وفى 1955 كان التفكير فى إنشاء حلف بغداد وضم مصر إليه.. فقام إيدن فى محاولة أخيرة لإخضاع عبد الناصر بزيارة لمصر فى فبراير 1955 وكان لقاء إيدن مع عبد الناصر بمثابة فشل ذريع وخصوصا بسبب الأسلوب المتعالى الذى تعامل به إيدن مع عبد الناصر.. فى 4 أبريل 1955 - وقبل أن يصبح إيدن رئيسا للوزراء بيوم واحد - تم توقيع حلف بغداد بدون انضمام مصر اليه، لم يعد لدى البريطانيين ورق كثير للعب مع عبد الناصر بعد توقيع اتفاق الجلاء سوى الأسلحة التى كانوا هم والفرنسيون يوردونها اليه.
فى مايو 1955 وبعد نصيحة من الرئيس اليوغوسلافى تيتو قام ناصر بعقد صفقة أسلحة سرية مع الروس من خلال تشيكوسلوفاكيا.. لم تعلم المخابرات البريطانية بهذه الصفقة السرية سوى فى 26 سبتمبر وعندما علمت بها جن جنون أنتونى إيدن وخصوصا أن الأمريكان كانوا على علم بها.. وفى 27 سبتمبر بدأت أجهزة التجسس البريطانية تلتقط سيل المراسلات بين القاهرة وبراج حول الصفقة التى اتضح أن قيمتها 400 مليون دولار وكانت تشمل توريد 80 طائرة ميج مقاتلة، و45 مقاتلة قاذفة قنابل أليشون و150 دبابة.. كما حصلت المخابرات البريطانية على تفاصيل أكثر عن هذه الصفقة عن طريق عميل مصرى اسمه محمد حمدي كان يعمل فى القسم التجارى للسفارة المصرية فى براج.. وكما يقول الكتاب كان محمد حمدي فى الستين من العمر وكان يهوى النساء بشدة ولذلك نجحت عميلة للمخابرات البريطانية جاءت خصيصا من فيينا لاصطياده فى شهر عسل وتجنيده.. وبسرعة وبنجاح بالغ - كما يقول الكتاب - وقع محمد حمدي فى الفخ.. ومن خلال هذا المحمد حمدي نجحت المخابرات البريطانية فى الإلمام بجزء كبير من خبايا صفقة الأسلحة المصرية التشيكية أو بالأحرى صفقة الأسلحة المصرية السوفيتية.. على أية حال كان لابد من تحرك بريطانى طلب إيدن من وزارة الخارجية والمخابرات البريطانية تدبير خطط جديدة للخلاص من عبد الناصر، وتراوحت هذه الخطط بين محاولات لتدبير تفجيرات فى عدد من المدن المصرية لإرهاب عبد الناصر أو رشوته بصورة مباشرة وحتى تدبير انقلاب ضده.. كان هناك تفكير لدى المخابرات البريطانية أن يقود على ماهر رئيس الوزراء السابق هذا الانقلاب ولكن كان ذلك شبه مستحيل ليس فقط لعدم شعبية على ماهر ولكن لكبره فى السن.. كل هذه المحاولات باءت بالفشل لأن التقديرات داخل الأجهزة البريطانية كانت متضاربة علاوة على أنها كانت تجمع على أن ناصر لن يصبح متحالفا مع السوفييت والشيوعيين.. ويقول أحد تقارير المخابرات البريطانية فى 28 نوفمبر 1955 إنه لو تبين أن عبد الناصر سيصبح دمية شيوعية فإن الأسلوب الأمثل للتعامل معه هو قلب نظام حكمه وليس تقديم رشوة هائلة له ولم يعد بعد كل هذا أية أوراق لإغراء ناصر سوى تمويل السد العالى الذى كان يطمع عبد الناصر فى أن يحقق به جزءا كبيرا من أحلام المصريين فى التنمية.
فى 14 ديسمبر 1955 قرر البريطانيون والأمريكان تقديم عرض لعبدالناصر بتمويل السد العالى من خلال البنك الدولى.. وفى يناير 1956 كانت تقديرات المخابرات البريطانية أن الشرق الأوسط قد يصبح على حافة انفجار فى هذا العام، تم تعيين سلوين لويد وزيرا للخارجية البريطانية.. عمل لويد كل ما فى وسعه منذ بدء تعيينه على التنسيق مع الأمريكان فى كل ما يخص عبد الناصر، كان هناك اقتناع فى هذه الفترة بين أجهزة الحكم والمخابرات فى بريطانيا وأمريكا بأنه لابد من عمل شيء تجاه عبد الناصر ولكن التناقض فى الشخصيات والسياسات وسوء التحليلات لم يؤد إلى سياسة فعالة، ولكن بحلول فبراير 1956 كان هناك تنسيق بين المخابرات البريطانية والأمريكية لاغتيال عبد الناصر.. كانت خطة الاغتيال - التى أعدتها أساسا المخابرات البريطانية - أشبه بأفلام جيمس بوند ولذلك لم يوافق عليها الأمريكان وبالتالى فشلت، ثم تطورت الأمور للأسوأ بقيام الملك حسين فى 1 مارس بإقالة جلوب باشا القائد البريطانى للفيلق العربى فى الأردن وإعلانه الانحياز لعبد الناصر، هذا القرار أصاب إيدن بحالة جنون وجعله يفكر من جديد فى خطة اغتيال عبد الناصر.. فى 15 مارس 1956 كتب إيدن مذكرة للرئيس الأمريكى أيزنهاور يقول فيها إن لديه معلومات مؤكدة أن عبد الناصر يسعى لتأسيس ولايات عربية متحدة بعد العمل على إسقاط الملكيات الحاكمة فى العالم العربى وخصوصا فى ليبيا والعراق والأردن، علاوة على تدمير إسرائيل وكل هذا يصب فى صالح الاتحاد السوفيتى فى النهاية. كان إيدن يسعى من خلال هذا الخطاب لكسب التوجه الأمريكى من جديد ضد العمل على إسقاط عبد الناصر أو اغتياله.. ثم تطورت الأمور على النحو المعروف بعد قرار البنك الدولى بسحب عرضه لتمويل السد العالى ثم الرد من جمال عبد الناصر فى 26 يوليو فى الإسكندرية بتأميم شركة قناة السويس.. ويحكى الكتاب جهود المخابرات البريطانية ضد عبد الناصر فى هذه الفترة من خلال القيام بعملية دعاية ضخمة موجهة من راديو القاهرة الذى كان يبث من قبرص وليبيا وعدن فى اليمن.. وأخيرا طرحت فكرة اغتيال عبد الناصر من جديد.. قام إيدن باستدعاء جورج يانج مدير الإم آى سكس ووقع طلبا مكتوبا باغتيال عبد الناصر! ولم يكن هناك مفر من تحقيق هذا الطلب وكان الاتجاه هذه المرة أمام المخابرات البريطانية هو التنسيق مع الموساد الإسرائيلى والمخابرات الفرنسية.. الأكثر من هذا قام إيدن بالاتصال تليفونيا مع ديفيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل وحتى مع مدير الموساد أيسر هاريل وعلاوة على ذلك الاتصال بالفرنسيين للتنسيق.. وأصبح ضابط المخابرات البريطانية الشهير جوليان آمري هو المنسق العام للخطة والمسئول عن الاتصال مع المعارضة المصرية المؤيدة لإسقاط ناصر وأغلبهم من الأسرة الملكية أو مصريين ساخطين على عبد الناصر.
وبدءا من 27 أغسطس 1956 عقد آمري ومعه ضابط مخابرات بريطانية سلسلة لقاءات مع شخصيات مصرية ضمت ممثلين عن حزب الوفد ومقربين من رئيس الوزراء الوفدى السابق مصطفى النحاس باشا، كما قاموا بتنشيط اتصالاتهم من جديد بسعيد رمضان فى جنيف، وكانت هناك خطة تقوم على أنه أثناء عملية ضرب وغزو مصر تقوم المخابرات البريطانية باخراج اللواء محمد نجيب من محبسه المنزلى وتوليته الرئاسة وتعيين صلاح الدين وزير الخارجية المصرى فى الفترة من 1950 الى 1952 رئيسا للوزراء، كما طرح اسم على ماهر وطرحت مجموعة أخرى من المتآمرين يقودها - حسب زعم الكتاب - اللواء حسن صيام قائد سلاح المدفعية فى ذلك الوقت ومعه مجموعة من ضباط الجيش المتقاعدين ممن كانوا ساخطين على عبد الناصر، كما عاد امري للخطة المحبوبة لدى المخابرات البريطانية وهى أنه بعد الغزو والخلاص من عبد الناصر يتم تعيين الأمير محمد عبد المنعم - ابن الخديو عباس حلمى الثانى - ملكا على مصر وتعيين أحمد مرتضى المراغى رئيسا للوزراء والذى كان قد غادر مصر فى يونيو واستقر فى بيروت.. ويدعى الكتاب أن آمري نجح فى جذب عدد من العناصر المصرية وراء خطة المخابرات البريطانية للإطاحة بعبد الناصر واغتياله ومن هؤلاء ضابط مخابرات مصرى يدعى عصام الدين محمود خليل وكان نائب رئيس المخابرات الجوية.. وقد تم الالتقاء به أثناء زيارة قام بها إلى روما من قبل محمد حسين خيرى حفيد السلطان حسين كامل الذى حكم مصر فى الفترة من 1914 الى 1917، وقد وافق خليل على الانضمام للخطة البريطانية وسافر بعد أسابيع فعلا إلى بيروت.. ويقول الكتاب إن خيري حفيد السلطان حسين كان يعمل نائب رئيس المخابرات الحربية قبل ثورة يوليو وبعد الثورة تم عزله وإحالته للاستيداع فسافر للخارج حانقا على عبد الناصر ونظامه.. طوال هذه الفترة لم يكن لدى المصريين علم بما يفعله خليل وكان التخطيط أن تقوم المخابرات البريطانية بتقديم بعض المعلومات له فى بيروت عن إسرائيل لتقديمها للقيادة فى مصر مبررا بها سفره الدائم إلى بيروت.
كان المطلوب من خليل أن يعمل على تكوين خلية سرية من ضباط الجيش للعمل ضد عبد الناصر وكانت شروط خليل أن يكون هو القناة الوحيدة بين البريطانيين والخلية وأن يحصل على كميات هائلة من المال لتغطية مصاريفه وخدماته.. ثم قامت المخابرات البريطانية بعد ذلك باصطحاب مرتضى المراغى وترتيب مقابلة له مع وزير الخارجية البريطانى سلوين لويد لزيادة طمأنته من أن هذه الخطة برعاية الحكومة البريطانية.. كان هدف المخابرات ليس فقط الإطاحة بعبد الناصر على يد الخلية العسكرية ولكن أن تقوم هذه الخلية بقتل عبدالناصر لأن ذلك هدف أساسى لأنتونى إيدن إلا أن هذه الخطة انضمت للخطط الفاشلة السابقة عندما تأكد للمخابرات والخارجية البريطانية أنها لن تؤدى إلى شيء لأنه ببساطة - كما يقول الكتاب - كان عبدالناصر يتمتع بشعبية جارفة داخل الجيش وبين شعبه.
ولم يتوقف الفشل عند هذا الحد.. ففى آخر أغسطس 1956 قامت المخابرات المصرية باقتحام مكتب وكالة الأنباء العربية التى كانت واجهة للمخابرات البريطانية، وفى مؤتمر صحفى فى 27 أغسطس أعلن عن القبض على خلية تجسس بريطانية فى مصر يقودها جيمس سوينبرن وهو مدرس إنجليزى قضى فى مصر 25 عاما ثم أصبح مديرا للمكتب وقد اعترف بخلية التجسس، كما تم القبض على تشارلز بتسويك أحد عمال شركة ماركونى وجيمس زارب وهو مالطى يمتلك مصنع بورسلين وكانا يشكلان جزءا من خلية التجسس كما تم القبض على المدير الحقيقى للمكتب وهو توم ليتل الذى كان مراسلا لمجلة الإيكونوميست وجريدة التايمز ولكنه كان فى نفس الوقت عميلا رئيسيا لجهاز المخابرات البريطانية.. الغريب - كما يقول الكتاب - أن المخابرات المصرية كانت تعرف بالنشاط التجسسى لتوم ليتل منذ البداية ولكنها تركته حرا وتعمدت تغذيته بمعلومات خاطئة ومضللة عن الرئيس عبد الناصر، وقد كشفت عمليات القبض على الخلية - وحسب اعترافات أعضائها التى تمت فى سجن القناطر - أنها أوصلت معلومات للمخابرات البريطانية عن تطورات سياسية سرية كانت تجرى فى مصر وعن بعثات الشراء التى توجهت لبعض دول الكتلة الشرقية لشراء أسلحة وعن بعض المعدات العسكرية السوفيتية التى كان قد تم البدء فى توريدها بموجب الصفقة التشيكية ومنها تركيب محطة رادار جديدة خارج القاهرة ومعدات مضادة للدبابات لزوم الحرس الوطنى علاوة على معلومات عن أماكن تمركز القوات المسلحة المصرية، أكثر من هذا قامت المخابرات المصرية باعتقال عملاء مصريين عملوا لصالح هذه الشبكة بلغ عددهم 11 عميلا منهم سيد أمين محمود وابنه الضابط بحرى أحمد أمين محمود الذى عمل لفترة ملحقا بحريا للرئيس محمد نجيب.. وقد قام سيد وابنه أحمد بتقديم معلومات للبريطانيين عن التحصينات العسكرية البحرية لميناء الإسكندرية ومعلومات عن السفينة عكا والسفينة سودان مفادها أن الرئيس عبد الناصر كان ينوى ملء هاتين السفينتين بالمتفجرات وسد القناة بهما فى حالة أى غزو بريطانى وقد تبين أن كل هذه المعلومات كاذبة، كما تم القبض على المدعو يوسف مجلى حنا الذى قام بتقديم معلومات عن قيام خبراء من ألمانيا الشرقية بمساعدة مصر فى برنامج تصنيع صواريخ.
وقد وردت إشارات فى القضية أن الرئيس محمد نجيب قدم بعض المعلومات ولكن تم حذفها بطلب من عبدالناصر، ويقول الكتاب إنه تمت مفاتحة نجيب فى تولى الحكم بعد القيام بانقلاب على نمط الانقلاب ضد مصدق فى إيران والذى قامت به المخابرات البريطانية.
وقبل العدوان الثلاثى فى 29 أكتوبر 1956 قامت بريطانيا بمحاولة أخيرة لقتل عبدالناصر.. وتلخصت العملية فى قيام المخابرات البريطانية بتجنيد جيمس موسمان مراسل البى بى سي والديلى تليجراف فى القاهرة وكانت مهمته تجنيد طبيب عبدالناصر لكى يضع له السم فى القهوة أو يقدم شيكولاتة سامة له من النوع الشعبى فى ذلك الوقت كروبجي مقابل رشوة 20.000 جنيه استرلينى، ويحكى الكتاب التفاصيل الكاملة لهذه العملية التى انتهت بالفشل، كما يحكى بالتفصيل محاولة اخرى من جانب المخابرات البريطانية لضخ غاز أعصاب سام فى أحد أجهزة التكييف الخاصة بأحد مقرات عبدالناصر إلا أنه تم العدول عن هذه الخطة من قبل إيدن شخصيا لأنه كان قد استقر عزمه على أن الأسلوب الوحيد لقتل عبدالناصر هو من خلال العدوان الثلاثى، ثم يتحدث الكتاب بتفاصيل جديدة بالغة الإثارة عن دور المخابرات البريطانية أثناء العدوان الثلاثى وتنسيقها مع المخابرات الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية كما يكشف الكتاب عن دور المخابرات البريطانية فى مساعدة سعيد رمضان لترتيب انقلاب ضد الرئيس عبدالناصر فى 1965 وهى العملية التى انتهت بالقبض على أغلب عناصرها .