر الجماعة التي تحُكم بموجب نظامه وحدة إنسانية، بغض النظر عن طائفتها وجنسها ولا يُشترط فيها إلاّ التابعية أي الاستيطان فيها والولاء للدولة ولا توجد فيه الأقليات، بل جميع الناس باعتبار إنساني فقط هم رعايا في الدولة الإسلامية، ما داموا يحملون التابعية.
والسياسة الداخلية للدولة الإسلامية هي تنفيذ الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. فكل من يحمل التابعية الإسلامية فهو من رعايا الدولة الإسلامية سواء أكان مسلماً أم غير مسلم وله على الدولة من الحقوق وعليه لها من الواجبات ما يستحقه حسب الشرع، والدولة مسئولة عنه، وعن كفالته، وحمايته وحماية أمواله وعرضه، وتوفير الأمن والعيش والرفاهية والعدل والطمأنينة له، بدون أي فرق بين مسلم وغير مسلم. وبذلك لا يوجد في الإسلام معنى للأقليات أو وجود، فالكل أمام الدولة سواسية كأسنان المشط.
وقد عاش الذميون في ظل هذه الأحكام قرونا عديدة لقوا خلالها من حسن المعاملة وجميل الرعاية ما جعل نصارى بلاد الشام ينضمون للمسلمين في حروبهم مع الصليبيين، وتسامع الناس في الخارج بما يلقاه أهل الذمة من حسن المعاملة وضمان الحقوق مما دفع بيهود إسبانيا لأن يعينوا المسلمين على فتح الأندلس، كل ذلك حصل في الوقت الذي كانت فيه حقوق الشعوب المغلوبة مهدورة غير مصانة من قبل سائر الدول في العالم آنذاك.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال له ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والسن والحاجة. فقال له: ما أنصفناك كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك"، وأخذه إلى بيته، وأعطاه ما يقيته، ثم أرسله إلى خازن بيت المال، وأمره أن يسقط عنه الجزية، وأن يعطيه من مال بيت المال. وقصة عمر بن الخطاب في رفع الظلم الذي وقع على القبطي من ابن عمرو بن العاص والي مصر مشهورة حين أمر الخليفة القبطي أن يقتص لنفسه من ابن الوالي أمام أبيه. وكذلك قصة سيدنا علي بن أبي طالب في التحاكم إلى القاضي شريح بشأن درعه الذي أخذه الذمي مشهورة في الإنصاف والمساواة أمام القضاء.
والشواهد على إحسان الدولة الإسلامية للذميين أكثر من أن تُحصى، يذكرها إلى اليوم حتى أهل صقلية في ايطاليا وأهل مناطق أخرى كثيرة لم يعد للإسلام ولا للمسلمين فيها أثر منذ ردح طويل من الزمن.
ولقد شعر أهل الذمة بذلك الإنصاف والعدل إلى درجة أنهم فضلوا دولة الإسلام والعيش بين المسلمين على العيش في بلاد الغرب أو التعاون معهم، ففي الحروب الصليبية قد انحاز نصارى الشرق إلى المسلمين وقاتلوا معهم ضد الصليبين على الرغم من محاولة الصليبين استمالتهم وإثارتهم ضد الدولة الإسلامية، إلى درجة أنهم أفقدوا الصليبين أحد الأوراق التي كانوا يعولون عليها في هزيمة المسلمين.
وكذلك فضل يهود إسبانيا الهروب منها على أثر هزيمة المسلمين فيها ولجأوا إلى حيث حل المسلمون فيما يعرف بيهود الدونما، حيث أنهم كانوا يعيشون حياة عدل وإنصاف في ظل حكم المسلمين، فذات مرة شكا تاجر يهودي من أميرها محمد بن عبد الرحمن إلى القاضي سليمـان بن أسود، لأنه أخذ جارية منه دون أن يسدد ثمنها أو يردها إليه، فهدد القاضي الأمير بالسفر إلى قرطبة لإبلاغ والده الأمير عبد الرحمن الأوسط 822-852م إذا لم يعطِ اليهودي حقه، فاستجاب الأمير ودفع ثمن الجارية. فعدم تهيب اليهودي من رفع تظلمه إلى القضاء، مع أنّ خصمه هو الوالي نفسه وابن حاكم الأندلس، دليل على أنّ اليهود كانوا يعاملون فيها بالعدل، ولا يتوقعون من حكامها وقضاتها إلا الإنصاف.
ويتحدث مؤرخ لاتيني عن حملة قام بها المسلمون سنة 861م لفتح مدينة برشلونة، ويذكر أنّ اليهود ساعدوا المسلمين على دخول المدينة. وهو يدل على أنّ اليهود الذين كانوا يعيشون تحت حكم النصارى في الشمال الأسباني، كانوا يفضلون حكم المسلمين على النصارى.
ولقد كتب بعض المنصفين من النصارى في فضائل الدولة الإسلامية وكيف أنّ النصارى قد عاشوا فيها حياة عدل وكرامة لم يشهدوا لها مثيلا.
يقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأنّ العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح".
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: "العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سُمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".
وينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام" قوله: "إنّ تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة".
ويقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": "إنّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحلت بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذت العربية لغة لها، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".
ويقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم".
وهكذا نرى كيف أنّ الإسلام قد أنصف أهل الذمة وضمن لهم العدل والكرامة في دولة الإسلام، ونرى كيف أنّ أهل الذمة قد خبروا ذلك وعاينوا ذلك طيلة سنوات الحكم الإسلامي، سيما الراشد منه.
لذلك فإنّ تخويف غير المسلمين من الإسلام القادم هو مؤامرة غير نزيهة ولا شريفة، تقف وراءها أصابع مشبوهة بأغراض استعمارية مصلحية، فحياة غير المسلمين في ظل دولة الخلافة القادمة هي خيرٌ ألف مرة من حياتهم في ظل حكام الجور وعملاء الاستعمار، فالإسلام هو من سيصون الحرمات والدماء والأعراض، وينصف المظلومين والمقهورين، ولا يمكن أن يتحقق العدل بين الناس إلا في ظل دولة الإسلام القادمة، فالإسلام إنما جاء رحمة للعالمين.
وعلى أهل الذمة أن يسعوا لأن تكون الخلافة اليوم قبل الغد، لأن دولة الخلافة ستكون مخلصا لهم وللعالم كله من جور الرأسمالية وظلم العلمانية ووحشية الدكتاتورية.