أصل ونشأة مشكلة جنوب السودان ( حقائق خطيرة ) تبحث هذه المقالة عن
الدور البريطاني في تفجر مشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان، وتنقب في
وثائق تلك الفترة عن الأساليب التي اتبعتها لندن للعمل على فصل الجنوب عن
الشمال، ولا سيما ما يتعلق منها بدور البعثات التنصيرية وسياسة إضعاف
الثقافة العربية وإحلال الموظفين الجنوبيين محل الشماليين ومنع التجار
الشماليين من الوصول إلى الجنوب، وتأثير كل ذلك على استمرارية المشكلة حتى
يومنا هذا ركائذ السياسة البريطانية”بنت بريطانيا سياستها في الجنوب السوداني على ركيزتين:- تقليل الوجود الشمالي في الجنوب- إضعاف الثقافة العربية والعمل على منع انتشار الإسلام هناك”بعد قيام الحكم الثنائي (المصري-البريطاني) في السودان عام
1899 قامت سياسة حكومة الخرطوم التي كان يسيطر عليها الجانب الإنجليزي،
تجاه جنوب السودان على ركيزتين:
إضعاف
الوجود الشمالي في الجنوب تحت ذريعة أن هذا الوجود يمكن أن يتسبب في
اضطرابات، إذ إن أبناء المديريات الجنوبية لا ينظرون إلى الشمالي إلا من
خلال الذكريات القديمة حين كان يعمد بعض أبناء الشمال إلى استرقاق
الجنوبيين، مما دعا الأخيرين إلى توصيف الأولين "بالجلابة".
إضعاف الثقافة العربية،سواء بإحلال الإنجليزية محل العربية كلغة عامة أو بتشجيع انتشار اللهجات المحلية وتحويلها إلى لغات مكتوبة. ومنع
انتشار الإسلام هو الأمر الذي تكفلت به الإرساليات التنصيرية التي أطلق
لها حرية العمل الديني في الجنوب على عكس الشمال، حيث قيدت هذه الحرية
بميادين التعليم والخدمات الصحية.
وتأسيسا على هاتين الركيزتين يمكن أن نميز بين ثلاث مراحل بين عامي 1899 و1956 في السياسة البريطانية تجاه جنوب السودان.
المرحلة الاولي : التمهيد للارض 1899-1919”
عملت بريطانيا على منع انتشار الإسلام في جنوب السودان عن
طريق إطلاق حرية العمل الديني للإرساليات التنصيرية في حين خصصت هذه
الحرية في الشمال بميادين التعليم والخدمات الصحية” وأهمها عام 1910 الذي مثل نقطة البدء في الاتجاه نحو تطبيق السياسة البريطانية لفصل جنوب السودان عن شماله لسببين:
إقامة
إدارة فعالة في تلك المناطق الشاسعة (أعالي النيل، بحر الغزال، منجالا) -
كان قد تم إنجازه خلال السنوات العشر السابقة. وقد استعانت السلطات
الإمبريالية بوسائل متعددة لتحقيق ذلك مثل: تخويل زعماء القبائل بعض الصلاحيات الإدارية، الاستعانة بالإرساليات التنصيرية لتنفيذ ما أسموه "تمدين البشر".
أنه
قد تم خلال العام المذكور انتقال حاجز اللادو (Lado Enclave) من إدارة
حكومة الكونغو إلى إدارة حكومة السودان البريطانية، ونشأ خلاف بين الإبقاء
على يوم الأحد كإجازة أسبوعية. إلا أن السلطات المحلية في المديريات
الجنوبية خشيت رد فعل الشماليين المسلمين المقيمين في الجنوب على اتخاذ
مثل هذه الخطوة.
التخلص من الوجود العربيكان الوجود العربي الإسلامي في المديريات الجنوبية يتمثل في ثلاث مجموعات:
قوات الجيش المصري المعسكرة في الجنوب.
الموظفون المصريون والسودانيون ممن كان يحتاج إليهم دولاب الإدارة في الجنوب.
التجار الشماليون الذين كان يعمل بعضهم لحسابه الخاص والبعض الآخر لحساب بيوت تجارية في الشمال.
وللتخلص
من تهديدات المجموعة الأولى أوصى حاكم منجالا في مارس/ آذار 1911 باتخاذ
خطوات لتجنيد السودانيين الجنوبيين وتشكيل ما يعرف "بالفرقة الاستوائية".
وانتهى الأمر بخروج آخر جندي من القوات السودانية الشمالية من الجنوب يوم
السابع من ديسمبر/ كانون الأول 1917. ولم يمض أكثر من شهر حتى تم الاعتراف
بيوم الأحد إجازة أسبوعية.
كما
سعت الحكومة الإنجليزية في السودان إلى استبدال المسلمين الشماليين، وقدمت
كل التيسيرات لإلحاق الجنوبيين بالمدارس الحكومية ولكن بدون جدوى، الأمر
الذي دفعهم في نهاية الأمر لأن يتركوا تلك المهمة للإرساليات التنصيرية.
كما فرضت اللغة الإنجليزية في التعليم.كما تم التخلص من التجار
الشماليين. وقد أكد حاكم منجالا "أوين باشا" في كتاب له إلى الحاكم العام
يوم 10 يناير/ كانون الثاني 1918 أنه قد نجح في إبعاد من أسماهم "كافة
المتعصبين من الجنود أو التجار" وأعرب لسلطات الخرطوم عن رغبته في ألا
يعودوا أبدا إلى الجنوبمرحلة بناء الاسوار 1919-1949"لا يجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها ويبقى
فيها إلا إذا كان حاملا رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير
المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها"الإعلان البريطاني بإغلاق مناطق جنوبية عام 1922” فرضت ثورة 1919 في مصر
تغيرات هامة على السياسة البريطانية في السودان، خاصة في الجنوب الذي كان
موضع اهتمام لجنة ملنر Milner التي جاءت للتحقيق في أسباب الثورة، وخصت
جنوب السودان بثلاث مذكرات:
الأولى
بتاريخ 15 فبراير/ شباط 1920 بعنوان "اللامركزية في السودان بهدف فصل
الزنوج عن الأراضي العربية" بإقامة خط يفصل الزنوج عن الأراضي العربية
يمتد من الشرق إلى الغرب ويسير مع أنهار بارو والسوباط والنيل الأبيض وبحر
الجبل.
ورأت
المذكرة الثانية التي أعدتها حكومة السودان أنه فيما يخص الزنوج، فهي على
استعداد لقبول اندماجهم في حكومات أملاك أفريقية أخرى، مثل أوغندا وشرق
أفريقيا "وإقامة اتحاد لوسط أفريقيا تحت الإدارة البريطانية يضم بالطبع
زنوج السودان".
آخر
هذه المذكرات وأكثرها صراحة كتبت يوم 14 مارس/ آذار 1920، وجاء فيها بالنص
"إن سياسة الحكومة هي الحفاظ بقدر الإمكان على جنوب السودان بعيدا عن
التأثير الإسلامي، ففيه يتم توظيف المأمورين السود، وعندما تقتضي الضرورة
إرسال كتبة من المصريين يختارون من الأقباط، وأصبح يوم الأحد هو يوم
العطلة بدلا من يوم الجمعة، وأخيرا تشجيع المشروعات التنصيرية".
يصبح
مفهوما على ضوء هذه المذكرات ما جاء في تقرير اللورد ملنر من أن "الأكثرية
الكبرى من أهل مصر متجانسة، أما السودان فمنقسم بين العرب والسود، وفي كل
منهما أجناس وقبائل يختلف بعضها عن بعض كثيرا. أما عرب السودان فيتكلمون
باللغة التي يتكلم بها أهل مصر وتجمع بينهم جامعة الدين".
بعد شهور من إصدار
الحكومة البريطانية لتصريح 28 فبراير/ شباط 1922 الذي اعترفت فيه باستقلال
مصر، وفي سبتمبر/ أيلول من ذات العام على وجه التحديد صدر أمر "الجهات
المغلقة" Closed Districts الذي تضمن جدولا بجهات معينة تشمل مديرية بحر
الغزال ومديرية منجالا والسوباط ومركز بيبور ومديرية أعالي النيل غرب
وجنوب خط يمتد من شركيلة إلى ملاكال ومنها شرقا إلى حدود المديرية، تقرر
أنه "لا يجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها ويبقى فيها إلا إذا
كان حاملا رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص
من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها".”"القبول باستمرار اللغة العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام مما يضيف للشمال المتعصب منطقة لا تقل عنه في المساحة" السكرتير الإداري البريطاني المستر ماكمايكل
” توصيات ومذكرات فصل الجنوبوفي منتصف عام 1929 قام المندوب السامي البريطاني في
القاهرة اللورد لويد بجولة في السودان وعاد بعدها ليكتب مذكرة سرية عما
أسماه "مشكلة السياسة التعليمية في جنوب السودان"، بدأها بالقول إن هناك
مشكلة لغة في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 4 و12 شمالا (الجنوب)، وهي
المنطقة التي يعيش فيها السودانيون الوثنيون. أما طبيعة هذه المشكلة فهي
"هل ستبقى اللغة العربية لغة تفاهم عام؟".أجاب على تساؤله من خلال
عرض مذكرتين كتب أولاهما المستر ماكمايكل السكرتير الإداري Civil
Secretary، ووضع الثانية المستر ماثيو سكرتير إدارة المعارف.المذكرة الأولى ذكرت أن
القبول باستمرار العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام مما يضيف
للشمال المتعصب –على حد قوله- منطقة لا تقل عنه في المساحة. أما المذكرة
الثانية فقد أشارت إلى أن اللغة العربية المنتشرة في الجنوب أقرب إلى
الرطانة الغامضة، واقترحت تشجيع الموظفين لدراسة اللهجات المحلية، وحيث لا
يمكن استخدام هذه اللهجات تحل الإنجليزية محل العربية.وعلى ضوء هاتين المذكرتين وضع اللورد لويد توصياته على النحو التالي:
تشجيع الموظفين في المديريات الجنوبية على تعلم اللهجات المحلية، ونشر بعض المجموعات اللغوية.
محاربة اللغة العربية وتشجيع استخدام اللغة الإنجليزية بدلا منها.
بذل
الجهود لمواجهة الاحتياجات التعليمية المتزايدة في المديريات الجنوبية
بتأسيس مدرسة أو مدرستين حكوميتين في مناطق بعينها، ويمكن تحديد هذه
الاحتياجات بتدريب عدد مناسب من الصبيان للخدمة في الإدارات الحكومية.
ويسمح في نفس الوقت لمدارس الإرساليات القائمة بالاستمرار في عملها.
”
"إنجلترا كدولة مسيحية لا يمكنها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار الإسلام بين شعب يزيد على ثلاثة ملايين وثني" وزير الخارجية البريطاني مستر هندرسون” أقرت حكومة لندن هذه المذكرة مع اختلافات بسيطة في الوسيلة
لا الهدف، الأمر الذي بينته مذكرة لوزير الخارجية المستر هندرسون الذي رأى
الموافقة على مقترحات لويد لسببين:
الأول ديني، لأن إنجلترا "كدولة مسيحية لا يمكنها أن تشارك في سياسة تشجيع انتشار الإسلام بين شعب يزيد على ثلاثة ملايين وثني".
والثاني سياسي، "فبالنظر إلى انتشار خطورة التعصب الديني بين شعوب انتشر فيها الإسلام مؤخرا قد يترتب عليه نتائج مدمرة".
أما
الاختلاف في الوسيلة فقد رأى هندرسون الاقتصار على الجمعيات التنصيرية مع
زيادة المعونة الحكومية لها "ومازال المنصرون حتى يومنا هذا يشكلون
المؤسسة التعليمية الوحيدة في الجنوب. وأنه في ظل الظروف الحالية فأمام
العمل التنصيري في السودان مستقبل غير محدود، ويستطيع المنصرون من خلال
تقديم الخدمات الطبية كسب ثقة الأهالي ونشر شكل مبسط من القيم المسيحية
والتخلص من الخزعبلات البدائية التي تسيطر على معتقداتهم".
على ضوء هذه الأفكار وفي يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 1929 وضع الحاكم العام للسودان السير مافي خطة لتنفيذها ذات أربعة جوانب:
تشغيل الموظفين من (غير المسلمين) في الإدارة بهيئاتها الكتابية والفنية.
الإصرار على تعليم الموظفين البريطانيين معتقدات وعادات ولغات القبائل التي يقومون بإدارة مناطقها.
التحكم في هجرة التجار الشماليين.
سياسة تعليمية محددة، وهو الجانب الذي لقي عناية كبيرة على اعتبارها حجر الزاوية في سياسة "لا تعريب" جنوب السودان.
جانب
آخر من جوانب هذه السياسة بالتخلص من استخدام اللغة العربية المنتشرة في
بعض أنحاء الجنوب، التي وصفها المسؤولون في حكومة السودان بأنها "عربية
مهلهلة".
وبدأ المسؤولون في حكومة
السودان البحث عن البديل، وقد جمع بين استخدام اللهجات المحلية بعد
تطويرها على نحو يجعلها لغات مقروءة جنبا إلى جنب مع اللغة الإنجليزية،
وهو البديل الذي بدأ المسؤولون اتخاذ الخطوات اللازمة لوضعه موضع التنفيذ
من خلال وسيلتين:
أولاهما،
بعقد مؤتمر لغوي في مدينة "الرجاف" حضره موظفو حكومة السودان المسؤولون عن
التعليم، وقد تم خلاله اختيار عدد من المجموعات اللغوية المحلية ووضع
الكتب والمراجع بها.
الثانية،
باستخدام الإنجليزية محل العربية في المناطق التي لا يعرف موظفو الحكومة
الحديث باللهجة المحلية، كما هو حادث بين القوات الاستوائية وقوات
البوليس، وحيث تكون اللهجة المحلية غير قابلة للاستخدام.