البرنامج النووي المصري ..تاريخ من الأزمات
أثيرت في نهاية عام 2004 ضجة حول وجود برنامج نووي مصري سري لإنتاج
الأسلحة النووية، فقد زعمت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن علماء مصريين
أجروا تجارب نووية داخل مصر وخارجها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وقالت
الصحيفة إن مفتشي الوكالة نقلوا مؤخراً عينات من مواقع مصرية لتحليلها
معملياً، لتحديد توقيت إجراء هذه التجارب وطبيعة المواد المستخدمة فيها،و
زعمت الصحيفة أن جانباً من التجارب المصرية تم في إطار اتفاقات للتبادل
العلمي، وأن تجارب منها تمت في فرنسا وأخرى في تركيا
كما ذكرت وكالة أنباء أسوشيتدبرس أن مصر حاولت إنتاج عدة مركبات من
اليورانيوم دون إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بذلك، واشتملت مواداً
تسبق إنتاج مادة يورانيوم هكسافلورايد (سادس فلوريد اليورانيوم) القابلة
للتخصيب وإنتاج يورانيوم للأغراض العسكرية
وفي معرض ردود الفعل على هذه الضجة، أكّدت الخارجية المصرية تعاون مصر مع
الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واحترامها لالتزاماتها بشكل مستمر ، و قال
إن وضع مصر بشأن برنامجها النووي سليم تماماً، وإن الوكالة ستصل قريباً
إلى اللحظة التي ستقول فيها ذلك، حيث تم إبلاغ الوكالة بأن أحد الأنشطة
النووية متوقف منذ 25 عاماً
فما هي حقيقة البرنامج النووي المصري؟ وكيف بدأ ؟ وماهي مراحل التطور
التاريخي التي مر بها وقدراته، وتقويمه، ولماذا تراجع هذا البرنامج؟
تعال معنا لتعرف الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها الكثير و الكثير
التطوّر التاريخي:
حين أطلق الرئيس الأمريكي أيزنهاور مبادرة -الذرة من أجل السلام -عام 1953
لاستغلال الإمكانات الهائلة الكامنة في الذرة من أجل توفير الطاقة والمياه
اللازمتين لحل مشكلات التنمية في العالم، كانت مصر من أوائل دول العالم
التي استجابت لهذه المبادرة لضمان التنمية المستديمة فيها
ففي عام 1955 تم تشكيل لجنة الطاقة الذرية برئاسة الرئيس جمال عبدالناصر،
لوضع الملامح الأساسية للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية في مصر، وفي
يوليو من العام التالي تم توقيع عقد الاتفاق الثنائي بين مصر والاتحاد
السوفيتي بشأن التعاون في شؤون الطاقة الذرية وتطبيقاتها في النواحي
السلمية، وفي سبتمبر من عام 1956وقّعت مصر عقد المفاعل النووي البحثي
الأول بقدرة 2 ميجاوات مع الاتحاد السوفيتي، وتقرر في العام التالي إنشاء
مؤسسة الطاقة الذرية
تلا ذلك اشتراك مصر عام 1957 عضواً مؤسساً في الوكالة الدولية للطاقة
الذرية، وبفضل ثقة العالم في النوايا السلمية للبرنامج النووي المصري حصلت
مصر على معمل للنظائر المشعة من الدنمارك في العام نفسه، وبدأ تشغيل
المفاعل النووي البحثي الأول عام 1961، و تم توقيع اتفاق تعاون نووي مع
المعهد النرويجي للطاقة الذرية، وفي عام 1964 طرحت مصر مناقصة لتوريد محطة
نووية لتوليد الكهرباء قدرتها 150 ميجاوات (أي 150 ألف كيلووات)وتحلية
المياه بمعدل 20 ألف متر مكعب في اليوم، وبلغت التكلفة المقدرة 30 مليون
دولار، إلا أن حرب يونيو 1967 أوقفت هذه الجهود
وبعد حرب 1973م طرحت مصر عام 1974مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد
الكهرباء قدرتها 600 ميجاوات، وتم توقيع عقد لإخصاب اليورانيوم مع
الولايات المتحدة، وشهد عام 1976إصدار خطاب نوايا لشركة وستنجهاوس، وكذلك
توقيع اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة، إلا أن تلك الجهود توقفت
في نهاية السبعينيات، بسبب رغبة الولايات المتحدة لإضافة شروط جديدة على
اتفاقية التعاون النووي مع مصر نتيجة لتعديل قوانين تصدير التقنية النووية
من الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بحيث
تشمل هذه الشروط التفتيش الأمريكي على المنشآت النووية المصرية كشرط
لتنفيذ المشروع
وقد اعتبرت الحكومة المصرية هذا الأمر ماساً بالسيادة ورفضته، وأدى ذلك
إلى توقّف المشروع، وانضمت مصر عام 1981 لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة
النووية ووقعت عدة اتفاقيات للتعاون النووي مع كل من: فرنسا، والولايات
المتحدة، وألمانيا الغربية، وانجلترا، والسويد، وقررت الحكومة تخصيص جزء
من عائدات النفط لتغطية إنشاء أول محطة نووية (محطة الضبعة بالساحل
الشمالي)، كما وقعت في العام التالي 1982اتفاقية للتعاون النووي مع كندا،
وأخرى لنقل التقنية النووية مع استراليا
وفي عام 1983، طرحت مصر مواصفات مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء
قدرتها 900 ميجاوات، إلا أنها توقفت عام 1986، وكان التفسير الرسمي لذلك
هو المراجعة للتأكد من أمان المفاعلات بعد حادث محطة تشيرنوبل، رغم أن
المحطة التي كانت ستنشأ في مصر من نوع يختلف تماماً عن النوع المستخدم
تشيرنوبل، مما يوحي بأن التبرير الرسمي لإيقاف البرنامج كان مجرد تبرير
لحفظ ماء الوجه، فقد ذكر الدكتور علي الصعيدي رئيس هيئة المحطات النووية
المصرية أن بنك التصدير والاستيراد الأمريكي أوصى بعدم تمويل المحطة
النووية المصرية، كما امتنع صندوق النقد والبنك الدولي عن مساندة المشروع،
ثم جاءت حادثة تشيرنوبل والحملات الدعائية الغربية لتخويف دول العالم
الثالث، ومن ثم لتجمّد المشروع النووي المصري
وتميزت الفترة - منذ نهاية الثمانينيات حتى الوقت الراهن - بمحاولة كسب
التأييد السياسي لدفع البرنامج النووي واستمرار استكمال الكوادر المطلوبة
للبرنامج، علاوة على استكمال الدراسات الفنية، فتم إنشاء محاكي المحطة
النووية بالموقع المقترح لهيئة الطاقة النووية بالضبعة، وحدث تعاون بين
الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهيئة المحطات النووية المصرية، لدراسة
جدوى إقامة المحطات النووية ذات المفاعلات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتم
الانتهاء من الدراسة عام 1994
وفي عام 1992 تم توقيع عقد إنشاء مفاعل مصر البحثي الثاني مع الأرجنتين،
ثم توالت في السنوات 95، 96، 1998 بعض المشروعات المتعلقة باليورانيوم
ومعادن الرمال السوداء وصولاً إلى افتتاح مصنع وقود المفاعل البحثي الثاني
وفي خطوة مثيرة بعد تردد أكثر من 16 عاماً أعلنت مصر في مايو 2002 عن
إنشاء محطة للطاقة النووية السلمية في غضون 8 أعوام بالتعاون مع كوريا
الجنوبية، والصين، وهو ما وصفه خبراء مصريون في الطاقة بنقلة نوعية هامة
على طريق البرنامج المصري، خصوصاً وأن مصر كما يقولون لديها "انفجار" في
الكوادر العلمية النووية بدون عمل تقريباً، كما أن المفاعلين الموجودين
حالياً يكفيان لتدريب العلماء تجريبياً وليس تطبيقياً، وأرجع بعضهم إنشاء
المحطة الجديدة إلى استيعاب الكوادر الفنية المصرية المتزايدة في مجال
الطاقة النووية، وربما أيضاً لعدم الاعتماد فقط على الغاز الطبيعي في مجال
الطاقة
وترجع أهمية الإعلان عن إنشاء هذه المحطة إلى رفض مصر على مدى 16 عاماً
فكرة بناء مفاعلات نووية لأسباب مختلفة، وكان الرئيس مبارك قد كرّر أكثر
من مرة في تصريحات رسمية رفضه بناء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة بسبب
مخاطرها، إذ قال في طريق عودته في 29 أبريل 2001 من جولة شملت ألمانيا
ورومانيا وروسيا: إنه لا تفكير في الوقت الحالي في إقامة محطات نووية
لتوليد الكهرباء في مصر، لأنه تتوافر لدينا كميات كبيرة من الطاقة،
واحتياطات الغاز الطبيعي المبلشرة في تزايد من عام إلى آخر، وفي ضوء عدم
ترحيب الرأي العام المصري بإقامة مثل هذه المحطات.