تدمير الأبنية الحاضرة والتمهيد للإستبداد
أبدأ عرض اليوم بإعادة ما قد سبق أن
قلته من قبل. فتفضلوا وتذكروا أن الحكومات والجماهير لا تتأثر إلا
بالنتائج السياسية الملموسة، فكيف يستطيعون الولوج الى بواطن الأمور،
بينما يعتبر ممثلوهم الطريقة المذكورة آنفاً هي الأمثل؟ من المهم أن
تعرفوا هذه التفاصيل من سياستنا، فمن صالحنا أن نتحدث عن فصل السلطات
وحرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية الاعتقاد، وحق إنشاء الجمعيات
والمساواة أمام القانون، وحرمة الملكية والمسكن والضرائب غير المباشرة
والقوانين ذات المفعول الرجعي. ولكن يجب ألا نبحث هذه الأمور مباشرة
وعلناً أمام الشعب بل حينما يصبح من اللازم لنا أن نتحدث عن مثل هذه
الأمور يجب ألاّ نتعمق في بحثها، بل أن نشير اليها إشارة من غير أن ندخل
في التفصيلات وذلك بأن نؤكد على أن مبادئ المساواة الحديثة مقبولة من
الجميع، وأهمية هذا الكتمان تكمن في أن المبدأ الذي لا يكون قد تحدد بوضوح
من قبلنا يظل مجهولاً، بينما يصبح المبدأ الذي نبحثه بعمق من القوة وكأنه
أمر قائم.
إن الشعب يبدي ميلاً الى العبقرية
السياسية وإعجاباً بها. وتكون ردة فعله أمام أعمال العنف كما يلي: نعم، إن
هذا العمل دناءة ولا شك، ولكنه ضعيف. أو يقول: إنه عمل قبيح ولكنه تم بحذق
وبصورة لطيفة وبدهاء.
إننا ننوي أن نشرك معنا كل الشعوب في
بناء أسس البناء الجديد الذي صممناه، ولذا علينا، قبل كل شيء، أن نتمكن من
روح الجرأة والإقدام والقوة، التي تمكننا، بواسطة عملائنا، من التغلب على
كل العقبات التي تعترض سبيلنا.
وبعد أن ننجز انقلابنا السياسي سوف
نقول للأمم: إن كل شيء كان سيئاً وإنكم كلكم قد قاسيتم وسنزيل أسباب
آلامكم، أي القوميات والحدود والنقد الدولي، وإن لكم مطلق الحرية بأن
تستنكروا عملنا، ولكن هل يكون حكماً عادلاً فيما لو فعلتم ذلك قبل أن
تعطونا الإمكانات لنريكم ما نستطيع أن نفعله من أجلكم؟ وحينذاك تشيد
الشعوب بالإجماع بذكرنا معبِّرة عن سرورها وأفراحها، وإن نظام التصويت
الذي استعملناه أداة للسيطرة والذي عودنا عليه حتى أحقر الناس، بتنظيم
اجتماعات واتفاقات مسبقة الإعداد، سيقدم لنا آخر خدمة وسيعمل لآخر مرة
بإبداء رغبة الإنسانية الإجماعية بالتعرف إلينا جيداً قبل أن يحكم علينا.
فعلينا، إذن، أن نفرض التصويت
الإجباري، بلا تمييز بين الطبقات، لكي نقيم حكم الأكثرية الاستبدادي،
لأننا لا نستطيع أن نحصل على ذلك من الطبقات المثقفة وحدها، وبتعويدنا كل
فرد على أن يعمل بمحض إرادته نفكك أسر الكوييم ونضعضع أهميتها الثقافية
ولن نسمح بتنمية الفردية لأن العامة بدافعٍ منا ستقف حائلاً في وجوههم
وتمنعهم من إسماع أصواتهم. لقد تعوّدت العامة ألا تسمع إلا لنا، نحن الذين
نمدهم بالمال لكي يطيعونا ويخضعوا لنا، وسوف نخلق قوة تكون من العماء الى
حد أنها لا تستطيع أن تتحرك إلا بأمر عملائنا الذين نقيمهم ليحلوا محل
رؤسائهم، وسوف تخضع الجماهير لهذا النظام لأنها تعلم أن الربح والإكراميات
وغيرها من الامتيازات هي بيد هؤلاء الرؤساء الجدد.
ومخطط الحكومة يجب أن ينفذ كما قرره
دماغ واحد، وإلا فإنه يكون غير قابل للتطبيق إذا قررت مواده المختلفة عقول
كثيرة، ولذا يجب أن نعرف، نحن وحدنا، مخطط العمل، ولكن يجب ألا نناقشه لكي
لا نفسد صيغته أو يفقد الترابط القائم بين أجزائه. فإذا عرض هذا المخطط
باستمرار على التصويت فإنه يفسد ويُطبع بطابع خاطئ بالنسبة الى أولئك
الذين لم يسبروا غوره ويجهلون الروابط بين أجزائه. فمخططاتنا، إذن، يجب أن
تُبنى على أسس قوية وواضحة، وبالتالي فإن أعمال رئيسنا يجب ألا توضع تحت
رحمة العامة ولا تحت رحمة فريق محدود. إن هذه المخططات لن تحل فوراً محل
المؤسسات القائمة بل تعدل فقط تنظيمها أي نظام تطورها الذي سيكون موجهاً
وفاقاً للمشاريع التي نعدها نحن.
إن المؤسسات ذاتها موجودة الى حد ما في
مختلف البلدان بأسماء مختلفة: هيئة تمثيلية، وزارات، مجلس شيوخ، مجلس
دولة، هيئة تشريعية وتنفيذية. إني لن أشرح لكم آلية هذه المؤسسات، فأنتم
تعرفونها جيداً، إنما ألفت انتباهكم فقط الى نقطة واحدة، وهي أن كل مؤسسة
من هذه المؤسسات تقوم بعمل حكومي مهم، واسمعوا جيداً كلمة (مهم)، فالأهمية
لا تعود الى المؤسسة بل الى عملها. فليست المؤسسات، إذن، هي المهمة بل ما
تقوم به من أعمال هو المهم. وتقتسم هذه المؤسسات، فيما بينها، كل أعمال
الحكومة، أي السلطة الإدارية والتشريعية والتنفيذية، وقد غدت هذه الأعمال
في جهاز الدولة شبيهة بجهاز الجسم الإنساني، فإذا فسد جزء من الآلة
الحكومية تقع الدولة كلها مريضة تماماً كما هي حال الجسم، ثم تموت.
حينما زَرقنا سمّ "الليبرالية" في جهاز
الدولة تبدل نظامها السياسي كله وأصيبت الدولة بمرض قتّال هو تحلل الدم،
ولم يبق إلا أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
نشأت الحكومات الدستورية من الليبرالية
التي حلّت محل الاستبداد، الذي كان سلاماً وأماناً للكوييم، لأن الدستور،
كما تعلمون، ليس إلا مدرسة للشجار والمناقشات والاختلافات والاضطرابات
العقيمة بين الأحزاب، أو بالأحرى مدرسة لإضعاف سير الدول. إن النزاعات
الانتخابية مثل المشاحنات الصحفية قد شلت حركة السلطة عن العمل، وأضعفتها،
وجعلتها كمية مهملة، مما أدى الى قلب الحكومات في كثير من البلدان فكان،
من جراء ذلك، أن جاء زمن الجمهوريات، وحلت محل الحكومات الحقيقية صورة
حكومات كاريكاتورية برئيس منتخب من قبل الشعب، أي من بين صنائعنا أو
عبيدنا. هذا هو نوع الحكم الذي فرضناه على الكوييم، أو بعبارة أصح على
شعوب الكوييم.
وسنجعل، في مستقبل قريب، من الرئيس
موظفاً مسؤولاً ثم لن نلعب بعد ذلك الدور المقبل بل سنترك هذه المسؤوليات
لتابعنا، أوليس سواء عندنا أن نرى صفوف طلاب السلطة تقل رويداً رويداً ما
دام الانقلاب الذي ينتج عن الصعاب في إيجاد الرؤساء سيؤدي أيضاً الى تفكيك
البلاد؟
ولكي نحقق مخططنا سوف نتدخل في
انتخابات رؤساء يكون ماضيهم مربوطاً بفضيحة ما ليكونوا أوفياء في تنفيذ
أوامرنا خوفاً من أن يفضح أمرهم، وأيضاً بسبب رغبة طبيعية في كل إنسان يصل
الى السلطة أن يستطيع الاحتفاظ بها ليتمتع بالامتيازات والفوائد والجاه
العائد لمقام الرئاسة. وسوف ينتخب مجلس النواب الرؤساء ويحميهم ويراقبهم،
ولكننا سنحرمه من أن يقترح قوانين أو يعدلها لأن هذا الحق سنمنحه لرئيس
مسؤول يكون دمية بين أيدينا. وبدهي أن سلطة الرئيس ستصبح هدفاً لحملات
كثيرة، ولكننا سنعطيه الوسائل التي يحمي بها نفسه، وذلك بالالتجاء الى
الشعب مباشرة قافزاً فوق رؤوس ممثليه، وبعبارة أخرى سيلتفت الى الرق
الأعمى ذاته أي الى أكثرية الشعب. وفوق ذلك سنعطي الرئيس حق إعلان حالة
الطوارئ وسنبرر هذا الامتياز بقولنا: بما أنه هو القائد الأعلى للجيش
الوطني يجب أن يستعمل هذا الحق لكي يحمي الدستور الجمهوري الجديد الذي من
واجبه حمايته، على اعتبار أنه الممثل المسؤول عن هذا الدستور. وفي هذه
الحالة يكون مفتاح الأمور بأيدينا ولا أحد غيرنا يستطيع أن يدير أمور
السلطة التشريعية.
وبموجب الدستور الجمهوري الجديد سوف
نحرم المجلس النيابي من حق استجواب الحكومة عن التدابير الحكومية بحجة عدم
فضح الأسرار السياسية، وبفضل الدستور الجديد أيضاً سنقلل من عدد الأعضاء
الممثلين الى أدنى حد، وبذلك نقلل نسبة الأهواء والاضطرابات السياسية.
فإذا ظل هذا المجلس المصغّر جامحاً فإننا سوف نلغيه بتاتاً ونعود الى
أكثرية الشعب.
إن رئيس الجمهورية هو الذي يعين كلاً
من رئيس المجلس النيابي ونائبه، وكذلك رئيس مجلس الشيوخ ونائبه. وتدوم
الجلسات البرلمانية بضعة شهور في السنة، كما يكون لرئيس الجمهورية، بوصفه
رئيس السلطة التنفيذية، الحق بدعوة البرلمان الى الاجتماع وبحلِّه، وفي
حالة حلِّه يحق له أن يؤجل انتخابات البرلمان الجديد. ولكن لكي لا يكون
الرئيس مسؤولاً عن كل هذه الأعمال غير القانونية، قبل أن تبلغ مخططاتنا
مبلغ الكمال، فسوف نوحي الى الوزراء وغيرهم من الموظفين الإداريين، الذين
يحيطون بالرئيس، بعدم تنفيذ أوامره والعمل بآرائهم، فإذا حدث نزاع كانوا
هم المسؤولين وليس هو. وسوف نوصي بأن يعهد بتنفيذ هذا المخطط الى مجلس
الشيوخ أو مجلس الدولة أو مجلس الوزراء، وليس الى أشخاص منفردين. وسوف
يفسر الرئيس، بتأثير منا، كل القوانين الحاضرة تفسيراً مبهماً يمكن فهمها
على أشكال، وفوق ذلك فإنه يلغيها حينما نطلب اليه ذلك. ويكون من حقه أيضاً
أن يقترح قوانين مؤقتة وتعديلات على سير الدستور بحجة الحفاظ على رخاء
البلاد وسعادتها.
وهذه التدابير ستسمح لنا بالقضاء،
رويداً رويداً، على كل ما هو خلاف حقوقنا. لقد اضطررنا أن ندخل في كيان
الدول تدابير انتقالية لإلغائها تدريجياً من كل الدساتير بانتظار الوقت
الذي يسمح لنا بجمع كل الحكومات تحت سلطتنا المطلقة.
قد يمكن أيضاً أن يُعترف بحاكمنا
المطلق قبل إلغاء الدستور ويتم ذلك حينما يقوم الشعب الحانق، بسبب الفوضى
وعدم كفاءة حكامه، ويصرخ، مدفوعاً بنا، أقيلوهم وامنحونا حاكماً عالمياً
يوحدنا ويلغي أسباب الفرقة، ويلغي الحدود الدولية والدين وديون الدولة،
ويعيد السلام والاطمئنان اللذين لا نستطيع الحصول عليهما عن طريق حكامنا
ونوابنا. إنكم تعلمون جيداً أنه لا بدّ لنا، لتحقيق هذه الوثبة الشعبية
العالمية، من أن نؤزِّم باستمرار العلاقات بين الشعوب والحكومات، وأن ننهك
كل العالم بالاختلافات والعداوات والحروب والأحقاد، وحتى بالإعدامات
وبالجوع وبنشر الأمراض، حتى لا يبقى أمام الكوييم إلا اختيار واحد وهو طلب
معونتنا المالية ونشر سلطتنا عليهم.
هذا، وإننا إذا تركنا العالم في راحة فإن الساعة التي ننتظرها لن تأتي أبداً.